أيام زمان كانوا المجانين يمشوا في الشارع ويسولفوا مع حالهم ويسألوا أنفسهم كثيرا من الأسئلة ولكن لم أسمع عن مجنون مثلي, أنا اليوم أمشي بالشارع وأسأل نفسي وأرد عليها, أجيب على كل أسئلتي, أنا إنسان كاتب وشاعر ولكن لا أحد يشعر معي, أنا جننتُ جدا بهذا العالم ولكن هذا العالم لا يحفل بي, لا أحد يعرفُ لي بيتا أو سكنا أو عنوانا, وغير موجود على خارطة الوطن العربي, ومستبعد من كل الجهات السياسية والثقافية, أنادي على أولادي ولا أحد منهم يسمع ندائي,أبحث في الكتب والشوارع عن شفاه زينب وأصابع رباب, أفتش عن عيون ليلى, أبحث عن النهود التي دفنت ( المُنخل اليشكري) حيا ولكن لم ألمس بيدي نهدا واحدا مثلها, أفتش عن مزامير داوود وعن نمنمات أمين نخلة وعن عذابات الشعراء القدامى, أنا أرقني جدا ما أرّقَ كل الفلاسفة وحيرني جدا ما حير جميع الفلاسفة دون استثناء وعشت وحيدا حتى أصبحتُ فعلا رجلا مجنونا لم يسبقه أحد في مستوى الجنون الذي بلغه.
أنادي على الأمم الخالية ولكن لا أحد يسمع ندائي وأحسُ أن هنالك صوتا قادما من السماء يقول لي: لا تتعب نفسك لا يوجد أحد في البيت, تذكرت صديقا قديما ذهبتُ إلى منزله ناديت عليه و(طرقتُ الباب حتى كلَّ متني ) ولكنني لم اسمع جوابا, قررتُ أن اذهب إلى المقابر لعلَ هنالك من يجيب على أسئلتي المتكررة أو لعلي أجد من يتحدث معي, سمعتُ أصداء القبور وأنات الموتى ولم أسمع تغاريد البيوت المجاورة, جلستُ فوق قبر أبي وجدي وجد جدي الأموات سمعوا بي والأحياء لم يسمعوا بي, حتى الحيوانات بالغابات الأفريقية عرفتني وسمعت نداءاتي المتكررة, العصافير رفت بأجنحتها فوق راسي والنحل المتطاير هنا وهناك كان يمضغ كلماتي ليخرج منها العسل, ألا البشر أحرقوا دمي ومشاعري وقطعوا يدي وقصوا لساني..كان هنالك شيء آخر يحترق في قلبي, كان هنالك شيء ما يدور في رأسي, لملمتُ كل جراحي وخرجتُ بها إلى المدن والشوارع الضيقة وعرضتها أمام شركات الأدوية والصيدليات ولكن لم أجد لها علاجا, أنا رجل أعيش وحدي’, أعيش لقلمي, أعيش لفكري الغريب عن مجتمعي الذي أعيش فيه, أنا وحيد في هذا العالم وكأنني قادمٌ من كوكب آخر.
ناديت اليوم على أصدقائي لم يسمع منهم أحد ندائي, دخلتُ بيتي ناديت على أولادي على أمي ولكن لم يسمع أحد ندائي, لستُ أدري أين ذهب الناس!! أين اختفوا الأصحاب والمعارف والأصدقاء, خرجتُ إلى الشارع ناديت بأعلى الصوت على جيراني لم ألقَ جوابا وكأنني أتحدث مع الجدران والحيطان والأشجار, سمعت كل الحيوانات خلف منزلي نداءاتي المتكررة كلهم ردوا على ندائي منهم بالزقيق ومنهم بالصهيل ومنهم بالنهيق ولكن أن يجيب على ندائي أحد من أهل بيتي فهذا اليوم بالذات أصبح مستحيلا, أنا الآن أمشي في الأزقة والشوارع, بحثتُ عن أصدقاء الطفولة ناديت عليهم كلٌ بأسمه ولكن لم يجبنِ أحد, بقيت أبجث عن زملائي في المدرسة ولكن أيضا لم أجد منهم أحد, المدرسة التي كنت أدرس فيها وأنا ولد يافع ما زالت جدرانها موجودة حتى اليوم وتتذكر أسمي وصورتي وشكلي وعنواني, ما زال اسمي الذي حفرته على الحجر الأحمر موجودا حتى اليوم, الشوارع التي لعبتُ فيها وأنا طفل صغير ما زالت تتذكرني وكلما ناديت على الجدران أسمعُ من خلالها صدى صوتي, ولكن في بيتي لا اسمع صدى صوتي, لا أسمع مجيبا واحدا.
صرختُ هذه المرة في غرفتي وأنا جالسٌ فيها أتذكر أمجاد الأمم الماضية سمعتْ الجدران صوتي, خرجتُ إلى الجبال والوديان وشهقتُ بأنفاسي عاليا سمعتُ لصوتي صدى, حتى الماعز والأغنام التي ترعى في الوادي ردت على صوتي ولكن لم يرد أي إنسان على صوتي, لماذا؟ هل الناس ماتوا؟ دخلتُ منزلي مرة أخرى وتفحصتُ وتفقدّتُ كل من فيه, الكل كان موجودا أو متواجدا ولكن استغرب لماذا لا يردون على نداءاتي الحزينة, توجهت بوجهي صوب أخي كان جالسا وممسكا الموبايل بيده وأصابعه تعزف على الأحرف العربية واللاتينية ناديته ولكن لم يسمع ندائي, اقتربتُ منه أكثر ثم وضعتُ فمي على أذنيه وناديته بأسمه ولكنه كان مشغولا عني بلعبة المزرعة السعيدة على الفيس بوك.
جلستُ في غرفتي وحدي بعد أن عدتُ إليها وأقفلتُ الباب على نفسي وصرتُ أتحدثُ مع نفسي وأسأل نفسي وأجيب أنا على نفسي, وقلت: شو هذا يا الله زمان كان بحارتنا رجل مجنون كان دائما يمشي في الشارع ويحكي مع نفسه, ولكن أنا أصبحت مجنونا أكثر منه لأنني أحكي مع نفسي ومن ثم أرد عليها فقط لأنني لم أجد من يرد عليّ, زمان كان الرجل المجنون لما يحكي في الشارع وحده كانت كل الناس ترد عليه أما أنا فلا أحد يرد عليّ لذلك جننت أكثر من أي وقتٍ مضى, جنوني أصبح سبقا صحفيا, لم يسبقنِ إليه أحد, حتى الأطباء النفسيين حين شكوت لهم عن حالي قالوا لي وهم مستغربون جدا: حالتك تلك لم نقرئ عنها أبدا, لم نأخذها في كلية الطب ولم نشاهدها في مستشفيات المجانين, أنت رجل تتحدث مع نفسك وتجيب على نفسك وتنادي سكان البيت والحارة ورفاق الطفولة ولا أحد يعرفك مطلقا, لا أحد يتذكر حتى أسمك أو جنسك أو لونك, أنت حالة فردية لم يسبق لها مثيل, أنت حالة مستعصية حتى على الطب نفسه .