جاهل وأفتخر

كيف يسمح شخص لنفسه بإبداء رأيه وأحيانا بالسب والشتم، وهو لم يقرأ المقال أو لم يشاهد الفيلم؟

بقلم سناء العاجي/
هل العنف مكون من مكوناتنا العميقة؟
كيف يفتخر شخص بجهله؟
كيف يعلنه للملأ وبدون أي إحراج أو إحساس بالخجل؟
أسئلة يصعب ألا يطرحها على نفسه كل متتبع موضوعي لعدد من النقاشات الدائرة على مواقع التواصل الاجتماعية.
يكفي أن تطلع على منشور ما (مقال أو صورة أو فيلم) على أحد مواقع التواصل الاجتماعية، وخاصة حين يتعلق الأمر بمنشور يعتبر البعض أن موضوعه مزعج، لكي تدرك كم التخلف الذي أصبح يقيم بيننا. حين تهتم بمطالعة النقاشات التي يطرحها، ستكتشف أن الكثيرين يعلقون، وبقدر لا بأس به من العنف اللفظي، حتى دون الاطلاع على المحتوى.
إن النقاشات التي نتابعها على مواقع التواصل الاجتماعية تفضح مستوى الجهل المركب الذي أصبحنا نطبّع معه باعتباره أمرا عاديا
يبدو ذلك واضحا وجليا من طبيعة ومحتوى التعليقات، التي تنبني في الغالب على العنوان لا غير. فمن “يساهم في النقاش” بناء على العنوان أو على مقتطف المنشور لا غير؛ ومن يسب الشخص نفسه بغض النظر عن المحتوى، وهلم عنفا. باختصار، تثبت الكثير من التعليقات بشكل صريح وواضح أن صاحبها لم يقرأ المنشور كاملا أو لم يشاهد الفيديو المعني؛ لكنه، مع ذلك، يعطي لنفسه الحق بأن يعلق وبأن يسب ويشتم أحيانا.


فتتساءل، ربما ببعض السذاجة: كيف يسمح شخص لنفسه، أي شخص، بأن يعلق على مقال لم يقرأه أو فيديو لم يشاهده؟ كيف يسمح لنفسه بإبداء رأيه وأحيانا بالسب والشتم، وهو لم يقرأ المقال أو لم يشاهد الفيلم؟ كيف لا يخجل من تعرية جهله بهذا الشكل الفاضح؟ حتى أن كاتبا أشار لأحدهم يوما بأن تعليقه يثبت أنه لم يقرأ المقال المعني، وأنه لو كان اطلع عليه فعلا لما كتب ذلك التعليق، فرد عليه المواطن العنكبوتي المناضل المعارض الجهبذ: “ليس لدي وقت أضيعه في قراءة تفاهاتك”.
هكذا.. بكل بساطة التخلف وبكل ألم الجهل الساكن فينا وبيننا.
طبعا، يحق لأي شخص ألا يحب مقالات كاتب أو صحافي ما. يحق لأي شخص ألا يستلطف أفلام مخرج معين. لكني سأبقى دائما عاجزة أمام من يعطون لأنفسهم حق انتقاد أعمال لم يروها أو لا يقرؤونها. على أي أساس؟ موقف مبدئي من الموضوع؟ موقف عدائي من الكاتب أو الصحافي أو المخرج المعني؟
الملاحظة الموضوعية الثانية التي يمكن التقاطها، تتعلق بكم العنف في النقاشات نفسها. ألا نتفق مع شخص أو مع موقف معين بخصوص قضية ما، فهذا أمر طبيعي؛ بل وإيجابي لأنه يمكننا من تطوير ذواتنا ومن تطوير النقاش العمومي. لكن، ما الذي يبرر كم العنف وكم السب والتخوين في النقاشات؟ حين لا نتفق مع فاعل ما، سياسيا كان أو كاتبا أو مخرجا أو غيره، لماذا علينا أن نصل إلى مستويات متدنية من النقاش، تعبيرا عن اختلافنا؟ اللهم إذا كان ذلك العنف ترجمة لضعف بيّن، مصدره الحقيقي هو عدم امتلاك المعرفة اللازمة لمناقشة المحتوى. هكذا، وأمام العجز عن مناقشة المحتوى، نسب ناشر المحتوى.
مستوى وشكل النقاشات يترجم أيضا، كم نحن غير قادرين على تقبل الاختلاف في الأفكار والأسلوب والتوجه والاختيارات
ثم هناك عينة ثالثة تثير الإعجاب الشديد، وهي تلك التي تعترض عليك حتى في حقك مناقشةَ مواضيع معينة. ترفض اختيار مخرج لمواضيع أفلامه أو كاتب لأفكار كتبه أو صحافي لمضامين مقالاته. مرة أخرى، فمن الطبيعي ألا نحب كتابات أو سينما فاعل ما. من حقنا عدم قراءتها أو مشاهدتها. من حقنا أيضا انتقادها بعد الاطلاع عليها. لكن، من وما الذي يعطينا الحق في مصادرة اختياراته؟
خلاصة القول إن النقاشات التي نتابعها اليوم على مواقع التواصل الاجتماعية تفضح بشكل موجع مستوى الجهل المركب الذي أصبحنا نطبّع معه باعتباره أمرا عاديا؛ حيث أن الكثيرين أصبحوا يعتبرون هذا جزءا من السلوك العام على المواقع الاجتماعية والذي يجب القبول به. هذا التطبيع وهذا الاستخفاف يشكلان في حد ذاتهما مشكلة حقيقية.
مستوى وشكل هذه النقاشات يترجم أيضا، وبنفس الوجع، كم نحن غير قادرين على تقبل الاختلاف في الأفكار والأسلوب والتوجه والاختيارات.
وكل هذا يشكل ورما خبيثا حقيقا انتشر في أجسادنا… فإما أن نعترف به ونواجهه بالاستئصال التدريجي حتى يقوم الجسد بباقي وظائفه التفاعلية بشكل طبيعي وسليم، وإما أن نستمر في تجاهله إلى أن يقضي علينا.

شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.