جينوسايد قانوني …؟؟!!..

كل شيء يبدأ بفكرة و الفكرة تعكس حاجة داخلية في أعماق الانسان او في ظروفه المادية… و فكرة إلغاء الاخر ما يزال horseboyيعشعش في أعماق بني البشر في صراعه مع ذاته و في محاولة للهروب … كما ان فكرة حماية حياة و حقوق الناس و كذا حماية الحيوان و الشجر و الطبيعة تعبر عن رغبة داخلية في توفير الأمن الذاتي… و لذلك فانه رغم الفارق الظاهري بين الاتجاهين… الإلغاء او الحماية … الا ما يجمعهما هو الذات.. سواء كانت ذاتا فردية ام جمعية… و هذا هو الأساس الذي قد يجمع مفهومي الجينوسايد و القانون… هل يمكن ان يحدث ذلك ..؟؟.. فلنحاول ان نناقش و نفهم.. و لا بئس ان نبدأ ببعض التساؤلات المهمة البسيطة في صيغتها لعلنا نتعمق تدريجيا…

هل يمكن ان يجتمع القانون و اللا قانون او يجتمع الظلم و الرحمة..؟؟.. أرجو ان نستدرك اننا لا نتحدث هنا عن قدرة الله و إمكاناته العابرة لحدود تصورات الانسان و حساباته و مفاهيمه…. كما اننا لا نشير بالضرورة الى ما خلق الله في المنظومة السايكولوجية للإنسان …( فالهمها فجورها و تقواها )… حيث صراع الثنائيات و الذات المتشظية… و إنما نتحدث عن ديمومة بل تفوق النزعة الانتقائية التي تحولت عبر التراكم الزمني الى ثقافة متجذرة في علاقات بني البشر مع بعضهم البعض و كذلك مع غيرهم من الكائنات و الجماد رغم ظهور الفلسفات و الأفكار و القيم الأخلاقية الجامعة

Convergence

و الداعية لاحترام الاخر و التعايش السلمي معه…

كيف يمكن ان تجتمع قيمة القتل العام و قيمة حماية الاخر ضمن إطار مجتمعي واحد بل و ضمن إطار نظام سياسي قائم على أسس من المفروض ان تكون محددة و واضحة..؟؟.. مرة اخرى…نحن لا نتحدث هنا عن قضية الحرب و السلام و إدارة الصراعات و إنما عن قتل أفراد مجموعة بشرية ليس بسبب جرائم او جنايات محددة الإطار و إنما على أساس هويتهم و انتمائهم غير الإرادي الى جذور أنثروبولوجية …خاصة ان هذا القتل سواء كان جسديا او نفسيا او اجتماعيا سياسيا او أقتصاديا يحدث في ظل وجود قانوني يرتبط أساسا مع وظيفة محددة هي حماية كل أفراد المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم المختلفة… نعم نتحدث عن اشكالية أخلاقية عميقة في الجمع بين الجينوسايد و القانون…

الجينوسايد مفهوم قانوني سياسي يشير الى اعمال قتل جماعي لمجموعة بشرية لأسباب سياسية تتعلق بالبنية الاجتماعية لهذه المجموعة … هذه البنية الاجتماعية قد تكون إثنية او قومية او قبلية او وطنية او غيرها… ما يميز الأساس الأخلاقي للقيام بالجينوسايد هو التفاعل السياسي المشترك لهذه المجموعة …من وجهة نظر مرتكبي الجينوسايد الذين يعتبرون التفاعل السياسي المشترك جريمة عامة يستحق عليها جميع أفراد المجموعة البشرية عقابا موحدا بغض النظر عن حقيقة دور كل فرد في التهمة الموجهة او الجريمة المفترضة كما يفترض القانون المدني…

على هذا الأساس يعتبر العقاب الجماعي مناقضا لأسس القانون و القتل الجماعي جريمة كبرى و هذا هو أساس مفهوم الجينوسايد.. و حيث ان اعمال العقاب و القتل الجماعي تعتبر من الممارسات التي كانت تسود في المجتمعات القديمة سواء تلك التي بنت حضارات كبرى او غيرها من المجتمعات الصغيرة فان الدولة الحديثة أقرت مبادئ إنسانية تمنع هذه الممارسات ….او هكذا كان يجب ان يكون… لكن رغم ان قوانين جميع الدول و كذلك القوانين الدولية تضمن عدم قيام الحكومات و المؤسسات و الأحزاب بممارسة اي نوع من انواع العقاب الجماعي الا ان الواقع يؤشر الى وقائع و تجارب رهيبة حتى بعد قيام الدولة الحديثة و هي مبدئيا دولة المواطن التي تفرق بين الفرد و انتمائه الاجتماعي السياسي في حالة ارتكابه اية مخالفة قانونية.

التاريخ يذكرنا بحقيقة مؤلمة و هي انه لا القيم الأخلاقية الدينية و الفلسفية و الحضارية في المجتمعات القديمة و لا قيم الديمقراطية و حقوق الانسان و حقوق المواطنة و الفردية في المجتمعات الحديثة استطاعت ان تشكل رادعا حقيقيا تمنع ممارسات العقاب الجماعي …. تجارب الاستعمارين القديم و الحديث مليئة بهذه الممارسات الرهيبة و الغريب ان دولا قوية ما تزال تلعب دورا حاسما في العلاقات الدولية و منها مجال نشر أفكار الديمقراطية و حقوق الانسان كانت قد انشأت أساسا على جماجم شعوب قد تم تقتيلها و تدمير أسسها الاجتماعية و الحضارية و تشريد من بقي من إفرادها او وضعهم في سجون جماعية كبرى تحت اسماء مختلفة مثل مخيمات او غيرها…

اهم هذه الدول على الإطلاق هي الولايات المتحدة التي تقود الان مشروعا كونيا للنظام الديمقراطي …!!.. و كذلك استراليا و كندا نيوزيلندا و هي تدور في الفلك الامريكي بشكل شبه كلي.. اما في الشرق الأوسط فان اسرائيل هي نموذج تجاوزت كثيرا التجربة الامريكية و مثيلاتها الغربية في التقتيل و التشريد المستمر للشعب الفلسطيني داخل الحدود و عبر الحدود رغم ان الأساس الأخلاقي لوجودها كدولة اعترفت بها الامم المتحدة كان بسبب الاضطهاد لليهود عبر التاريخ و اخرها الهولوكست التي كانت احد الأسباب المباشرة لظهور مصطلح الجينوسايد..

و لكن لحسن حظ اسرائيل …. وفق التعريفات التبسيطية… فإنها وجدت شركاء كثيرين بل ان هناك تجارب جديدة تفوق النموذج الاسرائيلي في ثقافة ازالة الاخر و التوحد المرضي تحت مسميات تدور حول محور شعب الله المختار و ان اختلفت في النصوص و التأويل و الإخراج… و لعل اهم مرتكزات هذه الشراكة الثقافية هو ان الكثير من ممارسات الجينوسايد الجارية تجري في ظل حماية و تنظير قانوني … او تشريعي كان يوما أساسا للقانون و الان يعمل الكثيرون ان يعيدوه بديلا للقاون الوضعي …

اغلب التحولات الجارية في مجتمعات الثورات العربية تدخل في إطار الجينوسايد القانوني سواء كانت الدولة تقف في موقع الفعل ام رد الفعل… فالدولة فقدت قدرتها ان تكون دولة تدير المجتمع في ظل القانون… بل أصبحت فرقة مثل بقية الفرق الاخرى توظف القانون في شرعنة أعمالها في دحر المنافسين بشكل جماعي … و لا فرق في ذلك ان يكون المنافس جماعة سياسية او مجموعة إثنية او دينية …

احزاب كبيرة توضع كاملا بشكل اعتباطي تحت بنود قانونية تمنع الإرهاب… و مجموعات دينية و إثنية تقتل رجالا و نساء و أطفالا…. و مدن و قرى تزال كليا من الخارطة دون ان يحقق احد ان كان هناك مجرمون او متهمون او أبرياء … و رغم هذه الحالة الغريبة من تعاطي اهل القانون مع وظيفتهم الاخلاقية و العملية فان هناك حرصاً شديدا على احترام القضاء من قبل اهل السلطة و الدائرين في فلكهم من المثقفين و كذلك اؤلئك الذين ما زالوا يؤمنون بقيمة القانون و قدسيته… فتظهر رغبات في صيغة حقائق غير واقعية عن استقلال القضاء و القبول بحكمه …

شيء رائع ان يحترم الانسان القانون و لكن المشكلة ان القضاء كمؤسسة و القضاة كموظفين يتم تجييرهم مثل وعاض السلاطين من رجال الدين و المثقفين في شرعنة ممارسات اهل السلطة و تحقيق رغباتهم في القضايا الكبرى سواء كانت في إدارة انتخابات يعرف الجميع انها مجرد لعبة كل شيء فيها مزور حتى اسمها فما يسمى انتخابات هي ليست اكثر من مهرجان … و احيانا مهرجان دموي… للاحتفال بسلطة اهل الحكم و ينسى هؤلاء ان القصص الفولكلورية تتحدث فعلا عن مثل هذه المهرجانات في عهد الملوك في الحقب التاريخية القديمة حيث كانت مناسبات سنوية تعزف فيها و الرقص الشعبي و تقوم العوائل الملكية ببعض الرقصات و يتم توزيع انواع الطعام المختلفة و الهدايا على أفراد الشعب و خاصة الفقراء جداً… لكن هذه المهرجانات لم تغير شيئا من بؤس الفقراء و المحتاجين و من طبيعة العلاقة الاستبداية لأنظمة الحكم مع المحكومين..

هذه الصورة رغم بدائيتها فإنها افضل بكثير من مهرجانات الانتخابات في عهد الدولة الحديثة حيث يتم إرهاق الاقتصاد الوطني و لا ينتج الا المزيد من الشرخ الاجتماعي و الصراعات و ابتعاد اهل الحكم عن الناس و الإهم من كل ذلك طبيعة العلاقة المبنية على الكذب و الافتراء و تزوير آراء الناس و رغباتهم… و كل هذا تحت رعاية القضاء و القانون..

و الانتخابات أصبحت اكثر المواسم الناجحة في ممارسة الجينوسايد القانوني… في مقالات سابقة ذكرت ان الانتخابات المزمعة في بعض الدول العربية ستحسم بالفعل العسكري و ذكرت ان احد النماذج الأكثر احتمالا لاحتذائها هو النموذج الروسي… تلك المقالات سبقت احداث القرم… اما الان فقد اثبت روسيا بشكل جدي ما ذهبت اليه مقالاتي السابقة عن طبيعة الديمقراطية الانتقائية… في القرم أجرى الروس انتخابات “ناجحة جداً” لمناصري إلحاق شبه الجزيرة بالاتحاد الروسي … اما الآخرون … كل الآخرين الذين يشكلون اكثر من 40 في المائة من سكان قرم فكان عليهم البقاء في بيوتهم خوفا من الاعتداء عليهم و ربما قتلهم عن طريق أنصار الجماهير الروسية التي كانت تتصرف بشكل هيستيريا جماعية كبرى تحرسهم جنود لا وجوه لهم و لا هوية…

نعم كانت الانتخابات مهرجانا تذكرنا بمهرجانات القبائل ألكانيباليزمة عندما يتراقص الجميع حول جثث و أشلاء الضحايا من بشر لا ينتمون الى القبيلة… كما انها تذكرنا بانتصار الرجل الأبيض في جنوب افريقيا و إقامته نظاما ” قانونيا” للفصل العنصري ضد اهل البلد… هذا النظام الذي أيده الغرب لانه كان يجد جذوره في نشوء و تطور النظام الامريكي و تجارب الاستعمار البريطاني و الفرنسي و الهولندي و الإسباني…. الخ في مستعمراتهم المنتشرة في العالم….

الان يقدم نموذج الديمقراطية الانتقائية في القرم دعما إضافيا بل و يرسم خريطة طريق واضحة للانتخابات القادمة في البلاد العربية و اعتقد ان هناك الكثير من المؤشرات بهذا الاتجاه بل هناك ماكينة تفاعلية تنتج كل يوم خطوات جديدة لترسيخ نهج الجينوسايد القانوني..

لكن كي نكون اكثر دقة في رسم الصورة فلابد ان نذكر ان هذه الممارسات ” القانونية” للإزاحة الجماعية تعود جذورها الى البدايات الاولى لقيام الدولة الوطنية في الشرق الأوسط و انها استمرت و في مراحل تاريخية تطورت و أصبحت اكثر ترسيخا و هذا كان يمثل نزيفا مستمرا للأسس الاخلاقية و كذلك اندثارا للأسس الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية في صراع الهيمنة مع النموذج الاسرائيلي و في صراع ما يسميها البعض … غباء او طموحا.. الحضاري مع الاستعمار و الإمبريالية و الهيمنة الثقافية الغربية…

من سخرية القدر انه كلما رسخت أقدام النخب الحاكمة في الدولة الوطنية الحديثة في العالم كلما زادت مساحة اقترابها من النموذج الاسرائيلي … نعم… هذه الأيام تحاول اسرائيل ترسيخ يهودية دولتها و العرب في اختيارهم الجينوسايد القانوني فانهم يقدمون دعما عمليا لا يمكن إغفاله لهذا المشروع و ربما لن يمر وقت طويل حتى نجد هذا النموذج هو الواقع “الوحيد” القابل للتطبيق و الديمومة..!!!..

هل هي هزيمة ام انتصار للذات ..؟؟.. او انها توثيق اجتماعي لشدة التشظي الذاتي الفردي و الجماعي … امام شدة صراع الثنائيات داخل العقل الفردي و العقل الجماعي…

هل ضاعت الفكرة لان الحاجة الداخلية عادت الى عهد الا قانون و الذات أصبحت لا تفرق بين نزعة “إلانا” و فلسفة “نحن” فأصبحت الذات تحارب ذاتها ..؟؟… هل “الاخر ” يجب إزالته حتى و ان كان يوما جزء من “نحن”… و هل اصبح الجينوسايد ممارسة قانونية يمارسها هواة السلطة كما مارسها الفاتحون “العظماء” في التاريخ..؟؟..

نتابع… مع حبي و احترامي للجميع..

أكرم هواس (مفكر حر)؟

About اكرم هواس

د.اكرم هواس باحث متفرغ و كاتب من مدينة مندلي في العراق... درس هندسة المساحة و عمل في المؤسسة العامة للطرق و الجسور في بغداد...قدم الى الدنمارك نهاية سنة 1985 و هنا اتجه للدراسات السياسية التي لم يستطع دخولها في العراق لاسباب سياسية....حصل على شهادة الدكتوراه في سوسيولوجيا التنمية و العلاقات الدولية من جامعة البورغ . Aalborg University . في الدنمارك سنة 2000 و عمل فيها أستاذا ثم انتقل الى جامعة كوبنهاغن Copenhagen University و بعدها عمل باحثا في العديد من الجامعات و مراكز الدراسات و البحوث في دول مختلفة منها بعض دول الشرق الأوسط ..له مؤلفات عديدة باللغات الدنماركية و الإنكليزية و العربية ... من اهم مؤلفاته - الإسلام: نهاية الثنائيات و العودة الى الفرد المطلق', 2010 - The New Alliance: Turkey and Israel, in Uluslararasi Iliskiler Dergisi, Bind 2,Oplag 5–8, STRADIGMA Yayincilik, 2005 - Pan-Africnism and Pan-Arabism: Back to The Future?, in The making of the Africa-nation: Pan-Africanism and the African Renaissance, 2003 - The Modernization of Egypt: The Intellectuals' Role in Political Projects and Ideological Discourses, 2000 - The Kurds and the New World Order, 1993 - Grøn overlevelse?: en analyse af den anden udviklings implementerings muligheder i det eksisterende system, (et.al.), 1991
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.