‘داعش’ ابننا الوقح

بقلم حازم الأمين/
قد لا تتجاوز نسبة ممارسات “داعش” مما لم نعايشه ولم نختبره في بلداننا ومجتمعاتنا وحروبنا الخمسة في المئة. فباستثناء تعمده تصوير جرائمه والذهاب فيها نحو مستويات مشهدية، يمكن للمرء أن يجد في معظم ممارسات التنظيم أصولا وجذورا لطالما خبرناها عبر أنظمة الحكم التي عشنا في ظلها، ومن خلال وظائف مؤسساتنا الدينية والاجتماعية والعشائرية. ولا يقتصر ذلك على جماعة بعينها، فتاريخ الشقاق المذهبي والعشائري في منطقتنا مليء بأمثلة عن السبي والحرق ونكران حق الآخر في البقاء على قيد الحياة.
وإذا كان من شيء يجب أن يُستفاد منه في ظل مكابدتنا تجربة “داعش”، فهو أن التنظيم يجب أن يكون قد ذكرنا من نحن ومن نكون، وأن مناهج التعليم في مدارسنا تضخ في عقولنا ما يمكن أن يفضي إلى “داعش”، وأن عشائرنا لن تجد في أمزجتها الثأرية ما يعيق وظيفتها إذا ما حكمت “داعش”، وأن مؤسساتنا الدينية ستكون محرجة حيال تطبيق “داعش” شرائع غير بعيدة عما تدعو إليه هذه المؤسسات. أما دولنا وأنظمة حكمنا، فوجدت في التنظيم فرصة ليصدقها العالم أن الدم الذي تسيله لا يرقى إلى الدم الذي أساله التنظيم.
من قال أن سبي الأيزديات لا أثر له في خبراتنا وثقافاتنا، وأننا إلى اليوم لا نمارس ما يوازيه. أليس زواج القاصرات الذي تشرعه إيران بدءاً من عمر الثلاثة عشر، ويسعى العراق “الجعفري” اليوم للاقتداء به عبر “تخفيض عمر الخصوبة”، وسبق أن اعتبر نائب الأمين العام لحزب الله اللبناني منعه تجديفاً، ممارسة موازية للسبي الذي استحضره “داعش” من التاريخ الإسلامي؟ ومن هذا القبيل أيضاً امتناع معظم المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية من اعتبار “داعش” تنظيماً كافراً، ذاك أن التكفير يقتضي جهرا بالكفر. القتل والحرق والسبي والانتهاك لا تكفي. الأزهر رفض تكفير “أبو بكر البغدادي”، ودور الإفتاء الموازية. اكتفى الجميع بالقول أن التنظيم ليس هو الإسلام الحقيقي، من دون أن يشرح لنا أحد لماذا لا يكفر الإسلام الحقيقي رجلاً مثل “البغدادي” طالما أنه فعل ما فعله بالإسلام.
“داعش” ظلٌ ثقيل لوجداناتنا، وفي معظم ممارساته أثر لممارسات موازية شهدناها. قتل المثليين سبق أن أقدمنا عليه في أكثر من مناسبة، ومن منا لم يُقدم على ذلك، لم يشعر أن الجريمة تستحق الاستهوال. والتمثيل بالجثث يجري اليوم في الموصل على قدم وساق. “يوتيوب” مليء بالمقاطع المصورة لإحراق جثث عناصر التنظيم. “الحشد الشعبي” يفعل ذلك بعد أن يكون قد أعدم بالرصاص عناصر “داعش”. ثمة فارق هنا، هو أن “داعش” أحرق الطيار الأردني حياً، فيما عناصر الحشد أحرقوا جثث عناصر التنظيم بعد أن أعدموهم. هنا يكمن ربما فارق الخمسة في المئة الذي أشرنا إليه.
و”الخمسة في المئة” هذه تظهر أكثر مما تظهر في الأدبيات “الأنتي داعشية” التي بدأت تصدر. فـ”داعش” ليس مسلماً لأنه لم يقاتل “اليهود والنصارى”، وهو ليس مسلماً لأنه “لم يُولَ الخلافة من أصحاب الخلافة”، وليس مسلماً لأنه استدرج دول الكفار إلى بلاد المسلمين. الهذيان يملأ الجدران، والعقول مخدرة، ولم يتجرأ أحد حتى الآن على الاقتراب من نفسه والبحث عن “داعش” صغير فيها.
تجري اليوم “الحرب على داعش” في ظل تنصل متبادل من المسؤولية عن ولادته. ويجري ضخ إعلامي هائل للقول أن التنظيم كائن سقط على الجميع من السماء، والكل أبرياء منه. لكن أحداً لا يريد أن يقول أن الوقائع التي شهدتها “دولة الخلافة” لها ما يوازيها في ممارسات الجميع. معسكرات “أشبال الخلافة” التي تشكل اليوم أحد أهم وجهات التفكير بمستقبل المناطق التي حكمها “داعش”، لها ما يوازيها في دولة الحوثيين في اليمن، وفي فيدرالية الأكراد السورية، ولدى “جبهة النصرة” في إدلب، وحزب الله اللبناني نعى قتلى أطفالاً قضوا في سورية. أينما وليت وجهك في حروبنا الأهلية ستجد جنوداً أطفالاً. “داعش” فعلها، لكننا فعلناها قبله وبعده، والفارق هو أن التنظيم لم يسع لتقديم صورة أخرى عن نفسه. صوَر نفسه بصفته وحشاً ومسخاً، وأراد لهذا الوحش أن يكون صورته. أما نحن، ظلال “داعش” وأثره البعيد، فما زلنا نواري الحقيقة عن أنفسنا، وندفع بالوحش الذي يسكننا إلى منطقة مظلمة وغير مرئية في نفوسنا، وحين نوقظ الوحش ونرسله بمهام في الليل، يعود إلينا بعد انجازه المهمة وثمة آثار للدماء على وجهه. نمسح وجهه ونعيده إلى مأواه السري، وننساه إلى أن يحين موعد جديد لإيقاظه. وفي هذا الوقت نُصدق أن “داعش” ليس ابننا.

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.