رسالة إلى شيخ الأزهر من مصري مسيحي (4)

فاطمة ناعوت
سعيدةٌ بالتفاعل الراقي الرصين البعيد عن الإسفاف، الدائر في خانات التعليقات، بين الدكتور طبيب الأسنان هاني شنودة (صاحب الرسالة التي أنشرها بنافذتي هنا)، وبين قراء “اليوم السابع” الأجلاء. ولاضطراري في المقال السابق، بسبب ضيق المساحة، لاجتزاء النقطة رقم (6) بسبب طولها، ما أحدث نقصًا في المعنى، فإنني أنشرها اليوم كاملة.
***
6- يستنكر القرآنُ الكريم قول َاليهود إنهم قتلوا يقينًا السيدَ المسيحَ عليه السلام. جاء في سورة النساء على لسان اليهود: “وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ۚ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا.” النساء 157. تتمحور كتبُ التفسير حول ما أسموه: “الشبيه”. واقتبس المفسرون في هذا الكثيرَ من أقوال الصحابة والتابعين. وكيف لهؤلاء أن يعرفوا شيئًا عن حدثٍ جرى قبل ميلادهم بحوالي ستة قرون؟ إلا إذا قال أحدٌ إنما كان يوحى إليهم. وتتعدد الرواياتُ في هذا الأمر، وتتضارب.
فمنهم من قال إن عيسى قال لأصحابه: “مَن يشترى نفسَه منكم اليومَ بالجنة؟” فقال رجلٌ منهم: “أنا.” فخرج إليهم فقال: “أنا عيسى”؛ وقد صورّه الُله على صورة عيسى فأخذوه وقتلوه وصلبوه. لاحِظوا أن العرب كانوا يصلبون القتلى تشفّيًا فيهم؛ ولهذا يقول القرآن: “وما قتلوه وما صلبوه”، بينما كان الرومانُ في عهد السيد المسيح يصلبون المحكومَ عليه وهو مازال حيًّا، فيموت بعدئذ على الصليب. ولهذا قال بطرس لليهود: “وبأيدٍ أثمةٍ صلبتموه وقتلتموه.” أعمال 23:2.
وقال آخرون: “صلبوا رجلا شبّهوه بعيسى يحسبونه إياه.” وقال آخرون: “إن الله ألقى بشبه عيسى على رجل كان ينافقه. فلما أرادوا قتله قال: أنا أدلّكم عليه فدخل بيت عيسى فرُفِع عيسى وأُلقى شبهُه على المنافق؛ فدخلوا عليه وقتلوه وهم يظنون أنه عيسى.” نلاحظ أن الآية 157 من سورة “النساء”، هي الآية الوحيدة في القرآن كّله التي تتحدث عن صلب السيد المسيح. بينما يشغل هذا الموضوع أربعةَ عشرة إصحاحًا في “العهد الجديد” (الإنجيل)، بخلاف ما ورد عن واقعة الصلب في بقية “الكتاب المقدس” (الذي يضمُّ التوراة والإنجيل معًا)، بما في ذلك النبوءات بواقعة الصلب في “العهد القديم” (التوراة). لقد كتب العهدَ الجديد أناسٌ معاصرون للحدث، وقد أسهبوا في تفاصيل المحاكمات، ونقلوا أقوال السيد المسيح التي نطق بها قبل تلك الأحداث، وذكروا تنبؤه بها، وأقواله أثناء الأحداث، بل والأقوال السبعة التي نطق بها وهو مُعلقٌ على الصليب، ومنها حديثه إلى أمّه، السيدة مريم العذراء عليها السلام. فلو كان هناك شبيهٌ لكانت له جثةٌ، ولكان اليهود سارعوا بإبرازها حتى يقضوا على المسيحية في مهدها. فأين جثمانُ الشبيه؟ لقد قتل اليهودُ أنبياءَ عدّة بحسب القرآن: “وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ” البقرة 61، وكذلك: “ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بأنهمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ الله وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ.” آل عمران 112. وهذا يؤكد ما سبق وقاله السيدُ المسيح لليهود: “لِذلِكَ هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَحُكَمَاءَ وَكَتَبَةً، فَمِنْهُمْ تَقْتُلُونَ وَتَصْلِبُونَ، وَمِنْهُمْ تَجْلِدُونَ فِي مَجَامِعِكُمْ، وَتَطْرُدُونَ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى مَدِينَةٍ.” متى 23:34. ولقد توفي ّاللهُ السيدَ المسيحَ بحسب القرآن أيضًا في آيتي: المائدة 120، وآل عمران 55. والوفاةُ تأتى بمعنى “الموت” في القرآن الكريم خمسًا وعشرين مرةً، وبمعنى “النوم” مرتين فقط، الأنعام 60، والزمر 42. والقرينةُ في سورتي: “المائدة” 120، و”آل عمران” 55، لا تؤيد تفسيرَ الوفاة بمعنى: “النوم.” إذن فإن تفسير “الوفاة” بمعنى “الموت” في سورة “النساء” 157، يُبرئ القرآنَ الكريم هنا من شبهة التناقض؛ خصوصًا وأن القرآنَ نفسه يُلمح إلى قتل السيد المسيح في سورة البقرة 87: “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۖ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ.”
أما بخصوص رفع السيد المسيح إلى السماء حيًّا، فهذا يؤكد ما جاء في الإنجيل أيضًا:” “وَلَمَّا قَالَ هذَا ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ.” أعمال 9:1. إن التفسير الأكثر معقولية للآية 157 من سورة النساء، والذى يستقيم مع بقية آيات القرآن الكريم، هو أن قول اليهود بأنهم قتلوا السيد المسيح وقضوا عليه وعلى رسالته قضاءً مبرمًا، إنما هو ادعاءٌ يستنكره القرآنُ بقوله إنهم لم يقتلوه يقينًا بل شبه لهم.
وللرسالة بقية.

This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.