أنت لست مجرد جسد، ولا مجرد عقل، أنت أكبر مما تظن أنك أنت…
أنت جزء وكلّ….
أنت جزء من كل، وكلّ في جزء….
تلك الحقيقة العصية على الفهم بطريقة حسابية، هي سهلة الاستيعاب لو قبلت أن تخرس كل الضجيج الذي يبتلعك من حولك، وتصغي إلى ذلك الصوت الخافت الذي يهمس في أعماقك….
لو تمرّنت على ذلك إلى حد الإحتراف، لاكتشفت عنده بأن ذلك الصوت أقوى من كل ضجيج العالم، وأكثر وضوحا من الشمس في قبة السماء!
ولاكتشفت أيضا بأن ذلك الصوت هو وحده دليلك إلى حياة غنية بحكمتها ومحبتها، لأنه موصول بمركز كوني لا نهائي!
لو تسنى لك أن تصل إلى تلك المرحلة ستصبح علويا لو كنت في الأصل داعشيا، وستصبح سنيّا لو كنت في الأصل علويا،
وستصبح شيعيا لو كنت في الأصل سنيا، وستصبح يهوديا لو كنت في الأصل مسيحيا، وستصبح فلسطينيا لو كنت في الأصل يهوديا!
لأنه عندها وعندها فقط، سينهار كل ستار يفصلك عن الحقيقة الكونية، وسينهار كل حاجز يفصلك عن جوهرك الإنساني!
هذه الرحلة أسميها “الطريق الروحاني” لاكتشاف ذاتك،
وهي رحلة لا أحلى ولا أجمل….
رحلة تجردك من هويتك الإجتماعية لتمنحك هوية كونية تحولك من قزم إلى عملاق،
لأنك سترى كل انسان فيك، وتعجز عندها أن تدرك حدود أبعادك..
….
لقد بدأتُ تلك الرحلة منذ عشر سنوات قبل بدء الحرب السورية، لكنني لم آخذها على محمل الجد، إلاّ بعد أن استفحلت تلك الحرب!
فظائع تلك الحرب كانت تحدوني وتحثني على السير قدما باتجاه نقطة “الصفر”!
تلك النقطة التي تقابل عندها ذاتك، وتكتشف حقيقتك،
عندها وعندها فقط لا تعد تميز بين تلك الذات وذوات الآخرين…
يغمرك إحساس موغل في لغزيته، ترى من خلاله نفسك في كل شيء وترى كل شيء في نفسك،
فتخسر كل نزعة للإنحياز….
….
على طاولة مكتبي وضعتُ صورتين ضمن إطارين جميلين وجعلت منهما قبلتي كل صباح…
صورة لشاب داعشي ملقى جثة هامدة على الأرض وعسكري سوري يدوس بحذائه فوق الجثة،
والصورة الأخرى لجثة شاب علوي مقطوع الرأس، وداعشي يقف بجنبه حاملا بيده ذلك الرأس!
أول ما يخطر ببالي عندما أنظر إلى الصورتين، هو أن كلا هاتين الضحيتين كانا يوما طفلين…
شعرت مرارا بالانحياز للشاب العلوي، وتفهمت مصدر انحيازي، لكنني قاومته برغبة حارقة،
تلك الرغبة التي تحدو الرحالة للوصول إلى مبتغاه…
قاومته كي أتمكن من أن أتابع المسير عبر رحلتي من العقل إلى القلب….
مرارا تصادمت مع مَنْ كنت أعتقد أنها نفسي، لأكتشف فيما بعد أنني تصادمت مع مَنْ كنت أتوهم أنها نفسي…
لقد عدت إلى ذاتي قبل أن أكون وفاء سلطان….
لقد عدت إلى ذاتي قبل أن أكون علويّة…
لقد عدت إلى ذاتي قبل أن أولد…
إلى ذاتي الكونية التي هي كانت منذ البدء، وستظل إلى الأبد…
لقد عدت إلى ذاتٍ أكبر من تاريخي على سطح تلك الأرض….
عندما قابلت تلك الذات وعانقتها لم أعد أميز بين الصورتين، ورأيت في كل منهما جريمة وضحية….
رأيت فيهما طفلين ولدا لتوهما، وفي كل طفل تجسد ـ ما أظنه ـ الله!
استطعت أن أتخيل كيف ـ وعبر السنين ـ تراكم فوق هذين الوجهين الصدأ المشوّه للطفولة،
وكيف صارا مع الزمن عدوّين وهمين، كما صرت أنا نفسي الوهمية!
….
عندما مسحت عن ذهبي شوائبه وعدت وإلى ذاتي الحقيقة، رحت أطبع كل صباح قبلة على جبين كل جثة وأطلب السماح،
أطلب السماح، لأنني أنا القاتل وأنا المقتول…
فعندما تتوحد مع ذاتك الحقيقة تتجرد من النزعة للانحياز، فتصبح كل شيء وكل شيء يصبح أنت….
…..
منذ سنتين، جاءتني رسالة بالبريد تقول أنني اُخترت ـ والخيار يتم عشوائيا بالكومبيوتر ـ لأكون عضوة في لجنة المحلفين
في المحكمة العليا للمقاطعة التي أعيش فيها..
طبعا، نحن ملزمون قانونيا بتلبية الطلب…
تركت أشغالي، والتحقت بالمحكمة…
كانت القضية محاكمة شاب لم يتوقف عندما طالبه البوليس بذلك، فطاردوه قرابة خمسين ميلا…
عندما حاصروه بعدة سيارات، خرج من سيارته واطلق النار على أحد رجال البوليس فأرداه قتيلا..
في اليوم الأول، وبالصدفة المطلقة، كانت أجلس في كرسي خلف كرسي المجرم ومحاماه الاثنان يحيطان به..
في البداية، قرأ علينا القاضي ملابسات الجريمة من أولها إلى آخرها، ومن ضمنها معلومات تتعلق بالمجرم، اسمه وعمره ومكان ولادته، وماشابه…
كانت صدمة كبيرة لي عندما عرفت بأن المجرم ولد في نفس الشهر وفي نفس السنة التي ولدت بها ابنتي الوسطى…
رحت أتمعن في فروة رأسه من الخلف، فرأيت ندبات لجروح قديمة تمتد عبرها كالخرائط وتشهد على تاريخ شقي!
تساءلت في سري: في ذلك الشهر من ذاك العام، لا بد أنّ والدته كانت تعيش الغبطة التي كنت أعيشها، لأنها رُزقت بملاك كما رزقت أنا…..
تخيلت غرفته وسريره ووجه الملائكي، كما كانت غرفة فرح وسريرها ووجهها الملائكي…
واستغربت: أين تكمن نقاط الخلل؟ ما الذي حدث عبر رحلة مدتها خمس وعشرين عاما؟
ابنتي كانت يومها قد حصلت على شهادة الماجستير في علم النفس ـ اختصاص عائلة وعلاقات زوجية ـ
وكانت تشتغل في مجال تقييم الوضع النفسي والعاطفي للأطفال الذين تعرضوا للعنف، وكذلك في طريقها لانجاب طفلها الثاني،
أما هو فانتهى في هذه الكرسي الذي يجلس عليها….
متى بدأ الخلل، وكيف؟
هذا هو السؤال هو الذي كان بودي أن أجد جوابا له، ولم أستطع لأنه خارج نطاق سلطتي…
يقال أنه في الملاحة البحرية إذا انحرفت السفينة انشا واحدا عن خط سيرها، قد تنتهي آلاف الأميال أبعد عن هدفها…
فأين ومتى انحرف هذا الشاب عن خطه حتى انتهى أبعد عن أي هدف سامٍ ونبيل سنينا ضوئية؟
…………….
Cheryl Strayed
شابة أمريكية خسرت أمها إثر مرض السرطان، وتطلقت من زوجها في نفس الوقت فسقطت صريعة المخدارات والجنس، وانتهى بها الأمر مشردة في الشوارع….
عاشت عامين، تأبى أن تعيشها قطط الأزقة، فيأست من الحياة إلى حد التفكير بالانتحار عدة مرّات….
مرّة جمعت كل ماتملكه في حقيبة وربطتها فوق ظهرها، ومشت لا تعرف إلى أين…
وصلت إلى الطريق المخصص للرحالة مشيا على الأقدام
Pacific Crest Trail،
والذي يمتد قرابة ألفين وستمائة ميلا عبر ثلاث ولايات أمريكية ـ كالفورنيا واوريغن وواشنطن ـ ويربط حدود أمريكا بالمكسيك بحدودها مع كندا…
قالت لنفسها: دعني أكون طعما لحيوانات الغابات، وليكن هذا آخر طريق لي في الحياة…
لم تكن تدري أن رحلتها تلك ستكون بداية الطريق للحياة…
استمرت الرحلة ستة أشهر، لم تسمع خلالها أي أثر لضجيج العالم، بل كانت تصغي بانتباه إلى صوتها الداخلي…
اكتشفت نفسها، وأحست أنها أكبر من تاريخها وأكبر من ظروفها وأكبر مما كانت تظن أنها هي…
عقب رحلة الاستكشاف تلك، نشرت كتابا بعنوان
“Wild”
وصفت خلاله مشقات السير عبر غابات موغلة في كثافتها ووحشيتها بطريقة تصويرية رائعة،
ووصفت حالة من السكينة والصفاء الذهني سربلتها منذ أن بدأت خطوتها الأولى…
أنقل لكم من كتابها مشهدا يدلك على عمق تجربتها ومعاناتها…
جلست على نتوء جبلي كي تستريح وتراقب الشاطئ الهادر تحتها، ومن حيث لا تدري وقعت فردة حذائها المخصص للمشي في الماء، هسترت وما كان منها، نزولا تحت نوبة غضب وجنون، إلا أن ألقت بالفردة الأخرى…
سجل الكتاب أعلى المبيعات على قائمة نيويورك تايمز، وتحول فيما بعد لفيلم.
……..
يحتاج كل إنسان في هذا الشرق المعذب أن ينفض عنه كل ماعلق به من خصوصيات، ويشدّ الرحيل عبر رحلة تأخذه إلى عمق أعماقه، وستكون أطول رحلة يأخذها في حياته!
يجب أن يقطعها، ليس حافيا وحسب، بل عاريا من كل اعتبار التصق فيه خيارا أم عنوة!
هذه الرحلة تمتد من عقله إلى قلبه، وما أطولها من رحلة!
….
تحضرني قصة طريفة، استجمعها من طفولتي الغارقة في البعد…
كان الراديو الصغير (أصغر من قبضة اليد) المسمى
“transistor”
هو كومبيوتر تلك الحقبة من الزمن، وكان محظوظا من يملك واحدا.
امتلكت اختي الكبرى واحدا بقدرة قادر، وصار بالنسبة لها أعز ممتلكاتها…
كانت حريصة جدا على مدّة استخدامه يوميا، خشية أن تتفرغ بطاريته ويحين الوقت لشراء واحدة أخرى..
في مجتمع ذكوري لا تستطيع الانثى أن تملك شيئا!
إذ كان أخي يعود من “سهراته” ويلتقط ذلك الطفل المدلل ويدير مفتاحه ليصدح كل الليل، فتستيقظ أختي في الصباح
لتجد نفسها أمام كارثة شراء بطارية جديدة!
فشلت كل محاولاتها في تخبأته، فأينما وضعته، سيجد أخي طريقه إلى مخبأه…
حتى استيقظ المارد الانثوي داخلها!
مضت أشهر وفشلت كل محاولات أخي…
اكتشفتُ فيما بعد أن أختي تخبأ “كنزها” كل مساء تحت مخدة أخي!!
وكان هو يضع رأسه على تلك المخدة ويسرح بفكره في أرجاء البيت أملا في أن يتذكر مكانا آخر لم يعبث فيه!
…..
نعم، الكنز الذي تبحث عنه، أيا كان، هو تحت مخدتك!
لا تعبث بمكان بحثا عنه، ولا تلم أحدا على عجزك عن ايجاده!
هو أقرب إليك من سواد عينك إلى بياضها،
لكن الرحلة من السواد إلى البياض طويلة وليست سهلة!
عندما تقرر أن تأخذ تلك الرحلة، تذكّر أنك ستصطدم بأمك وأبيك وكل شخص مرّ في حياتك، ليس هذا وحسب، بل بتعاليمك وتجاربك، والأسوأ من كل ذلك ستصطدم بقناعاتك….
تذكّر كلما خطوت خطوة في رحلتك الطويلة (من فوق المخدة إلى تحتها) ستتخلى عن إنسان هو قطعة من شغاف قلبك، وستتخلى عن قناعة ليست أقل قيمة!
لا تسمح لاحباطك أن يردعك عن متابعة السير…
فكلما توغلت عميقا، كلما اقتربت من كنزك، الذي هو أنت، وهو أعلى من أية قيمة أخرى…
ستكتشف أن ماظننته قحطا تعيشه، ستكتشفه واحة خضراء ولا أجمل…
عندها سترى الوجود جميلا لأنك ستراه من خلال جمالك!
……..
هل يستطيع أحد فيكم أن يتخيل مامعنى أن تقبّل امرأة علويّة جثة رجل داعشي؟؟
هل يدرك أحد فيكم طول الرحلة التي قطعتها كي أطبع تلك القبلة؟؟؟
لم تكلفني تلك الرحلة حذائي وحسب، بل كلفتني خمسين سنة من حياة توهّمت فيها أنني كنت نفسي،
لأكتشف في نهاية الرحلة أنني كنت ذلك الداعشي الذي قطع رأس العلوي، وكنت في الوقت نفسه ذلك الرأس،
أنا هو وهو أنا….
عندما يخرس ضجيج العالم المحيط بك، وتصغي إلى ذلك الصوت الذي يهمس في داخلك
ستلتقي بالله، وستكتشف أنك أنت ذاك الله….
إنها لحظة يتجلى فيها معنى أن تسكن جسدا، وتأتي لتعيش حياة مؤقتة على سطح تلك الأرض…
إنها لحظة تدرك خلالها أنك أكبر من جسدك، ومن عقلك، ومن جيبك، ومن كل مشاكلك، ومن أصلك وفصلك،
إنها لحظة تتوحد خلالها مع عدوك، وتدرك وهميّة تلك العداوة!