بدور زكي محمد
كنت كلما أصغيت لحديث الراحل الكبير جمال البنا وتابعت أداءه الواثق، وهدوءه، واحتواءه لمقاطعات المستعجلين ممن يتحدّون عقلانيته بما يدّخرونه من منقول رواياتهم، ينتابني إحساس بأن العمر لن يخذله، ليقول الكثير مما نحتاج إليه في سفرنا الطويل، وحيرتنا بين إسلام يُلَوِح بالسيف ويغتال العقول، وآخر انبثق قبل قرون، باركت ولادته سيدة جليلة أسمها خديجة، وأعلنه الرسول (ص) بلغة السماء، فقال: {إقرأ}، أحبه المستضعفون والمستعبدون لأنه بشرهم بالرحمة.
ذلك الإحساس رافقني أيضاً حين كنت أقرأ للشهيد حسين مروة، والراحلة المتميزة في عطائها ومعاركها الفكرية مع المتعصبين، أمينة السعيد، رئيسة دار الهلال العريقة.
لم أصدّق يوماً إن الكلمة النيّرة ترحل مع الغياب المادي لصاحبها، حتى لو حاصرتها أمم الجهل المتكاثرة في أيامنا هذه.
جمال البنا بميراثه من المؤلفات والمقالات والمناظرات الفكرية، وبنزعته لتحكيم العقل، عصّي على النسيان، ظاهرة يصعب تكرارها، فهو من الكبار الذين أسسوا لفكر إسلامي متصالح مع الحداثة بقدر ما تعنيه من الإهتمام بالإنسان كقيمة عليا. ففي تقديمه لفكرة الإحياء الإسلامي التي دعا إليها كطريق للنهوض بالمسلمين والأخذ بيدهم على مشارف القرن الحادي والعشرين، يقول:
“إن الإسلام أراد الإنسان ولكن الفقهاء أرادوا الإسلام”، وما كان يعنيه هو العودة إلى البدايات الأولى لانطلاق الدعوة الإسلامية، التي رمت إلى تحرير الناس من بدائية المعتقدات وتقديس ما اتبعه آباؤهم وأجدادهم، ونشر قيم العدالة والخير. كان يؤرقه استشراء العنف المتسربل بالدين، لذلك دعا لنبذ كل إيمان لا ينطوي على احترام إرادة الإنسان، فهو يؤكد على ضرورة ” الإقلاع عن التأثر السلبي بالماضي، أو محاولة فرضه على الحاضر” مستشهداً بالآية الكريمة { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } (البقرة 141). وعن فكرته لإحياء الإسلام، يقول البنّا: ” إذا أريد لهذه الدعوة أن تكون جماهيرية، شعبية، يتجاوب معها عامة الناس فلابد أن تكون إسلامية، أما إذا كانت دعوة نخّب تعتمد على الفكر المجرد أو تستلهم التجارب والدعوات الأوربية، بصرف النظر عن المجتمع العربي.. فإن دعوتهم ستكون دعوة صالونات “، ذلك لأنه لاحظ تجذّر الدين في المجتمع المصري والعربي، وهذا ما نلحظه ربما بشكل أساسي لانتشار الأحزاب الإسلامية ورفدها بأموال طائلة.
فكرة الإحياء التي نادى بها الراحل الكبير كانت عميقة الجذور في وعيه وثمرة سنوات طويلة من البحث، قاربت الخمسين عاماً، وقد كان كتابه ” ديمقراطية جديدة ” الذي أصدره في العام 1946 هو نقطة البداية، لما تضمنه من رؤية تجديدية للدين. ولم يعلن دعوته للإحياء إلا بعد بلوغه الثمانين من عمره الحافل بالعطاء، وبعد أن صدر الجزء الثالث من كتابه ” نحو فقه جديد “، في مسعى منه لتجميع أفكاره في وحدة متناسقة، ترفد العقل الإسلامي، وتساعد في تطور المسلمين.
أكثر ما تميز به البنا هو تواضعه وثقته بجانب الصواب في توجهاته الفكرية، واستقلاليته، كان حراً غير مقتاد لجهة داعمة، أو لمصلحة حزبية، أو حكومية، وعلى الرغم من الإساءات التي لحقت به جرّاء صراحته ونبذه للنفاق الإجتماعي، كان مُهاباً من خصومه، يقابل تطاولاتهم بابتسامة ساخرة غافرة، ويعفّ عن الرد عليهم بما يستحقون، حتى لو كان محدثه مقدم برامج لا علم له بالدين، أو التاريخ، يطلق القول جزافاً أو نفاقاً. وفي تعليق له على انتقادات المتفيقهين لأفكاره، نقله الباحث المصري عمارعلي حسن ( الشرق الأوسط، السابع من فبراير 2013) يقول: ” ما ينسبونه إليّ لم أخترعه، فهو موجود في بطون كتب صفراء يحفظونها عن ظهر قلب، ويتلونها على أسماع الناس كما هي، وقد وصفهم زكي نجيب محمود بـ«الحفظة المتعالمين”.
اهتمامات الراحل تجاوزت همه الأكبر المتعلق بتجديد الإسلام، فقد ركّز على العمل النقابي واستغرق الكثير من مؤلفاته، بالإضافة إلى كتاباته في شؤون السياسة المختلفة وفي هذا الجانب كان له موقف يعبّر عن إباء وأنَفة لم يتحل بها كثيرون من العرب ممن يحملون أسماءً كبيرة في دنيا الأدب والصحافة والسياسة، فقد رفض العمل في العراق في العام 1979 عندما كان يشغل منصب مستشار في منظمة العمل العربية التي كان مقرها في القاهرة ونقلت إلى بغداد ضمن عدد من المنظمات التي انتقلت من مصر بعد توقيع اتفاقية كمب ديفيد، حينها أجاب من طلبوا منه الإنتقال بالتالي: ” لا يمكن أن أعيش مطلقاً في ظل طاغية ومجرم وسفاح مثل صدام حسين”. وفي العام 1990 وبعد غزو الكويت، لم تتغير نظرته لذلك الرجل، فقد أضاف: ” صدام 1990 هو صدام ما قبلها وما بعدها، لقد خاض حرباً عبثية مع إيران لمدة 8 سنوات، وأنا أعتقد أن الإعدام كان أقل ما يستحقه، ولو أنه قطع إرباً إرباً لما كفر ذلك عن جرائمه ” (من لقاء مع خالد الكيلاني نشر في موقع الحوار المتمدن في 21-02-2008). كان حريصاً على التوثيق السياسي فقد ألّف سبعة مجلدات بعنوان: وثائق الإخوان المسلمين المجهولة.
غير أن ما أحاول التركيز عليه هنا هو رؤيته النقدية لمواضيع حساسة تتعلق بمنظومة الأحكام التي اعتنقها معظم الفقهاء المسلمين وجعلوها بمثابة أحكام منزّلة أجبروا الناس عليها، فضيّعوا الحكمة وخلطوا التاريخ بالعبادات، والعقيدة الثابتة بمتغيرات الحياة والمجتمع. والحديث عن هذا الجانب يتطلب آلاف الصفحات، لذلك سأذكر أهم الأفكار التي تميز بها جمال البنا، على أن أعود لها في الجزء الثاني من مقالي، مع شيئ من التفصيل.
أولاً- الحجاب ليس فريضة، ولا يوجد في الإسلام ما يؤكد فرضه، فشعر المرأة ليس عورة، وإن ما طُلب منها تغطيته في النص القرآني هو فتحة الصدر، ولم تُؤمر النساء بلبس الخمار لأنهن كن يلبسنه اتّقاء الشمس والتراب.
ثانياً- النقاب وصمة عار لأنه يطمس شخصية المرأة وإنسانيتها.
ثالثاً- كما أن الزواج يكون بالتراضي بين الرجل والمرأة، فإن الطلاق لا يكون بإرادة منفردة.
رابعاً – الشهادة في الزواج للتوثيق فقط وليست شرطاً للإنعقاد.
خامساً- المرأة الأكثر علماً بالقرآن يحق لها أن تؤم الرجال في الصلاة.
سادساً- الإختلاط ضرورة والفصل بين الجنسين عملية وحشية.
سابعاً- مقولة الإسلام السياسي بأن الحكم لله، ضالة ومُضلة، لأن الآية القرآنية لا تتعلق بالدنيا، بل بالآخرة حين يحكم الله بين الناس.
ثامناً- الإسلام دين وأمة وليس دين ودولة.
ومن معالم أفكاره التي تفسر نهجه في الإصلاح
الإسلامي، قوله: ( .. وقد آن للمسلمين أن يعلموا أن كل ما خرج عن إطار الاعتقاد دخل فى إطار الاجتهاد وما دمنا لا نتحدث عن الله تعالى أو طبيعته أو ذاته، وما دمنا لا نجحد الوحى والرسل واليوم الآخر فلا جناح علينا إذا أخضعنا الموضوعات الأخرى للاجتهاد وإذا كانت الدولة الإسلامية ترتبط فى أذهان البعض بذكريات مجيدة، فإنها تتضمن أيضا سوءات عديدة ).
ومن أبرز مؤلفاته غير ما ذكرت:
– المرأة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء
– الحجاب
– ختان البنات ليس سنّة ولا مكرمة ولكن جريمة
– الجهاد
– تثوير القرآن
– التعددية في مجتمع إسلامي
– الإسلام دين وأمة وليس دين ودولة
– مطلبنا الأول هو الحرية
– هل يمكن تطبيق الشريعة؟
– قضية الفقه الجديد
– موقفنا من العلمانية والقومية والإشتراكية
– تعميق حاسة العمل في المجتمع الإسلامي.
وللبنّا كذلك مئات من المقالات المهمة منها:
– مابعد السلفية
متى يتعلم الأزهر إنه جامعة وليس كنيسة أو محمة تفتيش
– الإخوان المسلمون الظالمون والمظلومون
– معركة الفقه الجديد
– مرة أخرى نقول الحجاب ليس فريضة
– الجهاد المفترى عليه
– أحداث الحادي عشر من سبتمبر والحملات الإستشهادية، الموت في سبيل الله أم الحياة في سبيل الله.
رحل جمال البنا العالم الجليل، ومُحال أن ترحل أفكاره إلى شاطئ النسيان، فالمستقبل لما تريده الإنسانية، لا لما يسعى إليه طغاة السياسة والفقه القديم.
المصدر ايلاف