توفيق الحلاق
كان أبي ينادي أمي في الصباح وقد اتخذ مجلسه على السجادة في الليوان مقابل البحيرة الطافحة بالماء والنافورة الراقصة في وسطها وأمامه (بابور الكاز) وعليه ابريق الماء النحاسي المنقوش و( صينية حَوت مَجمعَ الجيربا والسكر ، والجوزة والمصاصة ) . يناديها أبي بصوت خصصه لها وهويشبه صوت مغنٍ رقيق يبدو لنا نحن الأبناء الثمانية وكأنه مقطع من أغنية : ( زينة ، أم عبدو .. تعي اشربي مته … المتة جاهزة ) هو أحبَّ أمي طوال عمره بالرغم من أنها لم تبادله الحب إلا لحظةَ كان يلفظ نفسه الأخير. كانت بيئتيهما مختلفتان تماماً ، هولم يعرف الفلاحة والزرع والقطاف ، ولا ارتدى يوما سرولاً فضفاضاً أوثوباً طويلاً كما هو حال الفلاحين ، بل قَدِم من تشيلي في أقاصي أمريكا الجنوبية بلباس مدني وهو في سن الرابعة عشرمن عمره وسيظل يرتدي ذلك الزي طوال حياته فقد تعرف مبكراً إلى الحياة المدنية حيث ولد وعاش في العاصمة سنتياغو . بينما ولدت أمي وترعرت في ديرعطية وهي خبرت الزراعة والحصاد وقطف المواسم ، وارتدت الزي الديرعطاني الذي لازمها حتى انتقالها إلى دمشق حيث استبدلته مكرهة بملابس نساء الشام . وأمي عندما ترد على نداء أبي يأتي ردها بارداً وبصوت يكاد لايسمعه : ( يالله جايي شراب المتي لاتستناني . ) ذات يوم وعندما أصبحت في سن الثانية عشرة أفشت لي سرها وهي في قمة الإنفعال بعد شجارٍ ارتفع فيه صوتاهما على مسمع سكان الدار الخمسين : ( أنا ماأخدت أبوك على حب !! أخدتو غصب ) كان ذلك سراً صادماً لمراهق مثلي ، وهو أدخلني في سجن القلق الذي لن أخرج منه إلا بوفاة والدي . لم يك ذلك شجارهما الأول بل كان واحداً من مئات المشاجرات التي غالباً ماتحدث في الصباح الباكر أو بعد العصر . كنت وإخوتي وأخواتي نصيخ السمع من غرفة نومنا لنتأكد أنهما لايتشاجران قبيل ذهابنا إلى مدارسنا . فإذا تأكد لنا ذلك انتابنا الحبور ، وإلا فإن المعركة ستطالنا حتماً وسينال كل منا ماتيسر من ضرب أبي وشتائمه دون سبب : ( تضربي إنتي وأهلك وولادك ) . أما أمي فكانت تكتفي بالدعاء عليه : ( إذا كنت ظالمتك الله لايوفقني وإذا كنت ظالمني الله يصطفل فيك ) . لم يك ظلمهما لبعضهما مقصوداً بذاته بل كان نتيجةً لمنطق متخلف ساد المجتمع السوري كله في الريف والمدينة لمئات السنين في مسألة الزواج . روت لي جدتي لأمي واسمها عائشة : ( كانوا الشباب يوقفوا أدام نهر المكسر في الضيعة بس ليشوفوا أمك زينة على أد ماكانت حلوة، ماحدا ماطلبا بس نحنا قلنا لحالنا ابن خالها أولا وأبوه عندو أراضي وخيرات مابتاكلها النيران ، والله ياتوفيق كان عندو في داريا كروم عنيب بتشوف أولو مابتشوف آخرو ، قلنا إذا أكلت من العنيب اللي بيوقع على الأرض بتشبع ) كانت أمي في السابعة عشر من عمرها عندما دفعت للزواج غصباً من أبي الذي كان في الرابعة عشر ولم يك قد تعلم اللغة العربية بعد وهو تعرف إلى أبناء جيله في ديرعطية قبل وقت قصيروكان يقضي معظم وقته في اللعب معهم في شارع السيل وسط الضيعة عندما دُفع للزواج أيضاً دون مشورته وقبل أن يخوض تجربة حب عذري كما حدث لأقرانه وكما حدث لأمي أيضاً . كانت أمي قد وقعت في حب صديق أخيها محمود وتبادلت معه النظرات والإبتسامات ، وسمعت منه على استحياء بعض الكلمات التي لم تنسها أبداً : ( زينة ، إنتي أحلى من العنب الزيني ) . وهو نفس اللقب الذي أطلقه عليها شيخ البلد القصاب الذي صادفها برفقة والدها محمد سلوطة في السوق فقال له : ( ماشاء الله …تبارك الرحمن .. هي بنتك البركة سبحان الذي خلقها ؟ .. شواسما ؟ ) رد جدي وهويحسُّ بنشوةٍ أخجلت تواضعه : ( اسما زينة الله يخليلك ولادك ) قال الشيخ القصاب : ( زينة ، متل عنب الزيني .. من هون ورايح كلما شفتك يابنتي رح اندهلك : ياعنب . اتفقنا ياعمي ؟ ) خجلت أمي الطفلة وهزت ر أسها بالموافقة . كانت أمي إلى ذلك وحيدة أبويها بين ثلاثة إخوة أشقاء ، فحظيت بالدلال من عائلتها وأقربائها الذين ماكانوا ليرفضوا لهاطلباً ، إلا في مسألة اختيار العريس . قالت لنا أمي : ( كنت أنده لأبوكم من الحارة اللي عم يلعب فيها مع الولاد تيجي يتغدا ) كان انتقال أمي من دار أهلها الدافء والحاني إلى بيت جدي في ديرعطية ثم في داريا ودمشق كما الانتقال من الجنة إلى النار . هكذا وصفته أمي وأضافت : ( كان جدكن هوالآمر الناهي وأبوكن مالو كلمة وكان يشوف أبوه عم يضربني في العصاية ومايسترجي يدافع عني مشان مايضضربو كمان ) لم تحظ أمي بمكانةٍ تليق بكنَّة إقطاعي ، بل كانت واحدة مثل عشرات الفلاحات اللاتي كان يستأجرهن جدي ليعملن في قطاف العنب وتوضيبه في صناديق خشبية للبيع ، وفي تجفيف بعضه تحت الشمس ليذهبن به إلى معاصر الدبس ، ويحفظنَّ البعض الآخرمن الزبيب في عبوات من القش للبيع أيضاً . كنَّ يستيقظن مع الفجر ولايعدن من الكروم قبل غروب الشمس بعدما يهدُّ التعب أجسادهنَّ النحيلة . وإذن فإن العلاقة الزوجية بين أبي وأمي اقتصرت على انجاب الأطفال في طقس من التسلط لايرحم . في دارنا الدمشقية بباب توما وبالرغم من غياب جدي عن المشهد فقد مارس أبي نفس سياسة عدم المبالاة بمعاش عائلته ومدارسنا وهموم تربيتنا . كانت أمي كما قالت عنها امرأة خالي : ( زينة ياحرام لبرا ولجوا ولبين البواب ) أما أبي فقد كان يقيم شهراً ثم يرحل ثلاثة شهور يسافر خلالها بسيارته الشاحنة الطويلة الضخمة ( المك ) إلى الكويت على طريق صحراوية لامعالم فيها ، فكان يتوه أياماً قبل أن يصل بعد شهر حيث يفرغ بضاعته من القمح والذرة وأنواع البقول الجافة والجلود والمصنوعات اليدوية ثم ينتظر هناك حمل العودة من اكسسوارات السيارات المستعملة ليعود بها ويروي لمستقبليه حكايات تقترب من الخيال عما شاهده في الصحراء وماتعرض له من خطر . كان أبي كريماً لايقيم وزناً للمال فيبدد ما يحصل عليه هدايا ومنحاً لكل من يطلب ولم يك ليأبه لشكوى أمي في حاجتها لكل قرش يجنيه لتنفقه على أبنائها الثمانية . حظيَّ أبي بمحبة كل من عرفه لدماثته وكرمه وحلو حديثه مثلما حظيت أمي بثقة الناس واحترامهم وتقديرهم لحرارة استقبالهالضيوفها وكرمها وسهرها على تربية أولادها وتعليمهم . لكن والديَّ لم يقدرا يوماً على التواصل والألفة وتجاوز طباعهما الحادة . ذات ظهر وبعد أن تناول أبي طعام الغداء واضطجع ليأخذ قيلولة كما هي عادته ، استيقظ فجأة وهو يحسُّ بالاختناق ، لم يك يستطيع التنفس مطلقاً ، كلماته المعدودة اللتي نطقها وهو يعدو في أرض الدار باحثاً عن أمي كانت صراخاً دفع الجيران للخروج من غرفهم . وأنا كنت إلى جانب أمي في السيباط حين ارتمى على الأرض واضعاً رأسه في حضنها . كانت كلماته الأخيرة : ( ياأم عبدو أنا عم أختنق ) . ولأول مرة أسمع أمي ترد عليه بخوف بالغ وحب عميق عتيق وهي تُمِّسد صدره : ( سلامة قلبك ياأبوعبدو ) عدوت ، وعدوت بكل مايطيقه جسدي إلى الطبيب زهيرعوض وهو الأقرب لبيتنا . اقتحمت العيادة . كان في تلك اللحظة يفحص طفلاً يصرخ بين يديه : ( دخيلك يادكتور اتروك من إيدك وتعا معي فوراً أبي عم يختنق ما عم يقدر يتنفس ) . هرع الطبيب زهير معي ، وكنت أستعجله ليركض فما ركض ، وقال لي ونحن نغذ السير مسافة ألف متر : ( مافي فائدة م السرعة ) ثم استدرك : ( رح اعمل جهدي على كل حال ) عندما وصلنا كانت الجلطة الصدرية قد قتلت والدي قبل أن يصل إلى الستين من عمره .
-
بحث موقع مفكر حر
أحدث المقالات
الحزب الشيوعي لايختلف عن الاحزاب الدينية الفاشية .. الداخل مفقود والخارج مولود
Published by:مفكر حر** كيف بلع نظام الملالي ... الطعم ألإسرائيلي **
Published by:سرسبيندار السندي** كيف يسخر ويضحك صبيان محمد الجدد ... على عقول ألمسلمين **
Published by:سرسبيندار السنديالمسيح في فكر الإسلام والعقيدة المسيحية
Published by:صباح ابراهيممن يوميات إمرأة حلبجية
Published by:مفكر حراسطورة الإسراء والمعراج
Published by:صباح ابراهيمالفيلم الألماني " حمى الأسرة"
Published by:طلال عبدالله الخوري** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
Published by:سرسبيندار السنديفيلم ايطالي عام 1959 عن تدمر والملكة العربية زنوبيا … علامة المصارع
Published by:مفكر حر** أمة الكُورد بين ألإسلام … والتخلف والتعصب والاوهام **
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/10
Published by:علي الكاشأفكار شاردة من هنا وهناك/51
Published by:مفكر حرقراءة متأنية في ديوان (قصائد منزوعة السلاح) للشاعر نينوس نيراري
Published by:آدم دانيال هومه** كيف رتبت أل سي اي ايه … لقاء الصحفي تايكر ببوتين ولماذا ألان **
Published by:سرسبيندار السندي** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/8
Published by:علي الكاشأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح( 18-19 )
Published by:حسن محموديأفكار شاردة من هنا وهناك/49
Published by:مفكر حرالانتخاب
Published by:مفكر حر" الاشياء البائسة" Poor Things
Published by:طلال عبدالله الخوريالأدب النسوي ما بين الإبداع والاستغلال
Published by:اسعد عبد الله عبد عليأفكار شاردة من هنا وهناك/48
Published by:مفكر حرالرب يفضح الأنبياء الكذبة
Published by:صباح ابراهيمأخطار تهدد الحياة على الأرض
Published by:صباح ابراهيمكأس عسل
Published by:عصمت شاهين دو سكيسليلة الآلهة
Published by:آدم دانيال هومهأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح ( 16, 17)
Published by:حسن محمودي** محنة العقل في الاديان ومعضلة كتبها … بالدليل والبرهان **
Published by:سرسبيندار السندي** لماذا قصف نظام الملالي الارعن … مدينة أربيل ألان **
Published by:سرسبيندار السندياوبنهايمر
Published by:طلال عبدالله الخوري** مَن سيُحاسب قادة حماس … على جرائمهم بحق غزة وأهلها **
Published by:سرسبيندار السندياسرار #الموساد عن #العراق - ج 1
Published by:صباح ابراهيمالمرأة بين الماضي والحاضر مسيرة كفاح وتنمية ونماذج معاصرة
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/4
Published by:علي الكاشالقاسم الأيمانيّ المشترك :
Published by:مفكر حرعام جديد..
Published by:مفكر حر** قصة مِيلادِ السيّد المَسِيحْ … العجيبة والفريدة **
Published by:سرسبيندار السندي#محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
Published by:محمد الماغوطأفكار شاردة من هنا وهناك/43
Published by:مفكر حرمن هو يسوع المسيح ؟ - يسوع المسيح يكشف لنا حقيقة الله-
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
Published by:علي الكاشفاطمة الزهراء و غموض تاريخها
Published by:صباح ابراهيم#نزار_قباني: أيها المسيح العظيم هل تقبل دعوتي إلى العشاء .
Published by:نزار قباني** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
Published by:سرسبيندار السنديهل روح الله هو الله ام جبريل ؟
Published by:صباح ابراهيمأُمة فيها العجب
Published by:عصمت شاهين دو سكيتجاعيد وايجار واتهام
Published by:اسعد عبد الله عبد عليتقاسيم على أوتار الريح
Published by:آدم دانيال هومهالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/1
Published by:علي الكاشالدعاء على المسيحيّين
Published by:مفكر حرمباحث في الأدب واللغة/63 الطعام والمطبخ العربي
Published by:مفكر حرأفكار شاردة من هنا وهناك/41
Published by:مفكر حر#مسيحيو_المشرق و(الخيارات المرة )!!!:
Published by:مفكر حرهادي العامري واوهام المدمنين
Published by:علي الكاشالكفاءة
Published by:عصمت شاهين دو سكيأفكار شاردة من هنا وهناك/40
Published by:مفكر حرالعهد الجديد و سفر التكوين والخليقة
Published by:صباح ابراهيمأحدث التعليقات
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on علماء النصارى كانوا يتسمون اسماء اسلامية
- س . السندي on فاطمة الزهراء و غموض تاريخها
- س . السندي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- س . السندي on سورة مريم اقتبست من شعر امية بن ابي الصلت
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on #محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
- Mohammad Al Kassab on ضحايا صدام حسين 7
- ابن الرافدين on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- قثيم بن سنحريب الفيروزي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- مسلم on القرآن زور التوراة والإنجيل
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- قثم بن عبد الات القرشي on هدف حماس من (طوفان الأقصى) وهدف إسرائيل من اعلان حالة الحرب
- طوفان البدروسي on ** لماذا ورطت إيران قادة حماس … بطوفان الاقصى ألان **
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية