رؤية ثقافية فلسفية

nabilaudehتطورت الثقافة (والثقافة تعني الإبداع الروحي والإبداع المادي للمجتمع) في عصرنا على التنافر بين الفلسفة والدين ، كانعكاس للتنافر بين الإيمان والمعرفة، بين العقل والنقل، بين التفكير والتكفير، وهنا لا بد من سؤال : هل يمكن ان يحتل الدين، أي دين كان، مكان المعرفة؟ أي مكان العلوم والأبحاث ؟ هل باستطاعة الدين وكهنته من كل الأشكال ان يعطوا التفسيرات الكاملة للظواهر الطبيعية مثلا؟ او للفيزياء في مجالاتها الشاملة؟ او لأي علم آخر من العلوم الإنسانية التي لا يمكن ان نتخيل استمرار وجود الحياة والمجتمع البشري بدونها!!
نشأت الفلسفة في اليونان القديمة (بلاد الاغريق) على قاعدة تفسير الظواهر الطبيعية عقلانيا بعيدا عن ربطها بآلهة تتحكم بها. لذلك عرفت باسم الفلسفة الطبيعية.. طبعا الى جانب الاهتمام بعلم الأخلاق والقانون وشكل الدولة والتقسيم الاجتماعي وعلم المنطق .. الخ.
الفلاسفة الإغريق في وقتهم حسموا بموضوع أن عالمنا قائم على العقل وليس على النقل. على العلم وليس على الإيمان بالخوارق. الإيمان هو عملية نقل، ظاهرة تنقل بالوراثة وليس بالوعي. لا انفي أهمية الدين الأخلاقية كمحاولة لوضع قواعد تعامل اجتماعية بين البشر، لكننا نواصل منذ ستة آلاف من السنين التمسك بما أثبتت الفلسفة الإغريقية بطلانه ورفضت جعله معيارا فكريا سائدا تفسر به الوجود الإنساني والطبيعة.
في الفكر العربي نجد ان إخوان الصفا اقروا أن الفلسفة هي محبة العلوم وأوسطها معرفة حقائق الموجودات حسب طاقة الإنسانية وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم … اليوم يسود النقيض لفكرهم المتنور!!
ديكارت (ابو الفلسفة الحديثة) قال ان الفلسفة كلها بمثابة شجرة جذورها الميتافيزياء وجذوعها الفيزياء وغصونها المتفرعة عن هذا الجذع هي كل العلوم الأخرى. أي ربط الحصان أمام العربة وليس وراءها، كما يفعل الفكر الديني.
الفلسفة الماركسية التي اعتبرت بجدارة فلسفة القرن العشرين لم تكن اختراعا بل كانت دمجا بين مادية الفيلسوف الألماني المادي لودفيغ أندرياس فيورباخ ( 1804 – 1872). كان في البداية تلميذاً للفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل (١٧٧٠١٨٣١) ثم أصبح من أبرز معارضيه. ويعتبر هيغل أحد أهم الفلاسفة الألمان حيث يعتبر أهم مؤسسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. لقد اعتمدت الفلسفة الماركسية على ثلاث قوانين فلسفية رئيسية،اقتبستها من هيغل وهي: قانون نفي النفي ووحدة صراع المتناقضات وتحول الكم إلى كيف.
حظيت فلسفة هيغل بتأثير كبير وهام على الفكر الحديث، وكان كارل ماركس ابرز الفلاسفة الذين تأثروا واقتبسوا من هيغل فلسفته الجدلية قالبا اياها رأسا على عقب:إذ أن جدلية هيغل هي عبارة عن عملية أو ديناميكية تمضي وفقها جميع القضايا من الأمثل فالأمثل نحو “الفكرة المطلقة” وقد سميت “بالجدلية المثالية”. بينما منهج ماركس الفلسفي الجدلي رأى بأن جدلية الأفكار ليست سوى انعكاسا لجدلية المادة. لذلك اتخذ من مفهوم الجدلية المادية (المادة تسبق الفكرة) أساسا ومنبعا لحركة التاريخ وتطوره. اذن هيغل قدم مساهمة عظيمة حول الجدلية، عبر فكره المثالي (الفكرة المطلقة) بينما ماركس أخذ حسب تفسير الماركسيين الجوانب العقلانية لجدلية هيغل معترفا بمساهمة هيغل في تعميق مفهوم الجدلية بقوله: لقد أصبحت الجدلية بين يدي هيغل روحية لكن هذا لا يمنع بأنه أول من بين أنواع الحركة العامة للجدلية بجميع خصائصها، وقال لينين قائد ثورة اكتوبر الاشتراكية وزعيم البلاشفة في روسيا ان هيغل كان في جدليته موضوعيا أكثر منه مثاليا.
رغم ذلك لا نشهد ان التطور الفلسفي والثقافي قد ترك آثاره على تطور الفكر العربي او تطور فلسفة عربية. بعض رجال الكهنوت يدعون ان الدين هو فلسفة، لكنها ادعاءات لا تصمد أمام الواقع الفكري البسيط. وإذا اعتبرناها فلسفة فهي لا تفسر أي شيء بطريقة علمية إنما بالاعتماد على الفكر العجائبي والخرافي.
الفكر الماركسي واجه ويواجه اليوم نقدا حول العديد من القضايا التي كانت تبدو نهائية، مثلا الفكر المادي التاريخي يواجه اليوم إشكالية كبيرة، بل والبعض يعتبر المادية التاريخية كنظرية خاطئة لم تثبت نفسها.
طبعا ما اريد تأكيده في هذه العجالة الى ان مجتمعا لم يستوعب التطور الفلسفي والثقافي من عصر الإغريق مرورا بعصر التنوير وصولا الى عصرنا الراهن ، وقمع فلاسفته واعتبر فكرهم كفرا وزندقة، هو مجتمع يعيش في الظلام الحالك، حتى لو ملأ الدنيا صراخا وابتهالا وعبادة.
السؤال المقلق والمفتوح : هل يمكن ان ترقى ثقافة روحية وثقافة مادية بظل سيادة فكر ديني يتمتع بجبروت كامل وسيادة مطلقة، وتطور أشكال إرهابية بغلاف ديني؟ هل يمكن ان نشهد عودة الى نشوء فكر فلسفي عربي في الواقع المتهافت الذي يعيشه عالمنا العربي؟
رؤيتي ان التاريخ اخرج العرب من حسابه. ولا أرى ان الفكر العربي والثقافة العربية مؤهلة في الظروف المؤلمة السائدة في العالم العربي على إحداث تحول ثوري ينقل الشعوب العربية من الانعزال الى المشاركة في حركة التاريخ . أين نحن من حركة الثقافة العالمية؟ من الإبداع الروحي والإبداع المادي. لا حضارة بلا ابداع مادي، أي إنتاج الخيرات المادية وتوفيرها للمواطنين عبر تحقيق رفاهية اجتماعية. لدينا مبدعون لكنهم أول من يقمع من جهاز السلطة ولا قراء لتعويضهم عن جهدهم الفكري والتفاعل معهم. لدينا طاقات علمية لكنها تغادر أوطانها بحثا عن أسواق عمل تناسب تخصصاتها. مجتمعاتنا تعاني اليوم من فقر في ألاختصاصات، أي تفتقد للقوى المفترض ان تقود عصر تنوير عربي.
ان الإفرازات التي يخلفها هذا الواقع تعيث اليوم فسادا ودمارا للطبيعة والإنسان!!

nabiloudeh@gmail.com

About نبيل عودة

نبذة عن سيرة الكاتب نبيل عودة نبيل عودة - ولدت في مدينة الناصرة (فلسطين 48) عام 1947. درست سنتين هندسة ميكانيكيات ، ثم انتقلت لدرسة الفلسفة والعلوم السياسية في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو . أكتب وأنشر القصص منذ عام1962. عانيت من حرماني من الحصول على عمل وظيفي في التعليم مثلا، في فترة سيطرة الحكم العسكري الاسرائيلي على المجتمع العربي في اسرائيل. اضطررت للعمل في مهنة الحدادة ( الصناعات المعدنية الثقيلة) 35 سنة ، منها 30 سنة كمدير عمل ومديرا للإنتاج...وواصلت الكتابة الأدبية والفكرية، ثم النقد الأدبي والمقالة السياسية. تركت عملي اثر إصابة عمل مطلع العام 2000 ..حيث عملت نائبا لرئيس تحرير صحيفة " الاهالي "مع الشاعر، المفكر والاعلامي البارز سالم جبران (من شعراء المقاومة). وكانت تجربة صحفية مثيرة وثرية بكل المقاييس ، بالنسبة لي كانت جامعتي الاعلامية الهامة التي اثرتني فكريا وثقافيا واعلاميا واثرت لغتي الصحفية وقدراتي التعبيرية واللغوية . شاركت سالم جبران باصدار وتحرير مجلة "المستقبل" الثقافية الفكرية، منذ تشرين اول 2010 استلمت رئاسة تحرير جريدة " المساء" اليومية، أحرر الآن صحيفة يومية "عرب بوست". منشوراتي : 1- نهاية الزمن العاقر (قصص عن انتفاضة الحجارة) 1988 2-يوميات الفلسطيني الذي لم يعد تائها ( بانوراما قصصية فلسطينية ) 1990 3-حازم يعود هذا المساء - حكاية سيزيف الفلسطيني (رواية) 1994 4 – المستحيل ( رواية ) 1995 5- الملح الفاسد ( مسرحية )2001 6 – بين نقد الفكر وفكر النقد ( نقد ادبي وفكري ) 2001 7 – امرأة بالطرف الآخر ( رواية ) 2001 8- الانطلاقة ( نقد ادبي ومراجعات ثقافية )2002 9 – الشيطان الذي في نفسي ( يشمل ثلاث مجموعات قصصية ) 2002 10- نبيل عودة يروي قصص الديوك (دار انهار) كتاب الكتروني في الانترنت 11- انتفاضة – مجموعة قصص – (اتحاد كتاب الانترنت المغاربية) كتاب الكتروني في الانترنت ومئات كثيرة من الأعمال القصصية والمقالات والنقد التي لم تجمع بكتب بعد ، لأسباب تتعلق اساسا بغياب دار للنشر، تأخذ على عاتقها الطباعة والتوزيع.
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.