الشرق الاوسط
يبدو أن البابا الجديد سحر العالم بابتسامة عفوية صادرة من الأعماق. ومعلوم أن الابتسامات أهم من الكلمات. وقد كان العالم المسيحي الكاثوليكي بأمس الحاجة إلى هذه الابتسامة المشرقة لطمأنته بعد كل تلك الفضائح التي هزت الفاتيكان وأقلقت المؤمنين أو المتدينين على الأقل. لا ريب في أن البابا القديم كانت ابتسامته لطيفة ولكن «حضارية» أو نخبوية مثقفة أكثر من اللزوم. ولا عجب في ذلك، فهو ينتمي إلى العالم الغني المترف، على عكس البابا الجديد الذي ينتمي مثلنا إلى عالم الجنوب. بالمناسبة لنا حصة في هذا البابا؛ لأن خمسة في المائة من سكان الأرجنتين هم من أصل سوري أو لبناني. ورئيس الأرجنتين الأسبق كارلوس منعم كان سوريا. يضاف إلى ذلك أنه بابا الفقراء على ما يبدو. وهذه ميزة تحسب له. وقد صدرت عنه عبارة رائعة في الماضي عندما صرخ قائلا: «إن الفقر المدقع هو أكبر انتهاك لحقوق الإنسان»! وقد صدق. من يستطيع أن يقول أفضل من ذلك؟
ولهذا السبب فإنه اختار لقب البابا فرنسوا تيمنا بالقديس الإيطالي فرنسوا داسيز الذي عاش في القرن الثالث عشر. ومعلوم أنه كان من طبقة النبلاء الإقطاعيين الشديدي الثراء. ولكنه تخلى عن كل أملاكه وامتيازاته والتحق بالفقراء لكي يعيش بينهم ويواسيهم. وكذلك فعل قديس فرنسي آخر يدعى فانسان دوبول. أنا أحلم بالالتحاق بالأغنياء، وهم يلتحقون بالفقراء. وأخشى ما أخشاه أن ألتحق بالملأ الأعلى!
إن انتخاب هذا البابا يدل على مدى أهمية أميركا اللاتينية، ليس فقط دينيا وإنما أيضا سياسيا؛ فهو أول بابا غير أوروبي في التاريخ، إذا ما استثنينا باباوات فلسطين وسوريا الأوائل. لقد انتهى عهد العرقية المركزية الأوروبية. وهذا نبأ جيد بحد ذاته. ينبغي العلم بأن أربعين في المائة من الكاثوليك ينتمون إليها. وعدد الكاثوليك يبلغ مليارا ومائتي مليون شخص على مستوى العالم كله. من هنا أهمية بابا روما والفاتيكان. إنه الرأس الديني والروحي الأعلى للغرب. وأمامه ينحني قادة كبار؛ من رئيس أميركا إلى زعماء أوروبا وآخرين.. يضاف إلى ذلك أنها قارة مستقبلية صاعدة وواعدة؛ فالأرجنتين والبرازيل والمكسيك تشكل كتلة ضخمة إذا ما توحدت على طريقة الاتحاد الأوروبي وجمعت حولها التشيلي وبقية الدول الصغيرة. وهذا ما تحاول أن تفعله أصلا. البرازيل وحدها تشكل قوة ضاربة يحسب لها الحساب بنحو المائتي مليون نسمة. وربما غارت وانزعجت لأنها كانت تحلم هي أيضا بالبابا، فإذا بالأرجنتين تسرقه من بين أصابعها.. لقد كانت الأحق به بسبب ثقلها الديموغرافي والسياسي والاقتصادي.
على أي حال فإن قارة أميركا اللاتينية البارعة في كرة القدم سجلت «هدفا» هاما في انتخاب هذا البابا الجديد.
قرأت في الصحافة العالمية التعريف التالي: إنه تقدمي من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، ولكنه «رجعي» من الناحية الحضارية! سوف أترجم لكم ما سبق بما أنني مختص في الترجمة منذ أكثر من ثلاثين سنة متواصلة.. المقصود أنه ضد العولمة الرأسمالية الجشعة والمتوحشة التي تجوع نصف العالم، كما يقول الفيلسوف السويسري المحترم جان زيغلير. وبالتالي فهذه نقطة تحسب له. ولكن المشكلة هي أنه ككل أبناء الجنوب «متخلف» من الناحية الأدبية والأخلاقية والسلوكية. تريدون أن أوضح لكم أكثر معنى هذه الألغاز؟ إنه ضد الشذوذ الجنسي! وبالتالي فهو – عندهم – شخص «لاأخلاقي» بالمرة! صدقوا أو لا تصدقوا. أنا لست مسؤولا عنكم إذا كنتم متخلفين عاجزين عن مسايرة التطور الحضاري. نعم إنهم يطلبون منه شيئا واحدا فقط: أن يشرع لهم الشذوذ الجنسي ويعتبره أرقى إنجاز حضاري توصلت إليه البشرية، ولكنه عاجز عن أن يقدم لهم هذه الهدية المسمومة. لذا ينعتونه بالرجعية.
نقطة أخيرة تستحق الانتباه والتنويه. لاحظت أن وسائل الإعلام الغربية أصبحت تهتم أكثر فأكثر بالشؤون الدينية.. في السابق كان انتخاب البابا يمر تقريبا مرور الكرام، ولكنه الآن أصبح حدثا عالميا بامتياز تطنطن به وسائل الإعلام صباح مساء، بل يحتل واجهة نشرات الأخبار للفضائيات الكبرى.. فهل تحققت نبوءة أندريه مالرو الذي قال: القرن الحادي والعشرون سيكون دينيا أو أنه لن يكون؟ ربما.. على أي حال فإن هذا الغرب المتخم إلى حد البطر، هذا الغرب الذي لا هم له إلا الجشع والملذات المادية، وبالأخص الشذوذية، أصبح يشعر بالهلع أحيانا، فلا ضوابط، ولا ثوابت، ولا مرجعيات يستمسك بها الإنسان أو يستعصم. كل شيء أصبح مباحا في عصر الحريات الفردية التي لا ضابط لها ولا وازع. وهكذا تحولت الحرية إلى عبء على الإنسان بعد أن كانت مصدر انطلاقته الحضارية الرائعة. وهذا ما ندعوه بالاستخدام السيئ للحرية.
هذا الغرب المتغطرس الذي يتأستذ على العالم كله، فليسمح لنا بأن نتأستذ عليه ولو لمرة واحدة على الأقل! أرجو من البابا الجديد أن يفعل ذلك، وأن يلقنه دروسا أخلاقية لن ينساها.. لقد فكك الغرب كل القيم الأخلاقية السابقة، وتجاوز كل الحدود في انتهاك المحرمات الأخلاقية. لقد مشى بالحرية إلى أقصى حد ممكن حتى انقلبت على ذاتها. أما نحن فمشينا في القمع الاجتماعي والديني والسياسي حتى انفجرنا أخيرا طالبين نسمة من الحرية. يحصل ذلك كما لو أن البشرية لا تستطيع أن تتوازن على خط وسط أو اعتدال معين: فإما أن تتطرف في هذا الاتجاه أو ذاك. ومعلوم أن أرسطو عرف الفضيلة على أساس أنها «موقف وسط بين حدين متطرفين». فالكرم مثلا نقطة وسطى بين البخل والإسراف. والشجاعة نقطة وسطى بين الجبن والتهور، إلخ.. هذا الانتقاد للغرب لا يعني أني مضاد للحداثة والحضارة. من يصدق ذلك؟ ولكن طفح الكيل!
دلالات لابد منها … ؟
١: العالم الغربي حر في قباحاته وهذه القباحات أتته بسبب الحرية المفرطة والتي سببها المال المفرط ، ولكن مصيبتنا نحن من في الشرق ألأوسط أننا لانعرف أية وسطية والوسطية التي نعرفها غالبا ليست وسطية المنطق والعقل بل وسطية الحاكم المغتر أو المعتل ، بدليل ما يموت حتى تجدنا نندفع كالثور الجامح إما إلى الأمام وإما إلى الوراء ، وفي كلتا الحالتين مصيرنا الخراب والدمار أو الفناء ؟
٢: المصيبة ألأخرى التي تورقنا كشرق أوسطيين هى الخوف ، وهذه العقدة هى بالحقيقة وراثية وقديمة قدم الزمن ولهذا ترانا لليوم كأجدادنا نصنع ألهتنا لتجول معنا كظلنا وعندما نجوع نأكلها ، وإذ تعذر اليوم فعل ذالك لأنها من الحماقات القديمة ترانا نصنع طغاتنا وجلادينا وعندما يسقطو ترانا نكفرهم ومن ثم نعدمهم أو نخوزقهم بدم بارد وكأننا لسنا نحن من صنعهم ؟
٣: وأخير كلما تمدد العقل إزداد النضج والفكر … وكلما تقلص إزداد ت الحماقات والجهل والغدر ؟