دليلك إلى حياة مقدسة (الفصل الحادي عشر)

في الفصل السابق كنت قد أشرت إلى مثل روسي يقول: الإنسان كالنهر، تراه أحيانا عميقا كالبحر وأحيانا أخرى ضحلا كالساقية… يختلف الناس باختلاف الزمن الذي يستغرقه كل منهم عندما يمرّ في طور البحر أو طور الساقية، وباختلاف
مدى تواتر كل من هذين الطورين. إلى حد ترى عنده البعض أشح من الساقية والبعض الآخر أعمق من المحيط، وترى الآخرين يتراوحون بين شح الساقية وغزارة المحيط، وترى نفسك ملزما أن تتعامل مع الجميع، فالحياة تواجهك يوميا ببشر يختلفون باختلاف عمقهم. ليس هذا وحسب، بل عليك أن تتحسس يوميا عمق الطور الذي تمرّ به…
من الأسهل والأفضل أن تبلع حماقات الآخرين على أن تكسر أسنانك في محاولة لطحنهم. هكذا يجب أن نتعامل مع من يمر بطور الساقية!
الدالي لاما يقول: (إذا أردت أن تسعد الناس تحلى بالرأفة، وإذا أردت أن تسعد نفسك تحلى بالرأفة) ويتابع قوله: (إذا آذاك شخص ما، هذا لا يمنحك الحق أن تؤذيه)

قصّت لي صديقة مقربة حكاية وقعت مع والدها. روتها في سياق وصفها لبخله وشحّه وقوة العلاقة التي تربطه بفلسه!
كان والدها رئيسا لدائرة في إحدى القطاعات الحكومية في مدينة حلب. بحكم وظيفته تعرف على رجل من البادية السورية، يبدو أنه كان رئيس عشيرة وتاجرا كبيرا للمواشي! ظن الرجل القروي أن والد صديقتي “قمندار”، لأنه يلبس طقما وربطة عنق ويجلس خلف مكتب، على حد تعبير جدتي “مفكر حالو قمندار”، والقمندار كانت رتبة عالية بالجيش الإنكشاري العثماني!
لذلك، دعا القروي صديقه “القمندار” لزيارته، ولما فعل أنعم عليه بحسن الضيافة وسخاء العطاء! وتكررت الزيارت فيما بعد… تقاعد والد صديقتي، وجاء القروي الحاتمي يوما يستدل على بيته حتى وجده. راح يطرق الباب، لكن القمندار أجبر عائلته على الصمت وتظاهر بأن لا أحد في البيت، خوفا من أن يكلفه الأمر فنجانا من القهوة! استمر الحاتمي في الطرق حتى تعبت يداه، فيأس وراح يجر وراءه خيبته، وخصوصا بعد أن تأكد من وجود “القمندار” في البيت فسيارته تقف في المرآب!
مرّت الأيام، وتذكر صاحبنا “القمندار” كرم صديقه القروي فسال لعابه، وقرر زيارته متظاهرا أنه لا شيء قد حصل!
لم يكد القروي يرى صديقه على باب عتبته حتى فتح يديه مرحبا: (أهلا وسهلا بأخ وابن أخ كريم، زرت أهلا ووطأت سهلا…
يابطيمان….يابطيمان…ياولدي قم واذبح نعجة لعمك أبي محمد، فهو رجل شهم وكريم، استضافنا في بيته وأغدق علينا بعطائه، وحان الوقت لنرد له جزءا من معروفه!) ثم أمر عائلته بمد “السجاد الأحمر” تحت قدمي الضيف “الشهم”! انشلّ لسان “القمندار”، وراح يرتجف من شدّة الخجل وتحت هول الصدمة, لما جاء المساء اندس في فراشه وتظاهر بالنوم، ثم انسل خارج البيت وأسلم رجليه للريح!
………
هناك تعبير أمريكي يقول:
Kill them with kindness!
أي “اقتلهم بلطفك”! إنها أجمل طرق القتل، وأشدها فتكا! لقد قرر صاحبنا القروي ببساطته وعفويته، وبدون معرفة مسبقة بالمثل الأمريكي، أن يكون مثالا حيا لتبني تلك الطريقة! لقد قتل جشع “القمندار” بلطفه وخلع عنه مرتبته الوهمية! لقد قتل جشعه، وليس لدي شك، أنه ـ في الوقت نفسه ـ أحيى بعضا من خلايا ضميره الميتة!
هل لديّ برهان؟
نعم، والدليل أنه قصّ على عائلته الحادثة بحذافيرها، وهو يتلوى تحت ألم الخجل والإحساس بالذل، وإلاّ لما انتقلت حكايته من ابنته إلى صفحات كتابي!
لو لم يحرك لطف ذلك القروي ساكنا في نفس “القمندار” الميتة لاحتفظ بسرّه وآثر أن يموت معه متمسكا بصحة موقفه! لذلك، علينا أن نقتل أعدائنا بلطفنا، لأنها الطريقة الوحيدة التي تقتل ثم تُحي في آن واحد! الطريقة الوحيدة التي نقتلهم بها ولا نشعر عندها بعقدة الذنب، بل على العكس تسمح لنا أن نحافظ على هويتنا السمحة وتكسبنا إحساسا بالرضى عن مواقفنا!
……
الدالي لاما الممثل الأعلى للفلسفة البوذية، يقول: (ديني في منتهى البساطة، ديني هو اللطف) أليس الفرق كبيرا بين هذه العبارة والآية القرآنية التي تقول: يا آيها النبي حرّض المؤمنين على القتال؟؟؟ لا يحتاج الدالي لاما أن يقول لك لقد أخطأت تفسير عبارتي، ولا يحتاج أن يطالبك بأن تقرأها في سياقها التاريخي فهي مفهومة وصالحة لكل زمان ومكان.
ما أجمل أن تنطوي البشرية كلها تحت مظلة دين واحد، دين هو اللطف! اللطف هو الرقة في التعامل، تلك الرقة التي تخفف عن الآخر قساوة الحياة وغياب عدالتها! نعم الحياة غير عادلة! عندما نقتنع بأنها غير عادلة، ونحاول في الوقت نفسه أن نخفف حدّة ظلمها عن أنفسنا وعن غيرنا، نكون قد وصلنا مرحلة من النضج الأخلاقي والروحاني في أعلى مستوياتها!
…..
هناك مثل شعبي كثيرا ما كرهته: (من بعد حماري ما ينبت حشيش)، أما أنا فأقول: لينبت الحشيش في كل مراعي الأرض كي يأكل حماري وحمار غيري!
كذلك، كانت هناك أغنية جميلة للمطربة صباح، طالما سحرتني وأنعشتني روحانيا! تقول فيها: (ياربي تشتي عرسان تاتلحقني طرطوشي)! هكذا هي الكلمة الحلوة تنعش الروح وتروي بذور المحبة كي تنمو وتثمر… صباح لا تريد أن ينبت الحشيش فقط من أجل حمارها، بل تريد أن تمطر السماء عرسانا أملا في أن ينالها منهم عريس!
لا تمرّ عبارة دون أن تترك أثرا…. تتراكم آثار العبارات التي نرددها ونسمعها لتصبح مع الزمن طريقة حياة…. كم هو لطيف أن تتمنى لغيرك ماتتمناه لنفسك…. كم هو لطيف أن تحلم بالخير دفاقا على البشر أجمعين، علك تنال بعضا منه….
كم هو ـ بالمقابل ـ مؤلم أن تقول بلؤمٍ “ليأتِ الطوفان من بعدي”!
أفلاطون يقول: (كن لطيفا، فكل شخص تقابله في حياتك يخوض حربا ضروسا) نعم لكل إنسان ظرفه وآلامه وأحلامه، مهما بدا ذلك الشخص مرتاحا وميسورا وغير مبال! لا تستهتر بأحد، وتذكر أن مايقف بينك وبين الآخر هو رأيك فيه! حاول مرّة واحدة أن تتجاوز حدود ذلك الرأي، علّك تجد فيه مشروع صديق، فالصداقة تعزز مشاعرك الطيبة والعداوة تجردك منها!
……..
مع الزمن تكونت لديّ قناعة من أن العداوة تستنزف طاقتنا دون أن تثمر، أما الصداقات فتزيّت مفاصل الحياة وتجعلها أكثر مرونة وأقل تشنجا…. في أسوأ الحالات، عندما لا تستطيع أن تجعل من الآخر صديقا، لا شكّ أنك تستطيع أن تبلع حماقاته، ثم تسقطه من حساباتك! لدى البعض رغبة ملحة في استفزاز الآخرين…. القدرة على التحمل هي ميّزة مكتسبة وليست صفة موروثة، ولذلك تستطيع أن تكتبسها بالصبر والحكمة، ومتى اكتسبتها سيفشل ذلك البعض في استفزازك!
……………..
أسوأ ذكريات طفولتي تتعلق بالعلاقات التي كانت تربط بين أمي وزوجات أعمامي! لم تهدأ الحرب يوما بين الواحدة والأخرى، وكانت تلك الحرب تقتصر على القيل والقال. كنّ في أعمار متقاربة، تتسلل الغيرة إلى قلب الواحدة فتمسك بشعر الأخرى!
عندما أمر مرور الكرام على مواليدنا ـ نحن أبناء العمومة ـ أكتشف أنه في كل عام ولدت كل منهن مولودا، وعشنا جميعنا في نفس البناية! رغم براءة تلك الحرب وسخافتها، تركت بصماتها على علاقتي بأولاد عمومتي، وطبعا على علاقة كل منهم بالآخر. كبرنا وتغرّب بعضنا وبقي بعضنا الآخر في الوطن الأم…
اليوم، أعود بذاكرتي مرارا إلى الماضي، وأتساءل كم فقدنا ـ نحن أبناء العمومة ـ من جمال الحياة، بسبب تفاهات كانت لا تتعدى ثرثرات “نسوان” الحارة! أذكر خلافا ماقلَّ سخونة عن حرب داعس والغبراء. اشترت أمي وزوجة أحد أعمامي ثوبا من نفس القماش (ربما بالصدفة)، ولكن زوجة عمي الأخرى لعبت دور المحرّض لدى كل من الطرفين… فراحت كل منهما تتهم الأخرى بأنها غارت منها فاشترت نفس الثوب، وزوجة العم الأخرى تصب الزيت على النار كلما تراءى لها بأنها بدأت تهمد! ونحن الأطفال نراقب ونمتص الآثار السلبية للعبة سخيفة تديرها ثلاثة مرهقات، كبرنا ووقفت تلك التصرفات حائلا بين الواحد منا والآخر.. فاتنا الكثير من الأعراس والمناسبات الحلوة وتبادل المشاعر الجميلة بسبب تلك التفاهات… ألتقي اليوم على الفيس بوك مع أولاد أولاد عمومتي، وأتعرف من خلالهم على آبائهم ـ أولاد عمومتي ـ وأتبادل معهم المشاعر التي افتقدتها في طفولتي وشبابي المبكر… ماتت زوجة عمي الكبير وماتت زوجة عمي الأوسط… أما أمي فهي اليوم “تضع رجلا بالقبر بينما الرجل الأخرى تقف بها على قشرة موز”! ماذا أخذت معها زوجة عمي الكبير وزوجة عمي الأوسط؟ وماذا ستأخذ أمي معها؟
لا شيء! لكن سيتركن خلفهن أثرا سلبيا حيّا وسيترك غلالته علينا ـ نحن الأبناء ـ جميعا! هذا الوضع يتكرر في أغلب العائلات في مجتمعنا، ذلك المجتمع الذي تحكمه ثقافة “أنا وخي عا ابن عمي، وأنا وابن عمي عا الغريب”!
من النادر أن تقوم علاقات ود واحترام بين أبناء العائلة الواحدة، ومعظم هذه الخلافات مبنية على تفاهات لا تتجاوز “ثرثرات” نسوان الحي!
…..
علمتني تجاربي وعلومي، والحكمة التي اكتسبتها عبر حياتي، علمتني أن أتحسس طبيعة الطاقة التي تواجهني، فأمتص كل طاقة ايجابية، وأنفر من كل طاقة سلبية. مع الزمن صارت طاقتي الإيجابية تشدني إلى مثيلتها وتجنبني ما يعاكسها، حتى
وصلت إلى مرحلة في حياتي أشعر وكأنني عندها محمية بجدار عازل! جدار يتمتع بانتقائية عالية الجودة، إذ لا يسمح لأية طاقة سلبية أن تجتازه! ليس هذا وحسب، بل أكسبتني التجارب قناعة أخرى، قناعة أكدت لي أن الطاقة السلبية التي تستهدفني عمدا ترتّد إلى مصدرها! لم يحاول إنسان أن يؤذيني إلا ودفع ثمن محاولته… في الوقت نفسه، لا يمكن أن أسمح لنفسي أن اؤذي غيري مهما استفحلت درجة عدائه لي! لا يمكن أن أسمح لنفسي أن أتمنى له مالا أتمناه لنفسي حتى في أقسى لحظات الألم التي يسببها. لا أستطيع أن أتحكم بموقف الناس مني، لكنني أستطيع أن أتحكم بموقفي من مواقفهم… بعضهم نصب نفسه عدوا لي، وبعض من هذا البعض حاول ايذائي بشكل أو بآخر!
يقول المثل الايطالي: لا تفكر بالانتقام، فالزمن سيجلب لك جثة عدوك إلى باب دارك!لم أفكر يوما بالانتقام، ولا أتمنى أن أفتح بابي لأرى جثة عدوي مرمية على عتبتي. لكنه ليس قراري، وإنما قانون كونيّ لا يقبل الجدل، ولا يقل حدّة عن جدول الضرب،
وهو: سيرد لك الكون ما ترسله لغيرك!
………
عندما تحرر نفسك من كل أثر لحقد أو تفكير بانتقام تصبح كونيا بالمطلق، وعندئذ يلتزم الكون بحمايتك عقليّا وعاطفيا وروحانيا، فتحسّ أنك موصول به ومن المستحيل أن تجف منابعك يوما، ويشعرك بسلام وسكينة لا يقوّضها كل ضجيج العالم وعربدته!
…….
كلُّ صباح أفتح نافذة غرفتي وأتطلع إلى مئات التلال المترامية والتي تحيط ببيتي. أغمض عينيّ وآخذ نفسا عميقا ثم أفتحهما، وأول بيت يقع نظري عليه من تلك البيوت الغافية على سطوح تلك التلال أمد يدي باتجاهه، وأنا أقول: أيها الكون العظيم بارك هذا البيت، وخفف من آلامه! لقد أصبحت صلاتي تلك طقسا من طقوس الصباح، طقسا لا أكاد أمارسه حتى أشعر بموجة من طاقة منعشة تجتاحني، ومن ثم تعبرني إلى كل زاوية في بيتي. إنه القانون الكوني الذي يرد لك ماترسله، حتى ولو كان مجرد أمنية وصلاة!
……
مرة كنت في الطائرة من شيكاغو إلى لوس انجلوس، وكان المفروض أن تكون لاس فيغاس محطتي الأولى لأستقل منها طائرة أخرى إلى جهتي! أثناء الهبوط في لاس فيغاس تحولت الطائرة إلى لقمة سائغة في فم عاصفة رملية ضربت المدينة من جهاتها الأربعة. أعلن الطيار أننا سنعود للإرتفاع وسنتوجه إلى فينكس بولاية أريزونا، لأن الهبوط مخاطرة كبيرة! في فينكس توجه كل راكب إلى مكتب الإستعلامات آملا أن يجد طائرة تنقله إلى جهته… كان الوقت منتصف الليل، وبدا التذمر والإرهاق واضحا على كل الوجوه… لحسن الحظ استطعت أن أجد مقعدا لي في طائرة ستقلع في الثانية صباحا، وشعرت بالإرتياح لأنني تركت سيارتي في مرآب المطار وسأتوجه فورا إلى بيتي. على بوابة الطائرة اقترب مني رجل في أواخر سبيعيناته، وسألني إن كنت قد وجدت مقعدا، فأجبته بنعم.. عبر عن استيائه وقال: أنا مرهق وسأضطر أن أنتظر حتى ظهر الغد، كي أسافر على متن طائرة إلى اونتاريو في كالفورنيا!
قلت له: جرب علك تجد مقعدا في طائرتي، ولكننا سنهبط في لوس أنجلوس!
فرد: لا أستطيع، زوجتي ستستقبلني في مطار اونتاريو، ومطار لوس انجلوس بعيد عن بيتي، ولن تتمكن من السواقة ليلا لهذه المسافة! تقطع قلبي عليه، قلت له: إذا وجدت مقعدا في طائرتي، ليس شرطا أن تأتي زوجتك لنقلك من المطار، فأنا سأوصلك بسيارتي إلى بيتك! سألني بدهشة: هل أنت متأكدة من ذلك؟ قلت: بالتأكيد!
حسبتها: الوقت ليل والطرقات السريعة ستكون خالية من الزحمة، سيكفني الأمر أقل من ساعتين، ولكنه رجل مسن ومرهق،
والذي زادني ألما عليه أنه كان عائدا من حضور جنازة أخيه في ولاية أخرى. ركض باتجاه المكتب، ثمّ عاد بعد دقائق وكأنه وجد كنزا ملوحا لي ببطاقة الطائرة. في الطريق إلى بيته رحنا ندردش عن الحياة ومصادفاتها، فقال لي: سوف تتذكرينني في يوم من الأيام، قد تجدين نفسك في مأزق، وسيخرج إليك شخص من حيث لا تدرين ليحل لك الأمر، عندما يحدث ذلك تذكري أن الله قد استجاب لصلواتي وردّ لك جميلك! ابتسمت، وقلبي على وشك أن ينفطر، وقلت: أنا متأكدة من ذلك، فالكون يردّ لك جميلك بشكل أو بآخر!أردف قائلا: هل تريدين أن تسمعي قصة في غاية الغرابة؟ قلت: بالتأكيد!
فراح يروي قصته: (قبل أن أتقاعد كنت أشتغل في تقطيع وتقليم الأشجار، وكان لدي شاحنة وعدة كاملة. أحد الأيام، وبعد غياب الشمس عدت من عملي في إحدى الغابات إلى بيتي، وإذ بي أرى شخصا توقف في منتصف الطريق لأن سيارته قد تعطلت. لم يأخذ تفكيري بالأمر أكثر من ثانية، فانحرفت إلى جانب الطريق وتوقفت، وسألته إن كان يحتاج إلى مساعدة!
قال: أريد توصيلة إلى بيتي، وفي الصباح آتي مع أخي لحل مشكلة السيارة! أشرت إليه أن يصعد، وأوصلته إلى بيته. كلفتني الرحلة حوالي ساعتين من وقتي، لكن لم أهتم لذلك، نمت ليلتها وضميري مرتاح أنني أديت خدمة لشخص هو في أمس الحاجة إليها! بعد عشر سنوات، كنت في طريقي من كاليفورنيا إلى لاس فيغاس ولم أنتبه لعداد الوقود، فتوقفت السيارة في منتصف الطريق العابر لصحراء نيفادا، والشمس الحارقة تشرف على الغياب! تملكني الرعب، وأحسست أن خطرا ما يهددنني، وتساءلت: في هذا الجو الحارق والظلام الدامس من سيقف ليسعفني؟!! لم يمض سوى بضع دقائق، حتى ضرب سائق على فرامله وتوقف بسرعة البرق، ثم ترجل من سيارته وسألني: هل تريد مساعدة؟! قلت: نعم، أنا بأمس الحاجة لبعض الوقود!
صعدت معه في السيارة وتوجهنا إلى أقرب محطة وقود، وكانت تبعد حوالي ساعة.. ملأنا وعاءا بالوقود ثم عدنا إلى مكان سيارتي… أثناء العودة بدأنا ندردش، فقال لي: منذ عشر سنوات تعطلت سيارتي في الطريق بين المدينة الفلانية والمدينة الفلانية، وتوقف رجل كان يشتغل في تقطيع وتقليم الأشجار وساعدني، من يومها وأنا كلما رأيت أحدا مقطوعا أتوقف لمساعدته! عندها صحت بأعلى صوتي: أنا ذلك الرجل، وأذكر أنك قلت لي بأنك ستنام وفي الصباح ستذهب مع أخيك لتصليح السيارة! فبكى وبكيت وتعانقنا!)
….….
مضى على لقائي بهذا الرجل أكثر من عشر سنوات، لكن وجهه لم يغب يوما عن ذاكرتي، وكلماته “ ستجدين من يسعفك كما أسعفتيني” ترن دوما في اذني. يزداد وجهه وضوحا وتزداد نبرة صوته حدّة كلما مررت في مأزق، فأرى من خلال وجهه وأسمع من خلال كلماته سيارة الاسعاف قادمة لتنقذني، وأعرف أنها مجهزة بكل ما أحتاج إليه…
……
من يومها لم يتخلّف الكون مرّة واحدة عن ارسال من ينقذني، حتى من المآزق التي يبدو عندها الخروج مستحيلا. وأنا بدوري أسمح لفريق الإنقاذ الذي يرسله الكون صوبي، أسمح له أن يعبرني لينقذ شخصا آخر!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.