الرغبة في أن تكون مميّزا عن الآخرين طبيعة بشرية، ومالم تحترم تلك الرغبة وتسعى لتحقيقها لن تعيش طبيعتك!
لا أحد فينا يشبه الآخر، حتى ولو كان شقنا التوأمي…
أليس في ذلك رسالة كونية على ضرورة أن نبلور فرديتنا، ونكون فخورين بهويتنا الذاتية؟
لا تدع ضجيج الآخرين يبتلعك، بل حافظ على صوتك الداخلي نقيا، كي يبقى وحده دليلك!
كنت ـ ولم أزل ـ أهدف لأكون مميّزة حتى في طريقة تحضري لقهوة الصباح…
لا أريد أن أكون خيطا في نسيج واحد اللون، بل أسعى دوما لأكتسب لونا يميزني عن باقي الخيطان،
لونا فريدا يجعل من وجودي قيمة مميزة، ويترك بعد رحيلي أثرا مميزا!
…..
تعالوا نقرأ معا هذا المقطع للمفكر الأمريكي
Mark Sanborn:
A sad employee left his job for many years
Most days he worked were like the day before
He wasn’t disliked by colleagues, but he won’t missed
And while he made good money, he felt quite poor
He always did what he was paid to do and nothing more
And he did without having any fun
He performed his job the way he lived his life
He did it the way it had always been done
من أجمل ماقرأت في حياتي والأكثر إثارة للحزن….
سأحاول أن أعرّب المعنى قدر الإمكان، متجنبة القولبة التي تفرضها الترجمة، والتي تسلب النص الكثير من معناه:
(كان موظفا حزينا، وتقاعد بعد سنين طويلة من العمل…
كل يوم من الأيام التي قضاها في وظيفته كان يشبه اليوم الذي قبله…
لم يكن مكروها من قبل زملائه في العمل، لكنهم لم يشعروا بغيابه!
كان دخله من تلك الوظيفة جيدا، لكنه امتلك دوما إحساسا دفينا بأنه فقير…
دائما كان ينجز بمقدار ما كان راتبه، لا زيادة ولا نقصان…
ليس هذا وحسب، بل كان ينجز عمله بدون أية بهجة…
لقد أنجز عمله بنفس الطريقة التي عاش بها حياته: “كل يوم يشبه الآخر، ولا جديد”!)
لماذا سيشعر الآخرون بغيابك عندما تكون روتينيا لهذه الدرجة، ورتيبا إلى حد الملل؟
كيف ستشعر بأنك ثريّ، بغض النظر عن حجم أموالك، طالما ليس لديك هوية ذاتية تميّزك عن غيرك؟
أليست تلك الهوية، لو تبلورت، هي ـ وحدها ـ كلّ ما يصب في حسابك؟
….
الهوية الذاتية ـ باختصار ـ هي بصمات أصابعك التي لم ولن يملكها في عمر الكون أحد غيرك!
وبناء عليها، يجب أن تكون حياتك مميزة…
يجب أن يكون كل يوم في تلك الحياة مميزا…
يجب أن يكون كل من انجازاتك مميزا….
يجب أن تكون كل علاقاتك بالآخرين مميزة…
عندها ـ وعندها فقط ـ ستبقى حيّا مدى الدهر، لأن الأثر الذي تركته سيكون فريدا من نوعه!
…..
في طفولتي المبكرة جدا، كانت في حينا تعيش امرأة مع زوجها وابنها كاسر، وكانت جدتي تقول عن أم كاسر “جرديّة” (كلمة جرد تعني باللهجة السورية الساحلية القرى البعيدة جدا عن مركز المدينة)، وهي تقصد من وصفها هذا لأم كاسر أنها
متخلفة باعتبارها قادمة من الجرد، وكأن جدتي باريسية وأم كاسر من أدغال الكونغوكنشاسا، علما بأنني اكتشفت لاحقا أن قرية أم كاسر تبعد 7 أميال عن قرية جدتي (بينهما برزخان لا يلتقيان)، وكانت جدتي فلاحة حتى نخاع عظمها!
7 أميال في ذلك الزمن كانت أبعد في ذهن جدتي عمّا يبعد القمر عن الأرض في ذهن
Neil Armstrong،
الذي مشى على سطحه عام 1969، ومن المفارقات المضحكة أنني أتحدث عن نفس الحقبة الزمنية بالضبط!
المهم فيما أردت أن أذكره، كانت أم كاسر امرأة غاية في البساطة والطيبة، كيف لا وهي على ذمة جدتي “جرديّة” قح!
ظلت ذكراها قابعة وحية في ذاكرتي، كما هي ذاكرتي لفنجان قهوتي الذي ارتشفته هذا الصباح، مع استثناء واحد، هذا المساء سأنسى لون الفنجان، بينما لون ثوب أم كاسر الوحيد، وحدانية الله، مازال ماثلا أمام عيني!
يبدو أن ذكراها بقيت حية، لأنها كانت مميّزة بين كل جيراننا…
ميزتها عبارة واحدة كانت تكررها عشرات المرات في النهار القصير..
كلما أرادت أم كاسر أن تعبر عن دهشتها، فرحها، حزنها، فقرها، مرضها، غضبها، ألمها، علاقتها بأبي كاسر، تسبق كلامها بعبارة (ياشحّار جمتك ياأم كاسر)
يا شحار (باللهجة السورية الساحلية تعني يا ويل)
جمتك ( باللهجة السورية الساحلية تعني راسك)، ولذلك كانت تقصد (ياويل راسك يا أم كاسر)
كأن تسأل سمّان الحارة: كم كيلو البندورة أبو أحمد؟
فيرد: ليرة!
ـ يا شحار جمتك يا أم كاسر، مبارح اشتريتو بسبع فرنكات!
تسألها جدتي: كيفو أبو كاسر؟
فترد: يا شحار جمتك يا أم كاسر، صايبو رشح ولا العن من هيك!
وهكذا دوالييك….
لم يكن لأم كاسر “الجرديّة” قيمة تٌذكر بين نساء حينا “الباريسيات”، لكنها دخلت بعبارتها كل بيت، وصارت على كل لسان!
صارت عبارتها ماركة مسجلة تعني الشهرة على كل صعيد!
صارت عبارتها كطقم من تصميم كريستين ديور بين مجموعة من الدشداشات المحلية التي تباع في سوق الجمعة بحلب!
صارت أم كاسر باريسية بشهادة وامتياز!
كلما أرادت سيدة “تقليد باريسي” في حينا أن تلفت الآخرين إلى أهمية ما تقول تسبقه بعبارة (ياشحار جمتك ياأم كاسر)
…..
سافرت إلى أمريكا، ولم أحمل في حقائبي سوى القليل…القليل، وكانت عبارة أم كاسر أندر وأثمن ذلك القليل!
حملت من سورية بضاعة محلية بختم فرنسي عالي الجودة!
لن يصدق أحد منكم، الدور الذي لعبته عبارة أم كاسر في تربيتي لأولادي.
كلما سربلني الإحباط أمام تصرف من تصرفاتهم، كانت عبارة أم كاسر تكبح فرامل غضبي!
ـ يا شحار جمتك يا أم كاسر، ليش كسرت الصحن؟
ـ يا شحار جمتك يا أم كاسر، ليش ما كتبت الوظيفة؟
ـ يا شحار جمتك يا أم كاسر، ليش ما غسلت ايديك قبل الأكل؟
وكانت ـ يا شحار جمتك يا أم كاسر ـ تنقل لأولادي حقيقة مشاعري، دون أن تسمح لتلك المشاعر أن تتأجج وتحرق!
كان اسلوبا صارما، لكنه لينا في آن واحد…
كانت وسيلة مهذبة لتنبههم، بدون أن تترك جروحا وندبات على جدران ذاكرتهم الغضة!
لم يفهم أولادي يوما معنى تلك العبارة لغويا، لكنهم ـ بلا شك ـ فهموها مشاعريا!
لا يمكن لأحد أن يدرك فردية أم كاسر وتميّزها، وأهمية الدور الذي لعبته ـ ومازالت تلعبه ـ عبارتها في حياتي، مالم يسمع أنجيلا وهي تتصل بي، وتقول:
ياشار جم كارس،
Why didn’t you send me the check? ( يا شحار جمتك يا أم كاسر، ليش ما بعتيلي الشيك)
لأنجيلا قاموس عربي، لكنه ليس عربيا بالمطلق……
لم أذكر لك حكايتي مع أم كاسر، لأطالبك بأن تتميّز على طريقتها، بل لأشجعك كي تقبل الآخر بالطريقة التي يريد أن يميّز بها نفسه، شرط أن لا يدوس على قدمك!
وهل داست أم كاسر على قدم أحد فينا؟؟؟
……….
الثقافة الإسلامية المسيطرة تهيمن عليك بطريقة لا تشعر عندها إلاّ وأصبحت صورة فتوكوبية عن أي شخص آخر في محيطك…
تمتلك تلك الثقافة قالبا حديدا، يكرر نفس الشخص في كل ثانية آلاف المرات، فيصبح وجودك وغيابك سيّان!
تصبح وكأنك فرخة في مدجنة لا تتميز عن الفراخ الآخرين، وعندما يحين زمن ذبحك ترحل دون أن تترك وراءك فراغا…
لذلك، يحتاج من يرغب بأن يكون مميزا، إلى رفع مستوى وعيه كي يتبنى مايميّزه، وينبذ ما يصهره في طنجرة الحساء!
يعيش المرء في أي بلد اسلامي، مسلما كان أم لا، حالة من الإحباط رهيبة، رهيبة، رهيبة…
يعود إحساسه بالإحباط إلى فقدان إحساسه بقيمة نفسه!
الثقافة السائدة جردته من قيمته كفرد، وغسلت دماغه ليرى في الآخرين مدخلا إلى ذاته، مدخلا لا يمكنه أن يسبره مالم يستسلم لارادتهم، ويصبح عبدا لنزواتهم.
عندما يملك إذنا بالتعرف على ذاته، لو قُدر له أن يملكه، سيكون عندها منهكا ومستنزفا من ولعه الغريزي بالوصول إلى حلمه!
الانسان لا يستطيع أن يكون جزءا من جماعة قبل أن يكون كيانا متميزا عن الجماعة!
من منّا لا يذكر قصة الرجل العجوز الذي أراد أن يختبر ابنه وهو على فراش الموت، عندما أعطاه حزمة من العيدان، وطلب منه أن يكسرها فلم يفلح، وعندما أعطاه اياها منفردة كسرها عودا عودا.
حاولوا أن يقنعونا بأن قوتنا ونجاحنا تكمن في قوة الجماعة، فجردونا من الإحساس بقيمة أنفسنا كمخلوق مميز ومجهز بالإمكانات اللازمة لإثبات وجوده!
الانسان ليس مجرد عود بين مجموعة عيدان، فكل منا فريد من نوعه، ولكل منا امكانيات تختلف، وبالتالي غاية وجودية تختلف!
الجماعة التي تحوي عضوا قابلا للكسر هي أيضا تكون قابلة للكسر!
لم يكن هدفهم من تلك الثقافة القبلية أن نبقى قوة واحدة، بقدر ماكان هدفهم أن نخضع لذوي السلطة والجاه منهم بحجة الانتماء إلى الجماعة!
الجماعة الوحيدة المضادة للكسر في زمننا هذا، هي الجماعة التي تسمح لكل واحد فيها أن يكون ذاته، ويشعر بقيمته!
كنتيجة حتمية لتلك التربية خسرنا بعضا من أنفسنا لوالدينا كسلطة اولى، ثم بعضا آخر للبالغين في محيطنا من جيران ورجال سلطة ورجال دين ورجال السلك التعليمي، ثم وصلنا في شبابنا، في أوج قدرتنا على العطاء، وصلنا إلى الطاغية مجردين من كل قيمة، وسقطنا بين كلاليبه لقمة سائغة!
……
“يد الله مع الجماعة”؟؟؟
يد الله مع الفرد قبل أن تكون مع الجماعة…
الله خلق الفرد قبل أن يخلق الجماعة….
الجماعة هي مجموع الأفراد، ولن تكون أقوى من أضعف فرد فيها!
لا يمكن للفرد أن ينصهر بالجماعة إلا من خلال إثبات قيمته كفرد.
باختصار، لا يمكن أن يمنح نفسه للجماعة مالم يملك زمام تلك النفس أولا، إذ لا يمكن أن تمنح شيئا لا تملكه!
عندما لا تحس بأنك مميز، ليس هذا وحسب، بل فخور بما يميّزك تكون قد خسرت قيمتك!
وعندما تخسر قيمتك، ترفض أن تعترف بقيمة الآخر، فيتغلغل الحسد والغيرة إلى قلبك ليقتلان ماتبقى من ذاتك!
نعم، كلما كنت مميزا، تكون أكثر قدرة على قبول الآخر بما يميّزه، وأقل إحساسا بأن وجوده ينافس وجودك!
…….
لم أقلق يوما على نوعيتي من المنافسة، لقناعتي المطلقة بأنني نسخة غير قابلة للتصوير الفتوكوبي، ولا يستطيع أحد أن يكررني!
لا أحد يستطيع أن يكون “خاتم” المبدعين أيا كان إبداعه، فمصدر الإبداع كونيّ، والكون لا ينضب!
من استطاع أن يصغي إلى صوته الداخلي، لا بد وأن يلتقط منه فكرة ما، فكرة تؤهله ليكون مبدعا، فالصوت الداخلي لكل منا موصول بمركز الذكاء الكوني، ذلك الذكاء الذي لا يحتمل الخطأ، والذي يبحث دائما عمن يوقد منه شعلة!
لن يأتي آخر المبدعين، فالكون لا يعترف بالنهايات….
لا تدع ضجيج الآخرين يخفي ذلك الصوت، فهو الحبل السري الوحيد الذي يربطك بمنبع لا ينضب!
لقد زودتنا الطبيعة بالحس المرهف لالتقاط ذلك الصوت مهما كان خافتا، ولفهم وشوشاته مهما بدت مبهمة!
صوتك الداخلي يكون أنقى وأوضح عندما تتوحد مع ذاتك معزولا عن كل ما يحيط بك.
أيٌّ منبه يُعيدك إلى محيطك يساهم في إضعاف ذلك الصوت، وكلما علا الضجيج من حولك كلما خفت صوتك الداخلي.
لا يشعر الإنسان بالوحدة والملل إلا عندما يعلو ضجيج الآخرين من حوله حتى يفقده تواصله مع ذاته!
لذلك، العلاج الوحيد للإحساس بالوحدة أن تزداد توحدا مع نفسك، في محاولة لسبر أغوار تلك النفس، تلك المهمة التي تحميك من الضجر الذي يفرضه روتين الحياة!
أليس من الملاحظ، أن أكثر اللحظات خصوصية هي اللحظات التي نقضيها في الحمام؟؟
لو تمعنت قليلا، لوجدت أن أنقى الأفكار هي تلك التي تراودنا في تلك اللحظات الغارقة في خصوصيتها!
في إحدى التجارب التي اُجريت لدراسة السلوك البشري، وضعوا مرّة مرايا أمام كرسي المرحاض وكاميرات خفيّة لالتقاط أدق الحركات في حمامات عامة، بغية فهم كيف يتصرف الإنسان عندما يكون معزولا من كل منبه خارجي، ومتوحدا في ذاته.
خرجوا بنتائج مذهلة، عن عفوية التصرف ونقاوته وصدقه عندما يكون الإنسان نفسه!
يحتاج كل منا إلى تلك اللحظة كي يتوحد جسدا وعقلا وروحا….
لحظة التوحد هي ومضة الإبداع….
ألم يكن فيثاغورث محقّا عندما خرج عاريا من مغطس الحمام، يركض في شوارع أثينا ويصيح: وجدتها….وجدتها؟!
لن تجد تلك اللحظة إلا عندما تكون عاريا إلاّ من جوهرك!
……
نولد عراة، ثم نبدأ بارتداء أفكارنا ثوبا ثوبا…..
الفكرة الأولى تلتصق بحقيقتنا لتخفيها، كما تفعل سراويلنا الداخلية،
ثم تتراكم فوقها الأفكار الأخرى لتعزز نفس المهمة!
لذلك، سروالك الداخلي هو الأصعب لتخلعه، لكنه الأقرب إلى حقيقتك…
وسترتك الخارجية هي الأسهل لتخلعها، لكنها الأبعد عن حقيقتك!
لا تغشك سترات الناس فهي الأبعد عن حقيقتهم…
عليك أن تغوص عميقا حتى تصل إلى “اللاوعي” عندهم، والذي يختبئ مباشرة تحت سراويلهم الداخلية،
ويعكس تلك الحقيقة!
بالمقابل، لا بد أن تخلع كل أفكارك (فهي كالأثواب من صنع غيرك)، في محاولة للتعرف على ذاتك بلا رتوش!
…..
يقول جورج برنارد شو:
keep yourself clean and bright-;- you are the window through which you see the world
(كن نظيفا وبرّاقا، لكنك النافذة التي ترى منها العالم)
لا تستطيع أن ترى العالم على حقيقته مالم يكن زجاج نافذتك نظيفا وشفافا….
اخلع سترتك وغص عميقك حتى نخاع عظمك، كي ترى نفسك عارية من أية فكرة ألصقوها بها…
كي تراها نظيفة وشفافة، ولكي ترى من خلالها العالم كله وعلى حقيقته!
*************************
للموضوع صلة!