في الموضوع السابق تحدثنا عن معاهدة سعد آباد التي وقّعتها تركيا والعراق وأفغانستان وايران تحت ذريعة محاربة الشيوعيه وهي في الحقيقه ليست أكثر من معاهدة تقاسم مصالح في المنطقه بين بريطانيا والولايات المتحده الأمريكيه بين عامي 1937 _ 1948 وقد أودعت أوراق هذه المعاهده لدى عصبة الأمم التي أسستها بريطانيا والتي رفضت الولايات المتحده الأمريكيه التوقيع عليها أو الدخول فيها لأن الولايات المتحده الأمريكيه كانت تريد نفوذاً أكبر لحكم العالم لم تمنحه لها عصبة الأمم
سبب رئيسي وأساسي من أسباب إشعال الولايات المتحده الأمريكيه للحرب العالميه الثانيه هو لتدمير عصبة الأمم وتأسيس الأمم المتحده على أنقاضها . تمتلك بريطانيا مساحات شاسعه من المستعمرات حول العالم ولغرض حماية هذه المستعمرات أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانيه كان عليها أن تستدين الكثير من الولايات المتحده الأمريكيه , وكانت الديون على شكل أغذيه وأسلحه وحديد صلب لصنع الغواصات الحربيه , وبنهاية الحرب العالميه الثانيه كانت الديون والفوائد المترتبه على تأخيرها قد تعاظمت الى الحد الذي جعل بريطانيا توافق من أجل التخلص منها الى جملة أمور أولها هو حل عصبة الأمم
الأمر الثاني الذي إضطرت له بريطانيا لإطفاء دينها هو إنهاء 4 قرون من إحتلالها للهند ( درة التاج البريطاني ) والموافقه على الخروج منها في آب 1947 لتتحول الهند منذ ذلك التاريخ الى 3 مستعمرات أمريكيه هي : الهند , باكستان الغربيه ( بقيت تحمل إسم باكستان ) , باكستان الشرقيه التي تحول إسمها الى بنغلاديش عام 1971 بعد الحرب الهنديه الباكستانيه وكما سنرى لاحقاً في هذا المقال
الأمر الثالث الذي إضطرت له بريطانيا بسبب ديونها في الحرب هو الموافقه على قرار تقسيم فلسطين بعد 4 أشهر فقط من خروجها من الهند وبذلك خسرت أهم ميناء لها على البحر الأبيض المتوسط وهو ميناء حيفا . تحدثنا في المقال السابق عن سقوط باريس تحت الإحتلال الألماني وإستنجادها بالجيش الأمريكي من أجل تحريرها ومن أجله دفعت ثمناً هو التنازل عن كثير من مستعمراتها حول العالم بدل لذلك التحرير وهكذا خرجت من سوريا ولبنان في النصف الأول من أربعينات القرن الماضي لتتحول سوريا ولبنان الى جمهوريتين أمريكيتين منذ ذلك التاريخ . عندها أدركت بريطانيا أن صراعها مع الأمريكان في المرحلة المقبله سيكون حول مستعمراتها في البحر الأبيض المتوسط , ومن أجل إستعمال العرب بالنيابه في هذا الصراع قامت عام 1945 بتأسيس جامعة الدول المنتدبه ( بفتح التاء والدال والباء ) وهي العراق وفلسطين ومصر والتي تحول إسمها الى جامعة الدول العربيه فيما بعد حين إنضمت لها دول عربيه من غير دول الإنتداب
العرب مع الأسف قوم لاموقف لهم وهم ( أصحاب هبّه وشعارات زائفه فقط ) دفعتهم بريطانيا التي تحتلهم عن طريق الجامعه العربيه التي أسستها لهم الى خوض صراعها مع الأمريكان في حرب 1948 وأثناء مباحثات الهدنه التي عقدت بعد أيام الحرب تعرف فيها ( كيرمت روزفلت ) وهو ضابط مخابرات امريكي يحمل صفة ( رئيس جمعية الصداقه العربيه الأمريكيه ) على ثله من الضباط المصريين جمال عبد الناصر واحد منهم , ويقوم روزفلت بمواصلة وتطوير هذه الصداقه لتتحول الى إنقلاب عسكري أمريكي في مصر عام 1952 أخرج بريطانيا من واحده من أهم مرتكزاتها في الشرق الأوسط وهي قناة السويس , وسنتحدث بالتفصيل عن هذا الموضوع في مقال مستقل
عام 1945 قامت كل من الولايات المتحده الأمريكيه وبريطانيا بتأسيس هيئة الأمم المتحده على أنقاض عصبة الأمم وكتبتا ميثاق الهيئه ومنحتا الولايات المتحده الأمريكيه من خلال هذه الهيئه حق الوصاية على جميع العالم وإكتفت بريطانيا أن تقوم بدور التابع بعد ذلك فتحتا باب قاعة الإجتماع وسمحتا الى كل دول العالم بالدخول لملء كراسي القاعه بصفة أعضاء مراقبين ليست لهم كلمه اذا لم توافق الولايات المتحده الأمريكيه عليها
عام 1955 فكرت الولايات المتحده الأمريكيه وبريطانيا بإدارة الصراع بينهما من جديد في الجزء الشرقي من الشرق الأوسط فقامتا بإحياء ( معاهدة سعد آباد ) التي تم حلها عام 1948 عند حل عصبة الأمم , فقامتا بتأسيس حلف بغداد والحلف هذه المره تحت إدارة الأمم المتحده , تشكل الحلف من دول خاضعه الى بريطانيا وهي العراق وايران , ودول خاضعه الى الولايات المتحده الأمريكيه هي تركيا والباكستان ( الشرقيه والغربيه ) وكان الحلف تحت إدارة بريطانيا بإعتبارها هي الدوله المتضرره من هذا الصراع بينما إكتفت الولايات المتحده الأمريكيه بدور المراقب ولم تدخل الحلف بشكل مباشر , وللتعميه على السبب الحقيقي من تأسيس الحلف تم إعلان هدف وهمي للحلف على أنه الوقوف بوجه ( بعبع ) الإتحاد السوفييتي وهو سبب مضحك اذا علمنا أن النظام البلشفي في الإتحاد السوفييتي ما هو إلا مؤسسه أمريكيه , دعمتها وسلحتها وأسست وجودها الولايات المتحده الأمريكيه منذ أيام الحرب الأهليه الروسيه
أول ضربه موجعه تلقتها بريطانيا من خلال حلف بغداد كانت في العراق . نوري السعيد سياسي محنك ومؤكد أنه كان يفهم أسباب ودوافع الحلف الحقيقيه ولا يصدق الإدعاءات التي تساق في الإعلام , وكان يرى دور بريطانيا المضمحل إزاء الدور الأمريكي المتعاظم , ولهذا تصرف بشيء من الحماقه وبكثير من الإستعجال
في أول قيام حلف بغداد تم إجبار بريطانيا من قبل الأمريكان على توقيع معاهدة 1955 مع العراق ألغيت بموجبها معاهدة 1930
تنظيم الأخوان المسلمين هو مؤسسه أمريكيه تم إنشاؤها في نجد والحجاز لمحاربة النفوذ البريطاني عن طريق الدين منذ بدايات القرن الماضي ثم تم تصديرها الى مصر عام 1928 للإيقاع بالبريطانيين , وتم فتح فرع لها في العراق عام 1954 لنفس السبب . بدخول العراق الى حلف بغداد تم تأسيس حزب الدعوه الإسلاميه عام 1957 لمقاتله الحزبين طائفياً وإجبار بريطانيا على تسليم العراق ( أرض محروقه ) اذا لم تنجح الوسائل الأخرى لإخراجها من العراق
في زمن نوري السعيد تم تأسيس ( الإتحاد العربي ) 1958 من العراق والأردن كنموذج بريطاني مقترح للوحدة العربية , وبقدر ما كانت بريطانيا تضغط من خلال هذا الإتحاد على نوري السعيد من أجل جعله ظهيرا للأردن الذي ( يتهدد فيه نفوذ البريطانيين ) من قبل ( الأمريكان ) بأن يتم إبتلاع الأردن في أول حركة توسعية لإسرائيل ,, بقدر ما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تضغط على نوري السعيد من خلال حلف بغداد ,, ليقوم بضم الكويت الى الإتحاد العربي , لكي تبتلع الكويت أمريكياً بعد ذلك
تجلت حماقة نوري السعيد وإستعجاله في آذار عام 1958 وبعد أن زار وزير خارجية بريطانيا ( سلوين لويد ) بغداد وإجتمع بالملك فيصل الثاني بحضور ولي العهد عبد الإله ورئيس الوزراء نوري السعيد ووزير الخارجية توفيق السويدي إضافة الى الدكتور فاضل الجمالي
تم الحديث في هذا الإجتماع عن ضرورة أن تعلن بريطانيا إستقلال الكويت ليتم ضمها الى الإتحاد العربي وكانت الحجج التي زرعها السفير الأمريكي في بغداد على لسان نوري السعيد هي
# توسيع الإتحاد وقبول عضو غير هاشمي فيه
# مساعدة الأردن مالياً ليحافظ على حدوده مع إسرائيل
# مقاومة الدعايات الهدامة
# إستفادة الكويت من مياه العراق
# حماية الكويت من أي إغتصاب خارجي
عندها إعتذر سلوين لويد عن مواصلة الحديث في الموضوع قائلا : إن إستقلال الكويت أمر يستوجب قرارا بمستوى مجلس وزراء
بعد 3 أشهر ونصف من هذا الإجتماع وقع الإنقلاب الأمريكي في العراق 1958 , قام بالإنقلاب كل من جمال عبد الناصر وكميل شمعون ورشيد كرامي , أما أدوات التنفيذ فكانت السفاره المصريه في بغداد وثله من العسكر العراقيين نظمهم جمال عبد الناصر فيما يعرف ب ( منظومة الضباط الأحرار العربيه ) فتحول العراق من مستعمره بريطانيه الى مستعمره أمريكيه , وسأكتب عن كل هذا بتفصيل أكبر في موضوع مستقل
بعد خروج العراق من حلف بغداد في آذار 1959 تم نقل مقر الحلف الى تركيا وتغير إسمه الى ( حلف المعاهده المركزيه _ السنتو ) وخلال الفتره المقبله ستتعرض المصالح البريطانيه خارج حلف السنتو الى مضايقات كثيره من قبل الأمريكان , مثل الحرب الأمريكيه 1962 _ 1967 لإخراج بريطانيا من مستعمرة عدن بعد إحتلال بريطاني لها دام 129 سنه , أو الهجوم التركي 1974 على جزيرة قبرص البريطانيه وإحتلال نصف الجزيره وتأسيس ( جمهورية قبرص الشماليه ) عليه بحجة حماية مصالح القبارصه الأتراك , وفي نفس العام 1974 حل النظام الملكي في اليونان على الرغم من أن بريطانيا كانت هي من عيّن ملك اليونان وأن ( الأمير فيليب ) زوج الملكه اليزابيث الثانيه ملكة بريطانيا هو من العائله المالكه اليونانيه . إحتلال جزء من قبرص وحل الملكيه في اليونان لها غرض أمريكي محدد واحد هو إبعاد بريطانيا قدر الإمكان عن الوصول الى الممرات المائيه التي تربطها مع روسيا , وبذلك تبقى قارة أوربا مفتوحه امام تغلغل النفوذ الأمريكي فيها
عام 1971 وقعت حرب بين باكستان الغربيه ( اليوم إسمها باكستان ) وبين باكستان الشرقيه ( اليوم إسمها بنغلاديش ) لفصل هذين الجزأين من البلاد عن بعضهما , فالقواعد الأمريكيه في خليج البنغال مهمتها السيطره على الصين ودول جنوب شرق آسيا , أما القواعد الأمريكيه في بحر العرب وخليج عدن والخليج العربي فمهمتها السيطره على الشرق الأوسط والبلاد العربيه ولا يمكن التنسيق مع إدارة حكوميه واحده للقيام بكل هذا الدور ولذلك فمن الأفضل فصل البلد الى بلدين . تحت ذرائع شتى وقعت الحرب , ساندت فيها الهند بنغلاديش فتم فصلها عن باكستان , ورغم أن باكستان عضو في حلف السنتو الذي تديره بريطانيا , ورغم تذرع باكستان في طلب معونة الحلف ولكن لم يتم إسنادها لأن الحرب بين جزأي البلد هي ( حرب أمريكيه صرفه ) ولا تدخل ضمن تصنيف الصراع البريطاني الأمريكي , وهكذا فصل البلد الى بلدين
آخر ضربه موجعه تلقتها بريطانيا وهي عضو في حلف السنتو هي إحلال نظام الملالي في ايران ففي بداية شهر كانون الثاني 1979 قام نائب القائد العام لحلف الناتو الجنرال روبرت هويسر بالتواجد في طهران في مهمة بمنتهى السرية . فقامت الصحف السوفييتية بنشر مقال عنوانه (( الجنرال هويسر في طهران للتخطيط لإنقلاب )) . فقامت صحيفة نيويورك هيرالد توربيون بعد أيام بنشر مقال عنوانه : الجنرال هويسر في طهران لمنع وقوع إنقلاب
المهم أن الجنرال خلال هذه الأيام كان قد أشرف على إعدام جميع القادة الكبار في الجيش الإيراني الموالين للشاه والذين من الممكن أن يديروا البلد في حالة غياب الشاه . ثم أشرف هويسر على تسفير الشاه وعائلته الى خارج ايران يوم 16 / 1 / 1979 ثم غادر عائدا من حيث أتى
القائد العام للقوة الجوية الإيرانية الجنرال ربيع قال أثناء محاكمته التي سبقت إعدامه : الجنرال هويسر رمى الشاه خارج ايران مثلما يرمى فأر ميت
بعد ذلك حملت طائره أمريكيه الخميني من باريس التي كان مقيماً بها وأعادته الى طهران فكان أول عمل قام به هو تأميم المصالح النفطيه البريطانيه في ايران .. بعدها وفي نفس العام تم حل حلف السنتو