حرب السعوديين الطاحنة

khacheqji-jamalالحياة اللندنية: جمال خاشقجي

بين مثقفين يدعون لاجتثاث خصومهم المفكرين، ودعاة يتهمونهم بالعداء للوطن، يعيش السعوديون حرباً طاحنة بين دعاتهم الدينيين ويمينهم المحافظ، وبين مثقفيهم وكتاب صحفهم، وتيار يقول إنه ليبيرالي.

اخترت الانسحاب على رغم أنني تورطت في السابق في صراع التيارات السخيف هذا، والذي بت أسميه «ملهاة الرعيان» إذ لا تفارق مخيلتي صورة مسؤول حكومي يتابع على شاشة بلازما كبيرة اثنين من ممثلي التيارين يتبادلان التهم، ويلوح كل منهما بأوراق تدين الطرف الآخر، وكلاهما يزعم أنه الأحرص على الوطن، بل أحياناً يستدعي السلطة على خصمه، فيبدوان وكأنهما ديكان يصطرعان، فيضحك المسؤول، ليضحك معه جلساؤه، الذين يندر أن يعارضوه في رأي، ويقول: «دعهم يتصارعون فهم يحرقون أنفسهم بأنفسهم»، ولكن كل الأطراف تحرق هذا الوطن بهذا الصراع، بما في ذلك من يشجعه ويتركه بلا حسم، فتتجزر هذه الانقسامات الوهمية، وتتحول إلى قبائل سياسية تختصم حول «ناقة بسوس» وليس حول تكلفة إعاشتها وحقها في الرعي من عدمه، وجدوى زراعة علفها أم استيراده، أو حتى الجدوى الاقتصادية لتربية بضعة ملايين من النوق مثلها في بلاد استهلكت مواردها الطبيعية منذ عقد أو اثنين، ولكنها لا تزال تفضل أن تختصم حول ثوابت حسمتها دول أصغر منها سناً، على أن تنشغل بما هو أدعى وأهم.

إنه وقت غير مناسب لمثل هذه الصراعات، فالمملكة تشهد حربين على جبهتين، الرأي العام قلق على أمنه وعلى اقتصاده، وبدأ يشعر تدريجياً بقرصة كلفة الحروب وانخفاض أسعار النفط، ولكن في خضم ذلك انفجرت قصة فتاة تقف على الرصيف، جاءها عضو في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طلب منها تغطية وجهها، تجادلت معه، هربت منه، لاحقها، سقطت على الأرض فجرها من قدميها، ربما حصل هذا من قبل في غير مكان، ولكنه زمن الإعلام الاجتماعي، فكان هناك من وثق الحادثة، فأصبحت قضية رأي عام، انفجرت الصحافة تنتقد الهيئة وتصرفها، والود مفقود بين الاثنين منذ زمن، فالصحافة بطبعها – في السعودية أو غيرها – تنحو نحو الحرية والعصرنة، وأيضاً تعنى بغريب الأخبار، ولا يمكن أن يمضي خبر جر فتاة من رجليها في الشارع من دون أن تغطيه. التيار الديني تعامل مع تصرف الإعلام الطبيعي والمتسق مع وظيفته بأنه تصيد واستهداف للهيئة، التي يؤمنون بأنه لولاها لفسد المجتمع السعودي، فاشتعلت الحرب بين الطرفين، واتسعت بفتح ملفات أخرى، ودخلها الدعاة وخطباء المساجد، وزادت في اشتعالها ساحة الإعلام الاجتماعي حيث لا ضابط ولا رابط للمتشاتمين فيه.

سجل الإعلام وكتاب الأعمدة ومقدمو البرامج التلفزيونية أهدافاً في مرمى التيار الديني والهيئة، فكان لا بد لها أن ترد وتثأر بعدما ارتفعت أصوات تدعو حتى إلى حلها وضمها إلى وزارة الداخلية، وبالطبع انقسم الشعب، القلق أصلاً والمتوتر بسبب الأحداث المحيطة بالمملكة، حول المسألة التي في حقيقتها أسئلة قديمة لم تحسم في المملكة، على رغم عمرها المديد بوصفها دولة حديثة، تدور حول الهوية والتعددية والحريات الشخصية وحدودها.

وعلى رغم أن الهيئة جهة حكومية وتتبع مباشرة لمجلس الوزراء فإنها أيضاً تمثل تياراً شعبياً متحمساً لها ويراها معبرة عن رؤيته لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع، بل لو استطاع لفرض مسطرته على المواطنين كافة، وهؤلاء يتميزون أيضاً بقدر كبير من التعصب، وقد اضطرت الدولة إلى إصدار عشرات التوجيهات والضوابط للحد من غلوائهم، ولكنهم في النهاية متحمسون ويؤمنون بأن الحق معهم وأن تفسيرهم الصارم لتعليمات الشريعة هو الحق، وأن واجبهم ليس تبيان ذلك للناس، بل إنزالهم عليه، فـ «الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».

فجاء انتقام التيار من زميل معروف، مقدم البرامج الشهير علي العلياني، قالوا إنه يشرب الخمر، وصوره وزجاجاتها بجواره والقيد بيده، في تشهير صريح مخالف لكل الأنظمة والأعراف، في تلك الليلة كان بإمكانهم القبض على غيره من المذنبين فما أكثرهم، حتى في المدينة الفاضلة، ولكن كان من الضروري أن يكون المذنب إعلامياً مشهوراً ليرسل الرسالة المطلوبة ويسجل الهدف في مرمى الخصم، أثبتت الفحوص براءته، ولكن التشهير وقع، فازداد الغضب والتلاوم اشتعالاً، الوطنية ملجأ من لا ملجأ له، رفع المتدينون شعار «إعلامنا يخدم أعداءنا، إعلامنا يخرق سفينتنا»، رد عليهم الكتاب بهجوم شرس، عشرات المقالات تكرر الفكرة نفسها، تتهم الهيئة بالاعتداء على حرمة البيوت، وبالترصد للناس، استذكر الجميع سماحة الدين، وإن لم يعملوا بها وهم يختصمون، صرخ البعض: «لم يخرج من بين الإعلاميين إرهابي ولكن خرج من صفكم دواعش». خرجت صيحات تدعو للاجتثاث والاستئصال، يتدخل المسؤول فيوقف هذا عن الكتابة ويقيل ذاك من منصبه، ولكنه لا يحل أصل المشكلة.

قبل سنوات، وفي جلسة لمجلس الوزراء بعهد الراحل الملك عبدالله، دعا المجلس إلى ترسيخ «حق الناس في الاختلاف»، كأن الراحل تركها لنا بمثابة شعار لعلنا نفعّله ونحوله إلى واقع بنظام وثقافة وتعليم وتربية، ولكننا لم نفعل بعد، ما حصل ويحصل الآن، في حروب القبائل الفكرية السعودية يؤكد أنه حان الوقت لنظام ما يحمي حق الناس في الاختلاف، نظام يؤسس على الشريعة لا قوانين وضعية، فمدرسة الرأي الواحد غيبت عن المجتمع السعودي ثراء التعدد الحضاري والفقهي والتشريعي المتاح في الإسلام، الممتدة اجتهاداته من سومطرة حتى كازابلانكا، إسلام عريض عمر حضارته وفقهه ومدارسه 1400 سنة، مكتبة هائلة ثرية نبحر فيها لنجد فيها أجوبة العصر الحديث، ولكننا نقف أمام رف واحد.

حتى ذلك الحين، أتمنى على الزملاء أن يضربوا عن الكتابة والجدل في موضوع الهيئة والهوية، فكل ما يكتبونه يزيد الاحتقان احتقاناً، ولم تعد هناك حجة تضاف إلى حججهم، لقد استمع صاحب القرار إلى مرافعتهم، فليصدر حكمه.

توقف احتجاجي يريح الجميع، وينفّس الاحتقان، ولكنه سيجعل قضايا الهوية والحقوق والحريات قضية علاقة مباشرة بين المسؤول والمواطن، وليس صراع تيارات.

سآخذ بنصيحتي وأجعل هذه آخر مقالة أكتبها عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا مزيد لمستزيد.حرباً طاحنة بين دعاتهم الدينيين ويمينهم المحافظ، وبين مثقفيهم وكتاب صحفهم، وتيار يقول إنه ليبيرالي.

اخترت الانسحاب على رغم أنني تورطت في السابق في صراع التيارات السخيف هذا، والذي بت أسميه «ملهاة الرعيان» إذ لا تفارق مخيلتي صورة مسؤول حكومي يتابع على شاشة بلازما كبيرة اثنين من ممثلي التيارين يتبادلان التهم، ويلوح كل منهما بأوراق تدين الطرف الآخر، وكلاهما يزعم أنه الأحرص على الوطن، بل أحياناً يستدعي السلطة على خصمه، فيبدوان وكأنهما ديكان يصطرعان، فيضحك المسؤول، ليضحك معه جلساؤه، الذين يندر أن يعارضوه في رأي، ويقول: «دعهم يتصارعون فهم يحرقون أنفسهم بأنفسهم»، ولكن كل الأطراف تحرق هذا الوطن بهذا الصراع، بما في ذلك من يشجعه ويتركه بلا حسم، فتتجزر هذه الانقسامات الوهمية، وتتحول إلى قبائل سياسية تختصم حول «ناقة بسوس» وليس حول تكلفة إعاشتها وحقها في الرعي من عدمه، وجدوى زراعة علفها أم استيراده، أو حتى الجدوى الاقتصادية لتربية بضعة ملايين من النوق مثلها في بلاد استهلكت مواردها الطبيعية منذ عقد أو اثنين، ولكنها لا تزال تفضل أن تختصم حول ثوابت حسمتها دول أصغر منها سناً، على أن تنشغل بما هو أدعى وأهم.

إنه وقت غير مناسب لمثل هذه الصراعات، فالمملكة تشهد حربين على جبهتين، الرأي العام قلق على أمنه وعلى اقتصاده، وبدأ يشعر تدريجياً بقرصة كلفة الحروب وانخفاض أسعار النفط، ولكن في خضم ذلك انفجرت قصة فتاة تقف على الرصيف، جاءها عضو في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طلب منها تغطية وجهها، تجادلت معه، هربت منه، لاحقها، سقطت على الأرض فجرها من قدميها، ربما حصل هذا من قبل في غير مكان، ولكنه زمن الإعلام الاجتماعي، فكان هناك من وثق الحادثة، فأصبحت قضية رأي عام، انفجرت الصحافة تنتقد الهيئة وتصرفها، والود مفقود بين الاثنين منذ زمن، فالصحافة بطبعها – في السعودية أو غيرها – تنحو نحو الحرية والعصرنة، وأيضاً تعنى بغريب الأخبار، ولا يمكن أن يمضي خبر جر فتاة من رجليها في الشارع من دون أن تغطيه. التيار الديني تعامل مع تصرف الإعلام الطبيعي والمتسق مع وظيفته بأنه تصيد واستهداف للهيئة، التي يؤمنون بأنه لولاها لفسد المجتمع السعودي، فاشتعلت الحرب بين الطرفين، واتسعت بفتح ملفات أخرى، ودخلها الدعاة وخطباء المساجد، وزادت في اشتعالها ساحة الإعلام الاجتماعي حيث لا ضابط ولا رابط للمتشاتمين فيه.

سجل الإعلام وكتاب الأعمدة ومقدمو البرامج التلفزيونية أهدافاً في مرمى التيار الديني والهيئة، فكان لا بد لها أن ترد وتثأر بعدما ارتفعت أصوات تدعو حتى إلى حلها وضمها إلى وزارة الداخلية، وبالطبع انقسم الشعب، القلق أصلاً والمتوتر بسبب الأحداث المحيطة بالمملكة، حول المسألة التي في حقيقتها أسئلة قديمة لم تحسم في المملكة، على رغم عمرها المديد بوصفها دولة حديثة، تدور حول الهوية والتعددية والحريات الشخصية وحدودها.

وعلى رغم أن الهيئة جهة حكومية وتتبع مباشرة لمجلس الوزراء فإنها أيضاً تمثل تياراً شعبياً متحمساً لها ويراها معبرة عن رؤيته لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع، بل لو استطاع لفرض مسطرته على المواطنين كافة، وهؤلاء يتميزون أيضاً بقدر كبير من التعصب، وقد اضطرت الدولة إلى إصدار عشرات التوجيهات والضوابط للحد من غلوائهم، ولكنهم في النهاية متحمسون ويؤمنون بأن الحق معهم وأن تفسيرهم الصارم لتعليمات الشريعة هو الحق، وأن واجبهم ليس تبيان ذلك للناس، بل إنزالهم عليه، فـ «الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».

فجاء انتقام التيار من زميل معروف، مقدم البرامج الشهير علي العلياني، قالوا إنه يشرب الخمر، وصوره وزجاجاتها بجواره والقيد بيده، في تشهير صريح مخالف لكل الأنظمة والأعراف، في تلك الليلة كان بإمكانهم القبض على غيره من المذنبين فما أكثرهم، حتى في المدينة الفاضلة، ولكن كان من الضروري أن يكون المذنب إعلامياً مشهوراً ليرسل الرسالة المطلوبة ويسجل الهدف في مرمى الخصم، أثبتت الفحوص براءته، ولكن التشهير وقع، فازداد الغضب والتلاوم اشتعالاً، الوطنية ملجأ من لا ملجأ له، رفع المتدينون شعار «إعلامنا يخدم أعداءنا، إعلامنا يخرق سفينتنا»، رد عليهم الكتاب بهجوم شرس، عشرات المقالات تكرر الفكرة نفسها، تتهم الهيئة بالاعتداء على حرمة البيوت، وبالترصد للناس، استذكر الجميع سماحة الدين، وإن لم يعملوا بها وهم يختصمون، صرخ البعض: «لم يخرج من بين الإعلاميين إرهابي ولكن خرج من صفكم دواعش». خرجت صيحات تدعو للاجتثاث والاستئصال، يتدخل المسؤول فيوقف هذا عن الكتابة ويقيل ذاك من منصبه، ولكنه لا يحل أصل المشكلة.

قبل سنوات، وفي جلسة لمجلس الوزراء بعهد الراحل الملك عبدالله، دعا المجلس إلى ترسيخ «حق الناس في الاختلاف»، كأن الراحل تركها لنا بمثابة شعار لعلنا نفعّله ونحوله إلى واقع بنظام وثقافة وتعليم وتربية، ولكننا لم نفعل بعد، ما حصل ويحصل الآن، في حروب القبائل الفكرية السعودية يؤكد أنه حان الوقت لنظام ما يحمي حق الناس في الاختلاف، نظام يؤسس على الشريعة لا قوانين وضعية، فمدرسة الرأي الواحد غيبت عن المجتمع السعودي ثراء التعدد الحضاري والفقهي والتشريعي المتاح في الإسلام، الممتدة اجتهاداته من سومطرة حتى كازابلانكا، إسلام عريض عمر حضارته وفقهه ومدارسه 1400 سنة، مكتبة هائلة ثرية نبحر فيها لنجد فيها أجوبة العصر الحديث، ولكننا نقف أمام رف واحد.

حتى ذلك الحين، أتمنى على الزملاء أن يضربوا عن الكتابة والجدل في موضوع الهيئة والهوية، فكل ما يكتبونه يزيد الاحتقان احتقاناً، ولم تعد هناك حجة تضاف إلى حججهم، لقد استمع صاحب القرار إلى مرافعتهم، فليصدر حكمه.

توقف احتجاجي يريح الجميع، وينفّس الاحتقان، ولكنه سيجعل قضايا الهوية والحقوق والحريات قضية علاقة مباشرة بين المسؤول والمواطن، وليس صراع تيارات.

سآخذ بنصيحتي وأجعل هذه آخر مقالة أكتبها عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا مزيد لمستزيد.

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.