جمال البنّا: رحلة الفكر في أرض قاحلة (1/2)

بدور زكي محمد

كنت كلما أصغيت لحديث الراحل الكبير جمال البنا وتابعت أداءه الواثق، وهدوءه، واحتواءه لمقاطعات المستعجلين ممن يتحدّون عقلانيته بما يدّخرونه من منقول رواياتهم، ينتابني إحساس بأن العمر لن يخذله، ليقول الكثير مما نحتاج إليه في سفرنا الطويل، وحيرتنا بين إسلام يُلَوِح بالسيف ويغتال العقول، وآخر انبثق قبل قرون، باركت ولادته سيدة جليلة أسمها خديجة، وأعلنه الرسول (ص) بلغة السماء، فقال: {إقرأ}، أحبه المستضعفون والمستعبدون لأنه بشرهم بالرحمة.

ذلك الإحساس رافقني أيضاً حين كنت أقرأ للشهيد حسين مروة، والراحلة المتميزة في عطائها ومعاركها الفكرية مع المتعصبين، أمينة السعيد، رئيسة دار الهلال العريقة.

لم أصدّق يوماً إن الكلمة النيّرة ترحل مع الغياب المادي لصاحبها، حتى لو حاصرتها أمم الجهل المتكاثرة في أيامنا هذه.

جمال البنا بميراثه من المؤلفات والمقالات والمناظرات الفكرية، وبنزعته لتحكيم العقل، عصّي على النسيان، ظاهرة يصعب تكرارها، فهو من الكبار الذين أسسوا لفكر إسلامي متصالح مع الحداثة بقدر ما تعنيه من الإهتمام بالإنسان كقيمة عليا. ففي تقديمه لفكرة الإحياء الإسلامي التي دعا إليها كطريق للنهوض بالمسلمين والأخذ بيدهم على مشارف القرن الحادي والعشرين، يقول:

“إن الإسلام أراد الإنسان ولكن الفقهاء أرادوا الإسلام”، وما كان يعنيه هو العودة إلى البدايات الأولى لانطلاق الدعوة الإسلامية، التي رمت إلى تحرير الناس من بدائية المعتقدات وتقديس ما اتبعه آباؤهم وأجدادهم، ونشر قيم العدالة والخير. كان يؤرقه استشراء العنف المتسربل بالدين، لذلك دعا لنبذ كل إيمان لا ينطوي على احترام إرادة الإنسان، فهو يؤكد على ضرورة ” الإقلاع عن التأثر السلبي بالماضي، أو محاولة فرضه على الحاضر” مستشهداً بالآية الكريمة { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } (البقرة 141). وعن فكرته لإحياء الإسلام، يقول البنّا: ” إذا أريد لهذه الدعوة أن تكون جماهيرية، شعبية، يتجاوب معها عامة الناس فلابد أن تكون إسلامية، أما إذا كانت دعوة نخّب تعتمد على الفكر المجرد أو تستلهم التجارب والدعوات الأوربية، بصرف النظر عن المجتمع العربي.. فإن دعوتهم ستكون دعوة صالونات “، ذلك لأنه لاحظ تجذّر الدين في المجتمع المصري والعربي، وهذا ما نلحظه ربما بشكل أساسي لانتشار الأحزاب الإسلامية ورفدها بأموال طائلة.

فكرة الإحياء التي نادى بها الراحل الكبير كانت عميقة الجذور في وعيه وثمرة سنوات طويلة من البحث، قاربت الخمسين عاماً، وقد كان كتابه ” ديمقراطية جديدة ” الذي أصدره في العام 1946 هو نقطة البداية، لما تضمنه من رؤية تجديدية للدين. ولم يعلن دعوته للإحياء إلا بعد بلوغه الثمانين من عمره الحافل بالعطاء، وبعد أن صدر الجزء الثالث من كتابه ” نحو فقه جديد “، في مسعى منه لتجميع أفكاره في وحدة متناسقة، ترفد العقل الإسلامي، وتساعد في تطور المسلمين.

أكثر ما تميز به البنا هو تواضعه وثقته بجانب الصواب في توجهاته الفكرية، واستقلاليته، كان حراً غير مقتاد لجهة داعمة، أو لمصلحة حزبية، أو حكومية، وعلى الرغم من الإساءات التي لحقت به جرّاء صراحته ونبذه للنفاق الإجتماعي، كان مُهاباً من خصومه، يقابل تطاولاتهم بابتسامة ساخرة غافرة، ويعفّ عن الرد عليهم بما يستحقون، حتى لو كان محدثه مقدم برامج لا علم له بالدين، أو التاريخ، يطلق القول جزافاً أو نفاقاً. وفي تعليق له على انتقادات المتفيقهين لأفكاره، نقله الباحث المصري عمارعلي حسن ( الشرق الأوسط، السابع من فبراير 2013) يقول: ” ما ينسبونه إليّ لم أخترعه، فهو موجود في بطون كتب صفراء يحفظونها عن ظهر قلب، ويتلونها على أسماع الناس كما هي، وقد وصفهم زكي نجيب محمود بـ«الحفظة المتعالمين”.

اهتمامات الراحل تجاوزت همه الأكبر المتعلق بتجديد الإسلام، فقد ركّز على العمل النقابي واستغرق الكثير من مؤلفاته، بالإضافة إلى كتاباته في شؤون السياسة المختلفة وفي هذا الجانب كان له موقف يعبّر عن إباء وأنَفة لم يتحل بها كثيرون من العرب ممن يحملون أسماءً كبيرة في دنيا الأدب والصحافة والسياسة، فقد رفض العمل في العراق في العام 1979 عندما كان يشغل منصب مستشار في منظمة العمل العربية التي كان مقرها في القاهرة ونقلت إلى بغداد ضمن عدد من المنظمات التي انتقلت من مصر بعد توقيع اتفاقية كمب ديفيد، حينها أجاب من طلبوا منه الإنتقال بالتالي: ” لا يمكن أن أعيش مطلقاً في ظل طاغية ومجرم وسفاح مثل صدام حسين”. وفي العام 1990 وبعد غزو الكويت، لم تتغير نظرته لذلك الرجل، فقد أضاف: ” صدام 1990 هو صدام ما قبلها وما بعدها، لقد خاض حرباً عبثية مع إيران لمدة 8 سنوات، وأنا أعتقد أن الإعدام كان أقل ما يستحقه، ولو أنه قطع إرباً إرباً لما كفر ذلك عن جرائمه ” (من لقاء مع خالد الكيلاني نشر في موقع الحوار المتمدن في 21-02-2008). كان حريصاً على التوثيق السياسي فقد ألّف سبعة مجلدات بعنوان: وثائق الإخوان المسلمين المجهولة.

غير أن ما أحاول التركيز عليه هنا هو رؤيته النقدية لمواضيع حساسة تتعلق بمنظومة الأحكام التي اعتنقها معظم الفقهاء المسلمين وجعلوها بمثابة أحكام منزّلة أجبروا الناس عليها، فضيّعوا الحكمة وخلطوا التاريخ بالعبادات، والعقيدة الثابتة بمتغيرات الحياة والمجتمع. والحديث عن هذا الجانب يتطلب آلاف الصفحات، لذلك سأذكر أهم الأفكار التي تميز بها جمال البنا، على أن أعود لها في الجزء الثاني من مقالي، مع شيئ من التفصيل.

أولاً- الحجاب ليس فريضة، ولا يوجد في الإسلام ما يؤكد فرضه، فشعر المرأة ليس عورة، وإن ما طُلب منها تغطيته في النص القرآني هو فتحة الصدر، ولم تُؤمر النساء بلبس الخمار لأنهن كن يلبسنه اتّقاء الشمس والتراب.

ثانياً- النقاب وصمة عار لأنه يطمس شخصية المرأة وإنسانيتها.

ثالثاً- كما أن الزواج يكون بالتراضي بين الرجل والمرأة، فإن الطلاق لا يكون بإرادة منفردة.

رابعاً – الشهادة في الزواج للتوثيق فقط وليست شرطاً للإنعقاد.

خامساً- المرأة الأكثر علماً بالقرآن يحق لها أن تؤم الرجال في الصلاة.

سادساً- الإختلاط ضرورة والفصل بين الجنسين عملية وحشية.

سابعاً- مقولة الإسلام السياسي بأن الحكم لله، ضالة ومُضلة، لأن الآية القرآنية لا تتعلق بالدنيا، بل بالآخرة حين يحكم الله بين الناس.

ثامناً- الإسلام دين وأمة وليس دين ودولة. 

ومن معالم أفكاره التي تفسر نهجه في الإصلاح

الإسلامي، قوله: ( .. وقد آن للمسلمين أن يعلموا أن كل ما خرج عن إطار الاعتقاد دخل فى إطار الاجتهاد وما دمنا لا نتحدث عن الله تعالى أو طبيعته أو ذاته، وما دمنا لا نجحد الوحى والرسل واليوم الآخر فلا جناح علينا إذا أخضعنا الموضوعات الأخرى للاجتهاد وإذا كانت الدولة الإسلامية ترتبط فى أذهان البعض بذكريات مجيدة، فإنها تتضمن أيضا سوءات عديدة ).

ومن أبرز مؤلفاته غير ما ذكرت:

– المرأة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء

– الحجاب

– ختان البنات ليس سنّة ولا مكرمة ولكن جريمة

– الجهاد

– تثوير القرآن

– التعددية في مجتمع إسلامي

– الإسلام دين وأمة وليس دين ودولة

– مطلبنا الأول هو الحرية

– هل يمكن تطبيق الشريعة؟

– قضية الفقه الجديد

– موقفنا من العلمانية والقومية والإشتراكية

– تعميق حاسة العمل في المجتمع الإسلامي.

وللبنّا كذلك مئات من المقالات المهمة منها:

– مابعد السلفية 

متى يتعلم الأزهر إنه جامعة وليس كنيسة أو محمة تفتيش

– الإخوان المسلمون الظالمون والمظلومون

– معركة الفقه الجديد

– مرة أخرى نقول الحجاب ليس فريضة

– الجهاد المفترى عليه

– أحداث الحادي عشر من سبتمبر والحملات الإستشهادية، الموت في سبيل الله أم الحياة في سبيل الله.

رحل جمال البنا العالم الجليل، ومُحال أن ترحل أفكاره إلى شاطئ النسيان، فالمستقبل لما تريده الإنسانية، لا لما يسعى إليه طغاة السياسة والفقه القديم.

bdourmohamed@ymail.com 

 المصدر ايلاف

About جمال البنا

ولد فى المحمودية من أعمال محافظة البحيرة (تبتعد عن الإسكندرية 50 كيلو) فى 15/12/1920 من أسرة نابهة عرفت بعلو الهمة ، فوالده هو مصنف أعظم موسوعة فى الحديث (مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى فى 24 جزءًا ، وشقيقه الأكبر هو الإمام الشهيد حسن البنا المرشد المؤسس للإخوان المسلمين .  عكف منذ طفولته على الاطلاع بحيث تزود بحصيلة ثقافيـة غزيرة ، وبعد أن أتم دراسة الابتدائية ودخل المدرسة الخديوية الثانوية . حدث شجار بينه وبين أستاذه فى اللغة الإنجليزية وهو إنجليزى ، فترك الدراسة غير آسف ، واستكمل دراسته بوسائله الخاصة .  واصل جمال البنا مطالعاته ، وأصدر كتابه الأول سنة 1945 وهو عن الإصلاح الاجتماعى، وفى العام التالى (1946) أصدر كتابه "ديمقراطية جديدة" الذى تضمن فصلاً بعنوان "فهم جديد للقرآن" استعرض فيه فكرة المصلحة كما قدمها الإمام الطوفى ، وانتقد الموجة الحماسية لدى بعض الدوائر بفعل نجاح دعوة الإخوان المسلمين وقال : "لا تؤمنوا بالإيمان .. ولكن بالإنسان" وهذه الملاحظة لا تزال أحد معالم دعوة الأستاذ جمال البنا فى الإحياء الإسلامى .  فى عام 1952 أصدر "مسئولية الانحلال بين الشعوب والقادة كما يوضحها القرآن الكريم" كما أسس (1953 ــ 1955) الجمعية المصرية لرعاية المسجونين ، وحققت الجمعية ثورة فى إصلاح السجون ، وأدت إلى مجابهة بينه وبين السلطات .  عندما قامت حركة الجيش فى مصر بقيادة عبد الناصر فى 23 يوليو سنة 1952 بدأ الأستاذ جمال البنا فى كتابة كتاب باسم "ترشيد النهضة" ارتأى فى الفصل الأول أن هذه الحركة هى انقلاب عسكرى وليس ثورة ، وما أن اطلع الرقيب على ذلك حتى أصدر أمرًا بمصادرة الكتاب ، وأخذ كل الملازم المطبوعة ، وبهذا التصرف تأكد جمال البنا من أن الحركة ذات طابع ديكتاتورى ، وأن لا فائدة من محاولة تقدم الرأى والمشورة .  عنى الأستاذ جمال البنا خلال الحقبة الناصرية المعادية للاتجاهات الإسلامية بالحركة النقابية ، فأصدر وترجم الكثير من الكتب والمراجع التى نشرتها منظمة العمل الدولية بجنيف والجامعة العمالية بمدينة نصر والدار القومية.. كما حاضر بصفة منتظمة فى معهد الدراسات النقابية منذ أن تأسس سنة 1963 حتى سنة 1993 عندما انتقد التنظيم النقابى القائم . وقد كان آخر كتبه النقابية عن (المعارضة العمالية فى عهد لينين) الذى كتبته مدام كولونتاى ، فقام بترجمته والتعليق عليه .  فى سنة 1981 أسس جمال البنا الاتحاد الإسلامى الدولى للعمل ، وكانت منظمة العمـل الدولية قد استعانت به فى عـدد من الترجمات ، كما استعانت منظمة العمل العربية كخبير استشارى . وبحكم هذه الصفات نظم شبكة من العلاقات بقيادات اتحادات ونقابات فى كثير من الدول الإسلامية . وفى 1981 دعا معظمها للاجتماع فى جنيف خلال انعقاد مؤتمر العمل الدولى بها ، وفى هذا الاجتماع تأسس الاتحاد الإسلامى الدولى للعمل من مندوبى اتحادات عمالية فى الأردن والمغرب وباكستان والسودان وبنجلاديش . وللاتحاد مكتب فى كوالامبور وآخر فى الرباط .  مع السبعينات وملاءمة المناخ للعمـل الإسـلامى بدأ الأستاذ جمال البنا كتاباته التى كان أولها "روح الإســـلام" و "الأصــلان العظيمان : الكتاب والسُنة" ، وعددًا آخر من الكتب لا يتسع المجال لها .  ابتداء من 1990 شغل بإصدار كتابه الجامع "نحو فقه جديد" فى ثلاثة أجزاء الذى دعا فيه إلى إبداع فقه جديد يختلف عن الفقه القديم ، ولا يلتزم ضرورة بالتفسيرات ، أو علوم الحديث .. الخ ، أو أصول الفقه ، وصدر الجزء الثالث عام 1999 .  أثار الكتاب ضجة كبيرة ودعا بعضهم لمصادرته ، ولكن المسئولين تنبهوا إلى هذا سـيذيع دعوته فمارسوا مؤامرة صمت إزاءه ، رد عليها جمال البنا عام 2000 بإعلان تأسيس "دعـوة الإحياء الإسلامى" التى ضمنها خلاصة فكره الإسلامى والسياسى والثقافى .  فى سنة 1997 أسس بالمشاركة مع شقيقته السيدة فوزية "مؤسسة فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامى" ، وتبرعت السيدة فوزية بقرابة نصف مليون جنيه للمؤسسة مكنها أن تؤدى دورها فى غنى عن السؤال . ولما كانت زوجة الأستاذ جمال البنا قد توفيت سنة 1987 ولم يتزوج بعدها ، فإنه حول شقته إلى مكتبة تحمل اسم المؤسسة . وتضم المكتبة قرابة خمس عشر ألف كتاب عربى ، وثلاثة آلاف باللغة الإنجليزية ، كما تضم مكتبة والد الأستاذ جمال وشقيقه الأستاذ عبد الرحمن ، والكثير من تراث آل البنا ، والأصول الخطية لكتب الشيخ البنا ، وقد زودت المكتبة بقاعة إطلاع وآلة تصوير ووحدة كمبيوتر .  بالمكتبة 15 ألف كتاب عربي وثلاثة آلاف كتاب إنجليزي وبها قسم للدوريات يضم 150 مجلة ، وبعض الموسوعات والمجموعات القديمة لصحف الإخوان المسلمين من سنة 1936 ، وأوراق خطية للإمام الشهيد حسن البنا ، والكثير من وثائق الإخوان المسلمين ، فضلاً عن جذاذات من الصحف ، ومسودات وأصول كتب للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا ولجمال البنا .  استطاع الأستاذ جمال البنا بفضل تفرغه للكتابة أن يصدر أكثر من مائة كتاب (منها قرابة عشرة مترجمة) وهو يكتب بتمكن وأسلوب سهل ، وإن كان له طبيعة فنية ، وقد أصدر كتابًا من ثلاثمائة صفحة عن "ظهور وسقوط جمهورية فايمار" كما تعد كتبه عن "الدعوات الإسلامية" من المراجع الرئيسية لما توفر له من صلات ومراجع .  أن دعوة الإحياء الإسلامى رغم أنها قوبلت بتعتيم إخبارى أريد به عدم التعريف بها ، فإنها شقت طريقها ليس فحسب فى مصر والدول العربية ، ولكن أيضًا فى الخارج حيث أصبحت محل اهتمام الهيئات الدولية والجامعات ، وهي لا تهدف لتكوين حزب أو جماعة ، ولكنها تريد أن تقدم رؤية حرة للإسلام يُعد كل من يؤمن بها مالكا لها أو شريكاً فيها .  لدعوة الإحياء الإسلامى موقع على الانترنت ، وعنوان إليكترونى كالآتى : gamal_albanna@yahoo.com E-mail : gamal_albanna@infinity.com.eg www.islamiccall.org وعنوانها : 195 شارع الجيش ــ 11271 القاهرة هاتف وفاكس 25936494
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.