حريم السلطان

بقلم كوليت بهنا/
منذ إطلاق أول أجزائه في تركيا عام 2011 ومن ثم دبلجته وبثه على معظم المحطات العربية والعالمية، ما زال مسلسل “حريم السلطان ـ القرن العظيم”، المسلسل الأكثر شهرة وإشكالية. من الطبيعي أن تواجه الأعمال الدرامية التاريخية دوما بإشكاليات تترجم بالرفض والغضب والمساءلة والمحاسبة لكونها تكتب برؤى درامية يساندها خيال المؤلف الذي يختار من التاريخ ما يناسب الخلق الدرامي وما ينسجم مع فكره الشخصي ومعتقداته.
كأن يكون المؤلف متدينا مثلا فيكتب بما يخدم تدينه، أو صاحب رؤية علمانية مثل مؤلفة حريم السلطان، وهي التهمة الأبرز التي واجهت مؤلفة هذا المسلسل وأبطاله من قبل إسلاميين أتراك أو حتى من الرئيس أردوغان ذاته. وكاد الرئيس التركي أن يوقف هذا المسلسل متهما إياه بتشويه صورة السلطان “سليمان القانوني” أعظم سلاطين الدولة العثمانية وقد عالجت الأجزاء الأربعة الأولى من العمل حياته وفتوحاته وقصص حريمه ودسائسهن التي لا تنتهي داخل أروقة القصور.
في موسمه الثاني الذي أطلق قبل أكثر من عام ويعرض حاليا على بعض القنوات العربية، يتناول “حريم السلطان” حياة السلطانة “كوسم” أو “قسم” كما تم تعريب اسمها، وهي زوجة السلطان “أحمد الأول” وتعتبر أقوى وأجمل سلطانة في التاريخ العثماني وأكثرهن نفوذا.
اقرأ للكاتبة أيضا: راقصة في “سوتشي”
وسبق للدراما التركية أن قدمت أكثر من مرة شخصيتها المتفردة في السينما والتلفزيون والمسرح، ولكونها عاصرت بصفتها السلطانة الأم ونائبة السلطنة، أربعة سلاطين بعد وفاة زوجها، هم أبناؤها الذين ما إن كانت توصلهم للعرش حتى تقتلهم حين يجربون الحد من سلطتها وتدخلها في أمور الدولة واستبدادها وجشعها بالسلطة، في الوقت الذي استندت فيه بدهائها وقوتها إلى ولاء الإنكشاريين والشعب. واستطاعت بهاتين القوتين أن تحكم السلطنة العثمانية لأكثر من أربعين عاما تاركة خلفها الكثير من الأعمال الخيرية التي أكسبتها حب الشعب، والكثير من الآثار المعمارية التي أنشأت أساسا لخدمة الناس وتسيير أمورهم ولا تزال قائمة حتى اليوم.


عظمة الدول الكبرى لا تبنى بالاستبداد والقمع، ومهما طالت أو امتدت ستهوي عاجلا أم آجلا
المشاهد العربي لم ينجذب لهذا العمل بسبب الإنتاج الضخم والمبهر، ولا بسبب جماليات الصورة والموسيقى التصويرية وفخامة الديكورات أو جمال أبطاله وبطلاته والأزياء الساحرة التي ظهروا بها، وإن كانت عناصر فنية ناجحة تساعد في جذب أي مشاهد عادي؛ إنما يكمن السبب في تقديم العمل للتاريخ برؤية جديدة وإضاءة الجانب الآخر من حياة السلطنة العثمانية، والكشف عن التفاصيل الحميمية والداخلية لهذه القصور التي كانت مبهمة وخفية عن الانسان العربي الذي وقع تحت حكم هذه السلطنة لأربعة قرون متتالية. ودفع خلال سنوات الحكم هذه غاليا عبر إهمال مدنه من قبل هذه السلطنة أو ترييفها وإفقارها، إضافة إلى جور الضرائب التي كانت تقتطع من دمه وعرقه لتذهب لخدمة ملذات الباب العالي وسلاطين السلطنة وحرمهم وجواريهم وتعظيم قصورهم ودولتهم على حساب الشعوب العربية بشكل خاص.
وفي رؤية أوسع، لا شك أن أي مؤلف لعمل تاريخي يختار فصلا من التاريخ للإضاءة عليه. يضع نصب عينيه هدفا واضحا يريد أن يوصله كرسالة لأبناء زمنه المعاصر واستخراج العبر والخلاصات من التاريخ لخدمة الحاضر. وفي هذا السياق اجتهدت مؤلفة القسم الخاص بالسلطان سليمان القانوني، ومن ثم مؤلفا القسم الخاص بالسلطانة كوسم ليقولوا إن عظمة الدول الكبرى لا تبنى بالاستبداد والقمع، ومهما طالت أو امتدت ستهوي عاجلا أم آجلا.
ليس من الضروري أن تسقط بسبب المؤامرات المستمرة التي تحاك ضدها من الخارج فحسب، إنما من تآكل بيتها الداخلي. فهذه السلطنة التي صالت وجالت لقرون، تهاوت أيضا بسبب السوس الذي كان ينخر في أوصالها والمؤامرات الداخلية والدسائس بين قاطني القصور وتصفيتهم لبعضهم البعض من أجل الجشع بالسلطة. وسواء حكمها أعظم سلطان أو أعظم سلطانة، سيرحلان في النهاية، ليبقى الشعب.

شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.