النهار اللبنانية
أول سيارة تملكتها كانت
“1100 M.G”
. كنت أحب الصعود إلى برمانا للعشاء في الصيف، لكن “الالف ومية” كانت تبدأ بالحماوة في عين سعاده ثم بالغليان في بيت مري. ولذا كان الحل دائماً العودة نزولا إلى بيروت. في السيارة الاولى، تعلمت درساً أول. كنت نازلاً من بيتي في السيوفي فرأيت بعد مسافة رجلاً على الارض ينزف ويتطلع في السائقين آملاً في مساعدة. توقفت عنده دون تفكير ونقلته الى طوارئ “اوتيل ديو” التي كانت لا تزال قبالة سيار الدرك. ساعدته على دخول الطوارئ وسلمته الى الموظف ثم خطوت خارجاً.
استوقفني الموظف مؤنباً: إلى أين؟ قلت: في سبيلي. قال: والتحقيق؟ مع من نُجري التحقيق؟ قلت: لقد رأيت هذا الجريح في الطريق فحملته الى هنا. حققوا معه، أنا ما دخلي في الأمر؟ نظرت الى الجريح فرأيته يبتسم ابتسامة ما بين الشر والتحشيش. قلت له: لماذا لا تبلِّغ الموظف ان كل دوري هو ان انقذك. قال ساخراً: وماذا يضر ان تعطي افادتك؟
أدرت ظهري للطوارئ وللموظف والنازف وخرجت. وعندما رحت اروي ما حدث كان كل من يسمع الحكاية يدهش ويستفظع: ليس دناءة الجريح ولا بلادة الموظف بل حماقة الراوي: كيف تُقحم نفسك في قضية مجهولة فيها دماء وقضاء وقانون ومسؤوليات؟ واجهت بعد اعوام موقفاً مشابهاً، وبلا وعي أو تردد، تصرفت كما فعلت ايام “الالف ومية”. وقد اضطررنا الى بيعها بعد قليل، ليس بسبب الحماوة في عين سعاده أو الغليان في بيت مري، بل لأن تنظيف الدماء في الجزء الخلفي كان مستحيلا. وكذلك ازالة رائحتها.
متى يكون من شأنك ان تتدخل لما تعتقده واجباً انسانيا، ومتى لا يكون؟ القانون البريطاني(1) يمنعك من انقاذ رجل يغرق، لئلا تغرق معه. القانون الفرنسي يلزمك المحاولة إذا كنت تعتقد انها ستنقذه ولن تضرك. مرَّت رضا خوري على المسرح اللبناني مروراَ مضيئاً وبارقا. وفي دور انتيغون، تختار في دفن شقيقها قوانين السماء لا احكام الارض. لن تترك جثته للجوارح.
انت لا تلاحظ، بسبب الطوفان الذي يحملنا فوق ظهره، اننا نعيش في عالمين: واحد، يمكن تصنيفه بعالم الإنسان، والآخر بعالم البشر. الفارق، ان الاول يرى الله. الثاني لا يكف عن محاولة ازالة الاول، دائماً باسمه. في جميع الابادات الكبرى كان الله على هذه الجبهة أو تلك. على ظهر دبابة، أو على طائرة هيروشيما، أو في البحر يرشد البوارج والغواصات، في دكِّها لليابسة.
ظل الانسان غريبا ومرفوضا في عالم البشر. البير كامو الذي نحتفل الآن بمئويته، كان رمزاً من رموز الإنسان، الذي لم يحقق حتى الآن اكثر من حضور هامشي هش في عالم البشر.
ما هو عالم البشر؟ هو ذلك الذي التقى الاسبوع الماضي في بطرسبرج، مدينة دوستويفسكي وغوغول وبوشكين. ثلاث علامات الإنسان. لكنها ايضا مدينة المضيف، فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، سابقا رئيس مخافر الـ”كي. جي. بي.” في المانيا الشرقية، وحاكم روسيا المنفرد منذ ان هوى بوريس يلتسين تحت آخر زجاجة فودكا. ولكثرة ما تعتعت الفودكا اول رئيس لروسيا الاتحادية، لن يقرب خلفه الكحول الا لشرب الانخاب. وسوف يبدو في الصور الصامتة والمتحركة، رجلاً يُعنى بعضله قبل أي شيء آخر.
فيما كان ندَّه باراك أوباما يُعنى باناقة الكلمات كان فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين يُعنى برهبة العضلات. لست اعرف سبب هذه العقدة ولا أنا مولع بتفسيرات فرويد لانحرافات النفس البشرية. افضِّل عليها نظرية جدي الشديدة الاقتضاب: إما خير وإما شر. أي منطقة ثالثة لا حسم فيها هي شر ايضاً: شر التواطؤ مع الشر. الخير ليس غامضاً ولا معقَّداً.
هناك كثيرون يعبدون الشيطان اتقاء لشره. وهناك نفر قلائل، شجعان وأعلياء، يختارون ولو البؤس، الى جانب الإنسان. كم هو كريه ان تُعطى الخيار فتختار الشر. وثمة ما هو اكره: الدفاع عنه كسبيل إلى الخلاص. شاهد الحوارات التلفزيونية. أو اقرأ آدابك السياسية الجديدة.
بطرسبرج هي مدينة اطول ليلة صيف في حركة الارض. لكن بوتين تعمد ان يستضيف فيها قمة الخريف. طريق العلاقات الدولية التي تتصادم مرة اخرى في ارض الحمم والرماد، المعروفة بالشرق الاوسط. القديم والجديد ودائم مستدام المآسي والكوارث. وإذ تدور الارض ويبقى الشرق الاوسط خارج كل دورة، تلاحظ جنابك ان الشعوب الحيوية الحية، تستوقف التاريخ مرة بعد أخرى. وخصوصاً في بطرسبرج، العظيمة بالقيصر أو بالقيصرة أو بالرفيق الاكبر، فلاديمير ايليتش، فيما ظلت الالمانية ايكاترينا، علامة التاريخ (والعشق) الروسي لثلاثين عاماً، تحت اسم كاترين العظمى، كانت علامة قمة العشرين الاقتصادية، امرأة من الراين.
وحدها تتزعم بلداً غير مدين. وحدها تنقذ المحتاجين والسكارى في اوروبا الموسعة على تفاوتات فاضحة، ما بين الالماني الفاعل واليوناني الصرار. لا تحمل انغيلا ميركل حقيبة يد ولا تضع قرطاً أو سواراً. مثلها طالبات الاديرة في الارياف. لا، أبداً، مارغريت تاتشر كانت تصر على “الجزدان” لزوم الانوثة. يضبط حركة اليد، ويحفظ قلم الحمرة وعلبة البودرة للطوارئ. ويخفي المرآة الصغيرة المستديرة. احفظي احترامك يا امرأة.
هل للتقدم الاوروبي علاقة بما نسميه حقوق المرأة أو الرفق بها كالرفق بالقطة اليتيمة والكلاب المشردة؟ الاسبوع الماضي التقيت على رصيف الشاطئ في “سانتا اولاريا” السيدة تشاندرنيكا باندرانايكا كوماراتونغا. اسم طويل وصعب ولكن ماذا افعل. تحدثنا طبعاً عن قمة العشرين لأن ليس للناس حديث آخر. والجملة السعيدة الوحيدة كانت ما قلته انا للرئيسة السري لانكية السابقة، وابنة اشهر عائلة سياسية هناك. قلت لها: لن تصدقي، صاحبة السعادة، ما سأقوله لك. ولكن من اهم عناصر راحتنا في بيروت مقلقة ابدا، سيدة من بلدك، تأتي الى بيتنا في الصباح وتعود الى بيتها في المساء، وتنادينا جميعا بالاسم الاول، الا انا. لا تمنحني هذا التكريم.
تقول صاحبة السعادة ان بين الغرب والمرأة علاقة غير سوية فأول رئيسة وزراء في العالم المعاصر، كانت امها، سيريمافو. ولم تكن سويسرية أو بريطانية. وتذكرنا ان المرأة رئيسة اليوم في البرازيل وفي كوريا الجنوبية. وكلتاهما حسناء، بالسامبا أو بالهيونداي.
لم أرد أن أخرج من الحوار مهزوماً، فقلت لها اننا في لبنان نطرح القضية بصورة جدية ايضاً: هل نقول النائبة بهية الحريري أو النائب بهية الحريري؟ ولكن قبل ذلك لا بد من حل مشكلة اهم. فاحدى المجلات تصر على عنوان مثل “زوج وزوجه يختاران الهجرة”. وقد يبدو لك اننا أبحنا الزواج المثلي. مستحيل، لكن “الزوجة” خطأ. وهو خطأ لن يرتكبه احد الا على أسنَّة الحراب. حراب الكونت ميرابو، الذي طالما خطب للشعب وتمتع بهدايا (عطايا) ماري انطوانيت السرية.
لم يكن فلاديمير فلاديميروفيتش ليعثر على مسرح اعمق لعرض الفارق بين عالم الإنسان وعالم البشر: فهذه مدينة دوستويفسكي وبوشكين وغوغول. هنا كتب الرجل الفائق الابداع والعبقرية “الجريمة والعقاب”. وفيها ذلك المشهد الشهير: ولد وابوه يمران بعربجي يسوط حصانه بقسوة، فيهرع الابن الى ردعه لكن الأب المجفف المشاعر ينهره: دعه. هذا ليس من شأننا!
هل تترك جريحاً على الطريق، لأن هذ ليس من شأنك؟ لن تسأم إذا امضيت العمر في قراءة دوستويفسكي. لقد امضى الدكتور سامي الدروبي العمر في ترجمته. وهذا كان يوم كان هذا ما يفعله – وما يمثله – سفراء سوريا. سوف ترى معالم دنيا البشر في عناوين دوستويفسكي: “مذلّون مهانون”، و”ليال بيضاء” و”الاخوة كارامازوف” التي تطرح ذلك السؤال: من هو المجرم الحقيقي، المحرِّض أم القاتل؟ الوطني أم الاجنبي؟ وأي موت أكثر عدلاً وجمالاً، القومي أو الامبريالي؟ أي تشريد أكثر انساً ولطافة؟ قال تلفزيوني مفوَّه: اذا وقعت الضربة على دمشق توقعوا مليوني لاجئ سوري في لبنان. ليش يا حبوب؟ شو جاب صواريخ كروز لمرحبا؟ ثم.. ثم، أليس هناك من تظهير آخر للعلاقة المميزة، كمساجد طرابلس مثلاً؟
مئة عام على البير كامو، الإنسان، الذي بدأ حياته، هو اليتيم الجائع، في الكتابة عن بؤس “العرب” (الجزائريين) وانتهت به يكتب عن ظلامتهم كأحرار إستُعبِدوا. علَّمنا الروس معاني الإنسانية والتمرد على ظلم البشر والرعاع من المسؤولين: الكونت تولستوي، نبيل الفقراء، وماكسيم غوركي، فقيرهم، والكسندر بوشكين، شاعرهم. ولم يكن كامو سوى نتاج لفيكتور هوغو وبلزاك ودو موباسان. جميعهم غطوا ريشتهم في محبرة “البؤساء”.
لا يدعى الى قمم العالم سوى شهود الزور. اغلق فلاديمير بوتين مجلس الأمن حتى كمكتب شكاوى. انه الأب المجفف المشاعر في “الجريمة والعقاب”. ليس موت مائة الف انسان من شأننا. نحن شأننا طرطوس، التي ظل السوفيات عشرة اعوام يطلبونها من حافظ الأسد، وعندما وافق اخيراً كان شرطه الاول، ان مفتاحها في يده. اليوم يعلن بوتين انه حجب صواريخ اس 300 عن دمشق لأن سوريا عاجزة عن الدفع. كاد يقول دولة مفلسة لولا الدعامات الايرانية.
لم يكن دوستويفسكي داعياً ولا كامو مدعواً. هذه قمة للبشر لا مكان فيها للإنسان. ثم ان كامو قد يهرِّب معه نسخة من “الإنسان المتمرد” ويلوث افكار الحاضرين. وقد تطل رضا خوري بألقها المسرحي مخاطبة قوانين السماء بصوت انتيغون، هازئة من قوانين الارض وتبريراتها. وانت، دوستويفسكي، انت ستقف الى جانب الحصان الهرم والى جانب جريح “الالف ومية” على رغم ضحكته الشريرة.
ايها السادة، هذا هو العالم الذي ترونه امامكم كل يوم بالبث المباشر: ان ثمة خطأ فنياً قد وقع في كيماوي الغوطة. مسؤول غاز السارين الغبي زاد عيار تعبئة الصواريخ. المسألة ايها الساذجون في العيار لا في المعيار. النية طيبة لكن الغلط في حساب الكميات. “بتعملو منها كضية؟”
قالت السيدة باندرانايكا التي تساعدها عصاها في تحمل ألم المفاصل، انها شديدة القلق على لبنان: “انت تعرف ان لنا عدداً كبيراً من المواطنين هناك، ولا يمكن ان نحملهم فظاعة سواهم؟ وبكل جدية قلت لها: “ونحن ايضاً، صاحبة السعادة، لنا مواطنون كثر هناك. وقد عوَّدناهم ان يتحملوا مغبة كل فظاعات الارض”.