على الرغم من تحمّس تيار من القوميين الروس للتملّص من الإرث السوفياتي والتنكّر له، فإن ثمة جماعات تشعر بأن الاتحاد السوفياتي، ذلك الكيان الضخم الذي نازع الولايات المتحدة على زعامة العالم لعقود، كان – بقصد من البلاشفة الأمميين أم من غير قصد – أداة فاعلة في الترويج للمصالح الروسية، وكذلك الثقافة الروسية.
هذا الجدل، في اعتقادي غير محسوم، لا في الداخل الروسي ولا خارج تلك الدولة العظيمة التي تعرّف العرب والمسلمون عليها لأول مرة عبر رحلة أحمد ابن فضلان عام 922 م (310هـ) إبان حكم الخليفة المقتدر العباسي الذي حمّله في حينه رسالة إلى ملك الصقالبة (أي السلاف)، ومنهم قوم «روس».
ومن ناحية أخرى، أحسب أننا، من جانبنا كعرب، مقصّرون في التعرّف كما يجب على الروس شعبًا وثقافة وتاريخًا ومصالح، مع أنهم من أكثر الشعوب الأوروبية تفاعلاً مع العالمين الإسلامي والعربي. ولا حاجة للإطالة في هذا الأمر، مع أنه من المفيد قول ما يلي:
أولاً، إن المدى الجغرافي للروس وضعهم في حالة تعايش حينًا ومواجهات أحيانًا مع العالمين الإسلامي والعربي منذ بلغت جيوش الفتح الإسلامي «باب الأبواب» (دربند) في القوقاز وباشروا التعرّف بالسكان المحليين والاحتكاك بهم. يومذاك أطلق المسلمون والعرب على جبال القوقاز اسم «جبال الألسن» لكثرة اللغات في تلك الأصقاع الجبلية الوعرة حيث لا تغلب أكثرية على أقليات، حتى إن اسم داغستان أطلق على جزء لا بأس به من تلك المنطقة، ومعناه الحرفي «موطن الجبال». وقبل ذلك برزت نسبة اليهود إلى الخزّر، ومردّ ذلك، وفق الرواية السائرة، أن ملك الخزر العاصي يومذاك على «مسيحية» الروس والرافض «إسلام» الفاتحين المسلمين نأى بنفسه عن الديانتين واختار اعتناق اليهودية. ومن ثم شهدت أراضي الروس غزوات أقوام شتّى جلها من الشرق، وكانت أبرزها غزوات الشعوب التركية (الطورانية أو الألطائية) التي تغلغلت واستقرت في قلب روسيا، ومنها التشوفاش – أهم الشعوب التركية المسيحية – والتتار والباشكير (الباشغرد) والبلغار الأصليون، وهم غير البلغار السلاف الحاليين.
ثانيًا، روسيا تبقى أكبر دول أوروبا، وحتمًا، أكبر مواطن الثقافة السلافية. وبالفعل عندما أخذت القوى الأوروبية تشقّ طريقها نحو المشرق، التي ما انقطعت علاقتها الدينية به بسبب الأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين، كانت روسيا من القوى الأوروبية الكبرى التي أسّست لها حضورًا كنسيًا وتعليميًا وثقافيًا. وكانت «السمينارات» والمدارس المسكوبية (نسبة إلى موسكو أو «موسكبا»). وما زالت رواسب هذا الحضور موجودة على الرغم من «التراجع الروحي» أمام «الفكر الثوري» إبان الحقبة السوفياتية. وأذكر جيدًا إبان دراستي في لبنان، وتحديدًا في بلدة الشويفات القريبة من بيروت، الصلات الروسية الوثيقة لروسيا بالمنطقة ومنها زواج آخر قنصل لروسيا القيصرية في فلسطين، واسمه أليكسي كروغلوف، من سيدة أرثوذكسية من البلدة، ومن أحفاد هذا القنصل صديق عزيز جدًا من أيام الصبا.
وفي دراسة للباحث السوري الدكتور جوزيف زيتون، يشير الباحث إلى أن اهتمامات روسيا تعود إلى مطلع القرن الـ19 زمن القيصر إسكندر الأول وخلفائه. ويقول: إنه ظهرت أولاً عبر بناء أديرة وخانات ومستشفيات للزوار والحجّاج الروس إلى فلسطين والأرض المقدسة، والقدس بوجه الخصوص، وشملت بلدة صيدنايا السورية القريبة من دمشق لكون «دير السيدة» فيها مكان الحج الثالث عند المسيحيين بعد القدس وبيت لحم في فلسطين. كذلك برزت مع قنصل روسيا في بيروت الذي كلف مستشاره أن يجول في بلاد الشام ليضع تقريره في عقد الثلاثينات من القرن الـ19. وعلى أثر هذا التقرير كلف المجمع المقدّس للكنيسة الروسية الأرشمندريت بورفيريوس أسبينسكي بالسفر إلى فلسطين لمعاينة الواقع. وبالفعل رفع اسبينسكي تقريره المُسهب عن حالة الكنيسة الأرثوذكسية ورعاياها، والحاجة الملحّة إلى نهضة روحية واجتماعية وعلمية، وبيَّن الحاجة إلى تأسيس إرسالية روسية كبيرة لإغاثة بلاد الشام وكذلك مصر.
وحقًا، على الصعيد التعليمي – الثقافي ما كان الأديب الكبير ميخائيل نعيمة وحده من «الشوام» الذين درسوا في «السمينارات» الروسية والأوكرانية، بل درس فيها أيضًا عدد من الأعلام مثل الأديب والمربّي الفلسطيني خليل السكاكيني وثلاثة من أركان «الرابطة القلمية» في أميركا من السوريين – اللبنانيين هم رشيد أيوب وعبد المسيح حداد ونسيب عريضة، وطبعًا يضاف إلى هؤلاء العلاّمة الفلسطيني المقدسي بندلي الجوزي الذي درَس ودرّس في موسكو. وفي الإطار التعليمي، حسب زيتون، أسّس الروس في قرية المجيدل بمنطقة الجليل عام 1882 أول مدرسة روسية في فلسطين وذلك لمقاومة المد البروتستانتي القوي في المنطقة، وتلتها مدارس أخرى مجاورة في قرى الرامة وكفر ياسيف والشجرة عامي 1883 و1884.
وفي السياق نفسه، أذكر قراءتي كتابين ألّفهما روسيان اهتما بالمنطقة؛ الأول كتب في القرن التاسع عشر عنوانه «لبنان واللبنانيون» للقنصل قسطنطين بيتكوفيتش تناول تاريخ متصرفية جبل لبنان بين عامي 1862 و1882. وترجم لاحقًا إلى العربية. والثاني معاصر من الحقبة السوفياتية للباحثة إيرينا سميليانسكايا عنوانه «الحركات الفلاحية في لبنان النصف الأول من القرن التاسع عشر»، وأحسب أن كلاً منهما يعطي فكرة عن عمق الاهتمام الروسي في الحقبتين القيصرية والسوفياتية بالمشرق العربي.
نحن اليوم بعد التدخل الروسي في سوريا نقف مشدوهين حائرين في تفسير غايات موسكو، وننسى، مثلاً، أن الاتحاد السوفياتي السابق كان أول دولة اعترفت بالمملكة العربية السعودية.
الحقيقة أن روسيا ما كفّت عن اعتبار نفسها لاعبًا مؤثرًا على المسرح الدولي، فكيف عندما يتعلق الأمر بعلاقتها الإشكالية التاريخية مع الإسلام والشعوب الإسلامية، ومصالحها الجيوسياسية في خضم تنافسها الدولي مع القوى العالمية الأخرى، ومشاغلها الاقتصادية والنفطية في عالم تضارب المصالح وتكاملها؟
نحن اليوم بحاجة إلى خبراء في الشأنين الروسي والصيني لا يقلون شأنا عمّن درسوا التاريخين الأوروبي والأميركي..
هذا تحدٍ لنا، وعلينا أن نعرف عن الروس – والصينيين أيضًا – بقدر ما يعرفون عنا..