مقدمة :
يقول (داوكنز) مؤلف هذا الكتاب العِلمي الرائع في إحدى الحواشي عن هذا الموضوع (الذي جعلته عنواناً للجزء السابع) ما يلي:
إنّ إشاعة (أنّ هتلر قد اُلهِمَ بنظرية داروين) تأتي جُزئيّاً من كون كلاهما قد اُعجبا بشيء يعرفه الجميع منذ قرون!
يُمكنك تربية سُلالات الحيوانات لأجلِ صفاتٍ مَرغوبة,تلك حقيقة واقعة!
وحقّاً طَمَحَ (هتلر) لتطبيق تلك المَعرفة العامة على البشر!
إنّما داروين نفسه لم يفعل شيئاً كهذا البتّه!
فقد أخذَ إلهامه الى إتجاهٍ أكثر واقعيّة وأصالة وإثارة !
لقد كانت بَصيرة داروين العظيمة هي إكتشافه أنّكَ لاتحتاج الى عامل تربية سلالات على الإطلاق!
فالطبيعة (عبر النجاح بالبقاء حيّاً أو تفاوت النجاح التكاثري) يمكنها لَعب دور المُربّي (مربّي السلالات)!
نعم نظرية هتلر (التطوّرية الداروينيّة الإجتماعيّة) ,أو إيمانه بالصراع بين أجناس البشر ,بعيدة عن الداروينيّة الأصليّة جداً !
فعند داروين ,الصراع على الوجود هو صراع بين أفراد من نفس النوع وليس مع جنس أو نوع أو مجموعة أخرى!
نحن نعلم اليوم أنّ أغلب العامة والدوغمائيين (المتزمتين دينيّاً وعقائديّاً) وللأسف بعض (هواة) شرح الفكرة التطوريّة أيضاً لايفرقون بين الإثنين!
***
ماذا قالَ داروين نفسه ؟
هنا ينقل لنا داوكنز بعض كلام داورين العلمي البليغ التالي ,ثمّ يعلّق عليه
[يمكن أنْ يُقال أنّ الإصطفاء الطبيعي يُمَحَّص ويُختبَر كلّ يوم وكلّ ساعة. خلال هذا العالَم الواسع ,كلّ تنوّع يُمحّص حتى الأتفه!
نابذاً ما هو سيّء .حافظاً ومُضيفاً كلّ ما هو جيّد .عاملاً بصمت وبلا إحساس .حالماً أينما اُتيحت الفُرَص لتحسين كلّ كائن عضوي بالترابط مع ظروف حياته العضوية وغير العضوية!
نحنُ لا نرى شيئاً من هذه التغيّرات البطيئة في تقدّمها حتى يؤّشر عقرب الساعة لإنقضاء حُقب مديدة من العصور!
بالتالي فهي ناقصة للغاية نظرتنا للعصور الجيولوجيّة الماضية الطويلة بحيث نحن نرى فقط أنّ أشكال الحياة تختلف الآن عمّا كانت عليه سابقاً]!
يقول داوكنز :
لقد إقتبستُ (كعادتي) من الإصدارِ الأوّل لتحفة داروين العلميّة ,جملة إستيفائية وَجَدَت طريقها الى الطبعات اللاحقة:
“يمكن القول مَجازاً أنّ الإنتخاب الطبيعي يُمحّص كلّ يوم وكلّ ساعة”
مع ملاحظة أنّ عبارة داروين (يُمكن انْ يُقال) كانت ضرورية في حينها عام 1866 ,حتى حسب رأي (ألفرد والاس) الذي هو شريك داروين في إكتشاف الإنتخاب الطبيعي .نظراً لسوء فهم الآخرين المقصود أحياناً!
وقد فضّلَ والاس حينها مصطلح هربرت سبنسر (البقاء للأصلح) على مصطلح داروين (الإنتخاب الطبيعي) ,لتجنّب إساءة الفهم!
في الواقع كانت وجهة نظر (والاس) معقولة جداً يومها ,لكن مصطلح سبنسر له مشاكله أيضاً .إنّما هذا موضوع آخر ليس مجاله الآن!
على كلٍ ,أنا اُفضّل (يقول داوكنز) إتبّاع إستراتيجية داروين لتقديم الإنتخاب الطبيعي من خلال التدجين والإنتخاب الإصطناعي .كون التجارب العملية أيّدت ذلك!
***
الخلاصة :
الداروينيّة الإجتماعية تعني بإختصار مفهوم (البقاء للأقوى)!
المتفوقين من الأفراد والمجموعات والسُلالات يصبحون لاحقاً ذوي نفوذ وثراء ,فينالون القوة والسلطة والقيادة وتسيير المجتمع!
عندي أنّ أكبر خطأ إرتكبه هتلر بخصوص معتقداته الخاصة بالصراع بين أجناس البشر للوصول الى جنس خارق ,يتمثّل في كونه أهمل الطبيعة الإنسانيّة ذاتها وما قد تحملهُ من مشاعر وأحاسيس وأخلاق وصفات عامة تدفع الغالبية لإستنكار ورفض القبول أصلاً بتفوّقهم (لوحدهم)كجنس من دون باقي الأجناس البشرية!
وكمثال تطبيقي عايشته على أرض الواقع في السويد التي أقطنها خلال
الـ 15 عام الأخيرة ,أنّ طبيعة السويديين دون تضخيم و مبالغة (أعترف أنّي أستعملها ,لكن لأغراض الضحك والتنكيت فقط)!
هم يناضلون ويكافحون الى حَدّ التضحية بحياتهم أحياناً لمساعدة الآخرين الذين يحتاجونهم ليرفعوا من شأنهم في هذه الحياة!
هم يؤمنون بضرورة أن يحيا الناس جميعاً بسعادة ورفاهية قدر الإمكان!
لكن من جهة أخرى ,نعم هناك أمثلة عديدة لطوائف أو عقائد (عدا النازية الهتلرية) تعتقد وتطبّق ما قاله هتلر (لكن دون إعلان ذلك بالطبع)!
كالوهابيّة (السلفيّة الإسلاميّة) في عصرنا الراهن ! التي تحلم بإبادة الجميع إذا لم يتبعوا ملّتهم ,كونهم (خير أمّة اُخرجت للناس) حسبما يظنّون!
لذلك نحنُ ما نفتأ نقول أنّ الوهابيّة خطر كارثي على العالم ,إذا لم ننجح في علاجه قد يقود الى مستقبل مظلم ,أظلم حتى ممّا فعله هتلر النازي وموسوليني الفاشي وصدام البعثي!
في الواقع هذا المعنى كان مُتضمّن بمقال (رسالة) أرسلته الى الامين العام للأمم المتحدة (بان كي مون) ,عام 2010 تُرجم الى الإنكليزية وموّقع من عدد لابأس به من الكتاب والقرّاء الكرام ,أدرج رابطه أدناه!
حسناً :جميعنا نعلم اليوم أنّ مَن يؤمن بالداروينية الإجتماعية شيء ,لكن تطبيقها عمليّاً بإبادة البشر المختلف هو شيء آخر بالمرّة!
لأنّ العلِم يقول: يمكنك التوصل لو سمحت لك أخلاقك والقوانين السائدة
وحالفك النجاح دوماً ,الى ما أسماه (فريدريك نيتشه): الإنسان الأعلى ! ربّما على غرار (السوبرمان) الخرافي!رغم أن نيتشه كان يقصد شيء آخر بالتأكيد .وهذا موضوع آخر يشبه موضوع اليوجينيا ,التي هي حركة علمية أو علم تحسين النسل صاغها العالِم (فرانسيس غالتون) عام 1883
وهو بالمناسبة إبن عمّ العالِم الأشهر (تشارلس داروين) وقد عاصره!
تدعو الى عدم الإنجاب (لو) تأكّد علميّاً أنّ المولود سيحمل تشوّهات خَلقية وعقلية مثلاً! ولا أدري ما العيب في ذلك؟
فمَن يرغب بجلب طفل مشوّه يعاني هو وذويه ,طيلة فترة بقائه حيّاً ؟
وما طعم تلك الحياة في الواقع؟ إذا كان ممكن تدارك وإجهاض الحمل والإنتظار لمحاولة جديدة ناجحة بمساعدة العِلم ,فلِمَ لا؟
لكن بالطبع جماعات وأحزاب وأفراد إستغلوا (اليوجينيا) لأفكارهم المريضة ومنهم هتلر!
أقول في ختام هذا الموضع المهم :
الإنسان نفسه وحسب أفكاره هو الذي يقرّر كيف يستفيد من فكرة أو نظرية أو حقيقة عِلمية ما ,إيجابيّاً أو سلبياً .. أليس كذلك ؟
لأنّ كلّ شيء تقريباً في هذه الحياة ,هو سلاح ذو حدّين!
وأفضل مثال يعرفه الجميع هو ما قام به العالِم السويدي (الفرد نوبل)عندما طوّر إستخدام (النتروغلسرين) وهو غير آمن الى (الديناميت عام 1867)
وهو أكثر أمناً .ثم طوّر هذا الى (الجلجلنيت عام 1875) الأكثر إستقراراً
وإستمر في طريقه ,لغرض حفر المناجم وفتح التُرَع والجداول والأنفاق ونسف الصخور لأغراض السكك الحديد والمساعدة في مشاريع عملاقة ,كقناة بنما التي هي أعظم إنجاز هندسي بشري على سطح الكوكب!
كلّ همّ نوبل كان (الأمان) المطلوب في حالة إستخدام المتفجرات كونه فقد أخاه في حادثة إنفجار في المختبر الذي يعمل به!
مع ذلك اُسيء إستخدام إختراع نوبل لاحقاً في الحروب .وعندما عَلِم أواخر حياته بذلك حَزِن كثيراً وأوصى بثروته الضخمة (30 مليون كرونة في ذلك الزمان) لتشجيع العلماء في مختلف صنوف العلم ..والسلام !
***
رابط 1 / رسالة مفتوحة الى بان كي مون ,عام 2010
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=234055
رابط 2 / اليوجينيا ومصدر الأخلاق !
http://www.civicegypt.org/?p=54748
رابط 3 / الداروينية الإجتماعية!
http://ency.kacemb.com/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D9%88%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A9/
تحياتي لكم
رعد الحافظ
22 يوليو 2016