في مثل هذا اليوم من العام الماضي كان لنا موعدا مع الوداع الأخير لأمي, لم يكن وداعا عاديا أبدا, كانت تودع الأرض وتستقبل السماء, تودع الأبناء وترنم مع الملائكة في الصف الأول من دار البقاء,كنا في حفلة تخرج أحد أحفادها من الجامعة وكانت هي معنا وكنا نظن كل الظن أننا جئنا لنفرح وإذ بنا جئنا لنذرف الدموع على صعود الروح, وما هي إلا لحظات وصرنا نقول: قبل ساعة كانت هنا, قبل دقائق قالت: (إبخاطركم) وكأنها شيء لم يكن موجودا رغم أن عبيرها ملء البيت والحارة والمستشفى.
وكان لأمي موعدا مع السماء, ومع الذين سبقوها بالصعود إلى السماء, لن تنتظر السماء بعد الآن طويلا لتزورها ربيبة آلهة المحبة والجمال, في مثل هذا اليوم من العام الماضي اشتاقت السماء لعبيرها الذي أرسلته إلى الأرض قبل 68 ثمانية وستين سنة, كانت السماء على موعد مع نجمة الأرض… كانت السماء على موعد مع قمر الأرض, كان لقصة رحيلها وقعٌ وصدى مدوي في أرجاء حارتنا, انساب الناس إلى بيتنا من كل مكان, حتى النمل خرج من ثقب الأرض ليودع الراحلة العظيمة.
أمي كعادتها كان كل شيء لها تقضيه بسرعة البرق, ولم تكن تعرف التململ في قضاء حاجياتها, ويوم رحلت عنا كانت على بُعد ساعات قليلة لا تتجاوز ال3 ثلاث ساعات بين دخول المستشفى والموت والدفن بعد صلاة العشاء, لم تتأخر عن موعدها مع السماء, لم تتأخر عن ملاقاة خالقها, كان لون الوداع أبيض وكانت السيارة بيضاء والدرب أبيض والشراشف بيضاء والقطن أبيض مثل الشاعر أمل دنقل.
أمي في قصة رحيلها أبكت العدو قبل الصديق ولأول مرة في حارتنا جمعت بين المتحاربين طوال العمر والتي فشلت معهم كل قصص الإصلاح بينهم إلا أن موت أمي أصلح بينهم وجمع بينهم, جمعت الأعداء مع الأعداء والأصدقاء مع الأصدقاء وجاء الناس من القرى البعيدة والمدن البعيدة والقريبة, كان لإطلالة وجهها على الشارع والحارة رائحة وأي رائحة..طلةً وأي طلةٍ!!!, وهنالك حدث غريب جدا, أمي كانت شديدة الخوف طوال حياتها من الموت ومن العتمة ومن الوحدة وتحب الأطفال حبا جما, وحين ماتت, ماتت ليلا وجاء مكان قبرها بين 5 خمسة أطفال لم نعرف لهم اسما أو عنوانا أو أما وأبا, إلا أنها دفنت في وسطهم, وحتى اليوم نزورها باستمرار ونزرع الورود على قبرها ونسقي شجرة زرعناها فوق تراب جثمانها العظيم, لم يتحد جسد أمي مع التراب بل اتحد نور الأرض مع نور السماء, كانت أمي عظيمة جدا في عطائها لنا جميعا وحين انتقلت إلى الأمجاد السماوية ظن الناس أنني سأموت جوعا غير أنها وهي ميتة مازالت تعطيني وتكثر وتزيد في العطاء ولم أرى وجهها في الحلم يوما إلا وكان خيرا ورزقا, وكانت كلما نظرت لي تقول بالعامية (ربيتك بدموع عيوني حتى شفتك زلمه) وغالبا ما كانت تشق ثوبها على نحرها إذا انزعجت من مصابٍ ألم بواحد من أولادها.
ولكل الناس أعداء غير أنني طوال حياتي مع أمي لم أسمع أن لها عدوا أو عدوة, كانت تحب كل الناس على اختلاف أدمغتهم وأمزجتهم, وكانت أدعيتها من أجلنا على هذا النحو:
يارب تبعد أبصار الظالمين عن جهاد.
يا رب تعطينا الوفق والرزق.
وهكذا انطوت صفحة من العمر يسجلها التاريخ, هذا اليوم لم يكن يوما عاديا بل كان موعدُ لقاء السماء مع عبيرها الذي أرسلته للأرض من عشرات السنين,الآن على أبواب الملكوت اخضرّت الأعشاب حين فتحت السماء بابها للمعذبين في الأرض, لقد تعذبت أمي في الأرض أكثر من كل المضطهدين في العالم كله ونال منها التعب ما ناله وأكلت الهموم عيونها وجابت الأرض غربا وشرقا واشتغلت موظفة حكومية في وزارة التربية حتى جاءها يوم سقطت فيه على الأرض ولم تعد قدماها تحملها, نالت من صنوف العذاب ما نالت لكي نحيا على حسابها حياة كريمة في الوقت الذي كانت تهان فيه كرامتها وتحط من قدرها بسبب المُسمّى الوظيفي, لم تكن يوما عالةً على الناس بل كان اغلب الناس عالة عليها في وطن يُذل فيه المثقفون رغم أنفهم ويطرد منه الأخيار ويحار فيه الحكماء ويستعبد فيه المثقفون حتى يركعوا لرغيف الخبز ويحارب فيه أتقياء الروح والجسد, في وطن تُغتالُ فيه القصيدة وتُقتل فيه الرواية وتُعدمُ فيه القصة القصيرة حتى تصبح ألوان اللوحات الفنية كرائحة صفار البيض,وتموتُ فيه الأهزوجة, وطنٌ وجد لكي يكون سجنٌ للشرفاء وملاذا آمنا للخونة والسراقين.