قصّة من ذاكرة الأيام : زهير دعيم
وصلت شمس تمّوز الى الأفق الغربيّ منهكة القِوى، تعبى .
ومأ أن بدأت تُلملم جدائلها الشّقراء الفضيّة وتتجه نحو البحر الكبير الأزرق ، لتعوم فيه متجهة نحو الغرب في زيارتها اليوميّة، حتى غمر الظلام جبل الغول ، هذا الجبل القابع بشموخ في الجهة الجنوبيّة من عبلّين والذي سمي على اسم عبلّيني شهد له القاصي والدّاني بالجبروت.
وقف الاطفال من بعيد ، ينظرون من ساحة دُكّان ” عمو أنيس ” ، وقفوا يراقبون المشهد الجميل !!!والمخيف أحيانًا ، ويُنصتون الى الأصوات الآتية من بعيد ، من هناك ، من الجبل …
سيمفونية جميلة يُرتلها الصمت والظلام وضباح بنات آوى وعواء الذئاب ونعيب البوم ، وتحملها الأنسام الى النّفوس الصّغيرة ، فتروح ترتعش تارة وأخرى تخاف، فتُحلّق بأرواحها الصّغيرة خلف الظلام الى ذاك الجبل الغارق بالظُّلمة والمغمور بالحياة وتتساءَل :
ماذا هناك يا ترى؟
وتنكمش من جديد …
رحماكّ يا الهي ! انّنا نخاف … نخاف جبل الغول ومَن فيه .
نخاف من هذا الجبل الذي يستفيق ليلًا ويغفو نهارًا !
وظلّت مساءات جبل الغول من ساحة دكّان ” عمّو أنيس ” كابوسًا يؤرّق نفوس الأطفال أحيانًا وأحيانًا أخرى يشوّقهم.
ومرّت السنين خلف السنين ، وأطفال البلدة الغافية على خدّ الجليل ينتظرون المساء ليراقبوا ” جبل الغول ” ويسمعوا ويتوقوا ويخافوا ويرسموا في مخيّلاتهم الصّغيرة لوحات جميلة !!
الى أن جاء يوم ، وجاء معه من بلدة مُهجّرة من الشّمال ؛ جاء شابّ وسيم الطّلعة ، باسم الثغر ، له لحية صغيرة مُهذّبة ، يحمل باحدى يديه انجيلًا وعلى ظهره صُرّة صغيرة وبسيطة ، عرفنا بعد ذلك أنه وضع فيها زادًا وملابسه البسيطة.
ومرّ الشابّ الأشقر في وسط البلدة ، ومال نحو الكنيسة الصغيرة وصلّى وسجد هناك ، ثم تابع مسيره ليستريح عند بئر جميلة تنشل منها صبيّة ماءً زُلالًا فطلب أن يشرب ، ثمّ ما لبث ان دخل بيت القدّيسة ” مريم بواردي” فناجى ربّه ساعة أو بعض ساعة ، ثمّ حمل صرّته وانجيلة ومرّ من ساحة دكّان عمو أنيس متوجّهًا نحو جبل الغول ، الجبل إيّاه، والعيون كلّ العيون تشخص اليه وكأنها تقول :
ماذا عساه أن يفعل ؟!
أتراه لا يخاف الظلمة وبنات آوى والثعالب والذئاب ؟!!
وراقبته العيون، وكُنتُ معهم ، رأيته يغيب في زحام المجهول والظلام … يغيب ونفوسنا تبكيه ، تتحسّر عليه وأخرى تصلّي له ، رغم أنّنا لا نعرفه ، سوى أنه مرّ من بيننا وصلّى في كنيستنا الصّغيرة.
ودارت الايام ، ودارت الامسيّات تطارد بعضها بعضًا ، والطّفولة الجميلة ، الراعشة ، النابضة بالترقُّب تجتمع في السّاحة إيّاها وتترقّب وتراقب :
لعلّه يعود ؟!
لعلّه يصرخ؟!
لعلّة يُلوّح بيديْه ؟!
ولكن لم يحصل شيء من هذا ، فتأكّد لنا أنّه غاب الى الأبد ، ولن يعود فالدّاخل الى جبل الغول ليلًا مفقودٌ مفقود.
ولكننا لم نيأس …
رفعنا الصلوات والتضرّعات من بيت القدّيسة مريم بواردي القريب.
الى ان جاء مساء شخصنا فيه كما العادة الى جبل الغول ، وإذا وبدون سابق انذار يضيء الجبل ويشعُّ وتغمره الأنوار من كلّ جانب ، فدُهشنا ولم نُصدّق عيوننا ، وأنصتنا الى عواء الذئاب وضُباح الثعالب واذا به يخفت رويدًا رويدًا ثمّ يختفي ويختفي معه نعيب البوم.
ويضيع الظلام في أزقة النّور ويهرب مُلتمسًا من يحميه ويُنقذه ، فلا يجد إلأ أن يهرول خلف الثعالب والذّئاب وبنات آوى الى الجنوب وشرواله العتيق ” يسحل” أو يكاد فيُمسكه بكلتا يديْه ويتابع الهروب !!.
وصفّق الأطفال في تلك الليلة تصفيقًا وصل صداه الى البعيد البعيد، وتعجّب الكبار ، وغنّت الأماني أغنية جديدة.
وصرخ شيخ كبير في السّنّ يلبس نظّارة كان يقبع بجانب الدّكان :
” انظروا جبل النّور … انظروا جبل النّور ..
وصرخ الكلّ وبُحّت الحناجر :
جبل النّور… جبل النّور.