جقلنبة

كلمة من الكلام العراقى القديم, تعنى حركة يقوم بها الفرد يضع يده على الأرض و الدوران بالكامل.

كنا نسكن بستان اسمه البصرة, شعبه لا يتخاصم و إن سمعت صراخ او شجار فهذا يصدر من الزائرين ألمستوطنين فالعراق و مدينة البصرة (ليوان) اى مسافر, فإنه يزوره كل من جاء ليستريح و البعض يلصق و يبقى كالحلزون ذات الحركة البطيئة جداً و هكذا عندما تسكن فى بستان يلتصق فى نهراً خالداً و شعباً مسالم تلصق و لا تفارق, فالبصراوى يُضرب به المثل اهل العراق بالطيبة و الكرم و البساطة و خصوصاً اكله الصبور السمك المشهور تصطل صطلة طبيعية.

و ينطبق المثال القائل (الماء و الخضرة و أم حسن) و الى جانب رقة الكلام و حسن الأنام, البصرة معقل الفكر العربى الإسلامى و ثغر الفتوحات, فالمدارس الفكرية المعتدلة و الجبرية و الصفوية و القدرية, فهى مدينة الشعراء و الفنانين و الكتاب و أهم من ذلك مدينة السندباد, أول رحالة فى العقل الإنسانى و قصص الأساطير الحلوة جداً كحلاوة التمر البصراوى و المعسل, التمر المخلوط بالدبس و الزنجبيل. و مينائها انطلقت منه سفن الأرض و عادت اليه, فالسندباد اغنية اصبحت عالمية و من الميثولوجيا الإنسانية, و الغريب ان الغرب تبنى هذه الروح السياحية و نحن تبنينا روح الالتصاق بالماضى دون كسر حاجز الزمن …

و عندما زارنا (على بابا) الشرقى و الغربى ارتبك السندباد و حوصر و حاول الإقلاع بسفينته لكونه لا يحب ان يرى الجمال يتحول للقبح و الخضرة الى الصفرة و الإصفرار, فلقد ازدحمت المدينة و علا الصراخ و الأصوات النشاز معلنة بزيارة اغراب جياع مهلهلة ملابسهم, خشنة تباعهم سارقة اخلاقهم و فاحشة انماطهم. هرب السندباد و ترك جزمته و هذه إحدى علامات و رسالة السندباد بأنة سوف يعود.

لقد قام السندباد بالجقلنبه الأولى و خرج من بيته و استقر فى إحدى الدول المجاورة و لم يعجبه الحال و تجقلب مرة اخرى ووصل قرب القمر و استقر و السندباد تَغَّيَر فأصبح يستخدم الطيارة بدلاً من السفينة و يأكل الهامبرجر بدلاً من الكباب. و أصبح السندباد صورة و أصل … انفصمت شخصيته, جزء منها بقى ملتصق بالميناء الذى غادره و جزء كسر حاجز الزمن و الخوف و تقلب على التبعية التى سكن معها و لمعت اسماء سندبادية فى العلم و الثقافة و الفن و الكتابة و المراكز القيادية فى شركات كافة فى الطب و العلوم و غَيَّر فلسفة الالتصاق و هاجر الى مدارس البصرة الثقافية فى غربته.

إن أول رحلة السندباد هى رحلة فكرية, هى تعبير عن الحرية و الانطلاق و كسر قمم صور الماضى المُكبِل للحريات و الثقافات, فالسندباد كان حراً و أصبح عبداً و قام بثورة خروج من الأرض الوطن و من غلال فكر القيد فى حدود قيد الأفكار البالية. و السندبادة ايضاً تحررت هى الأخرى و قتلت القرصان و مزقت طوق ثقافة العفة المصنوع من القشة. السندباد و السندبادة الذين قاموا بالجقلنبه الحقيقية اصبحوا رواد فضاء و البقية لا يزالون عمال فى مرسى الميناء العتيقة.

اخلاق العمامة و التخلف و تحديد الأخلاق فى جسد المرأة فقط فمساحة الأخلاق كبيرة, هى بحجم المحيط. إن الأخلاق و عفة النفس و عدم النميمة و الإساءة فى اعراض الناس,و الإحتشام الفكرى و اخطرهما (مافيا الكذب) تلك الشخصية التى تستيقظ معنا فى الصباح و لا تنام فى الليل فهى سلعوة ليلية, تبقى سهرانة لكى تجد الكلمات لليوم التالى و تكذب بدون توقف فى مسلسل يومياً لا ينتهى, اطول من المسلسلات الأسبانية و التركية مسلسل بدون رقم.

و عندما عاد السندباد الى ميناءه الذى هجره وجده هو نفسه و لكن ميناء متحجر و اشكال آدمية لم تضع ماكياج لحد الآن و علاها غبار الزمن.

القيم منذ بداية الخليقة لم تتغير و لكن اختلفت مواقعها الجغرافية و اسمائها بعد سقوط آخر معقل فكرى عربى فى بغداد العباسية تم تلغيم ثقافة العرب و تفريسها و امتدت اليد الملوثة لتقلب الحقائق و تصور العرب بغير حقيقتهم فالعرب و فى زمن هارون الرشيد و فى مكتبة المأمون التى حرقت اغلبيتها ووضع على رفوف الكتب كتب اعجمية لا تنتمى لتراث المأمون الذى حافظ على ثقافة اوروبا عندما اعاد للإغريقيين كتبهم العلمية و الثقافية و الفلسفية و الأدبية و تم إعادة ترجمتها للإغريقية, فالعرب كانوا اوروبيين اكثر من اوروبا, كانوا متحضرين و قد سبقوا اوروبا فى اشكال الأناقة و الملبس و الموضة و المأكل و طرق عرض الموائد و اسلوب الأكل و الشرب و كان الموصلى زرياب عراب الأتكيت و نقلها لملوك أوروبا.

عندما ارتد العرب حضارة الشرق الجميل و وضعوا انفسهم فى سجن و رمواً مفتاح السجن خارجاً و حبسوا انفسهم فى القمم الأزلى القمم الذى تم كسره و الخروج منه.

التحرر لا يعنى المفهوم الأوروبى الحديث, فأوروبا نفسها لم تكن كذلك و لكن دين اقتصاد السوق حَوَّل اوروبا لملهى ليلى و علب لكى تكون مراكز لبيع الرذيلة و المخدرات, كل شىء اصبح سوقاً و هكذا تغيرت ملامح البشرية مما أدى لخلق فكرى و نمط سلوكى عربى يفرز بين اوروبا و الشرق و لكن هل نحن لا نسكن اوروبا اخلاقيا اليوم؟ نعم و لكن تحت العباءة.

و إن ابتليتم فاستتروا .. و لهذا حياتنا اصبحت جقلنبة و تجقلبنا و أصبحنا نرى الأمور من تحت فقط بسبب ثقافة الجقلنبة.

‎هيثم هاشم – مفكر حر؟‎

About هيثم هاشم

ولد في العراق عام 1954 خريج علوم سياسية عمل كمدير لعدة شركات و مشاريع في العالم العربي مهتم بالفكر الانساني والشأن العربي و ازالة الوهم و الفهم الخاطئ و المقصود ضد الثقافة العربية و الاسلامية. يعتمد اسلوب المزج بين المعطيات التراثية و التطرق المرح للتأمل في السياق و اضهار المعاني الكامنة . يرى ان التراث و الفكر الانساني هو نهر متواصل و ان شعوب منطقتنا لها اثار و ا ضحة ولكنها مغيبة و مشوهة و يسعى لمعالجة هذا التمييز بتناول الصور من نواحي متعددة لرسم الصورة النهائية التي هي حالة مستمرة. يهدف الى تنوير الفكر و العقول من خلال دعوتهم الى ساحة النقاش ولاكن في نفس الوقت يحقنهم بجرعات من الارث الجميل الذي نسوه . تحياتي لك وشكرا تحياتي الى كل من يحب العراق العظيم والسلام عليكم
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.