ثلاث قصص

تأليف: ريكاردو إنريكي بيريث لاريس 
ترجمة: سيدي صالح الإدريسي 
نوستالجيا
تحل فينا شياطين رغما عنا. تظهر عندما نكون وُحْداناً، وفي اللحظة التي يكون فيها عقلنا تائها في يباب الذكريات. الصُّحبة هي الشيء الوحيد الذي يستطيع إبعادها عنا قليلا، قليلا فقط. وإذا صادف وجود زوار في المنزل، تختبأ تلك الشياطين خلف الستائر، أو تحت الأثاث، أو خلف الأذن. وتحضر عندما نكون لوحدنا والفراغ المسكون يملأه رجع صدى خطواتنا. تناجينا، بينما تنغرس مخالبها رويدا رويدا في قلوبنا. تتكلم عن الموت في حلب؛ وتغزل، بين تنهيدة وأخرى، ذكريات من الجوع والحروب في سيراليون.
لا تدرك عقولنا الكلمات التي تلد من شفتيها، إلا أن صوتها يجعل أوتار أرواحنا تهتز بمرثيات طيفية. تلك الروح تعرفها ثقافات قَصِيَّةٌ، وفي أساطيرها يُحكى أنها فأل الموت؛ ولأنها كذلك فرثاؤها سيغدو متواصلا، سيغدو فاجعة. هَجَرَتِ الدرك الأسفل من جهنم لتعذبنا، حاسبة إيانا أيائل الظلام. نؤول رسالتها أحيانا بشكل خاطئ ، فنخلط بينها وبين تجارب عشق ماضية، بينها وبين لحظات معيشة. يكون صوتها وشوشات أحيانا، ونعيق غراب في الليلة الظلماء أحيانا أخرى. نناديها باسمها في بعض المرات، في بعض المرات فقط.
طموح
أفق وركن وبؤرة يمرون عبر الرحم، صعودا، من عالم المحسوسات إلى عالم المُثُلِ الذي حلم به أفلاطون. أقتلع عينه الجاذبة للعجائب، أقتلعها بالأصابع محاولا كشف أسراره وسلطته السحرية. أدخل ذراعي في حدقته، ومن عمق البئر استخرج المداد الذي منحت به الحياة لهذه الرموز، لهذه اللطخات. ظلت الصورة محجوزة في الغشاء وجامدة. حرمها من الهواء، دون احترام لوالدته، وللساحرة التي تملك القدرة على مصادرة العالم، وتجميده في متراس ماض عصي على الفناء.
لم أفهم من أين تستمد قوتها. ترى العالم بلون، ومن مناظير أخرى، ملتوية وفريدة. حال عودتها من أسفارها تعرض أمامي ذكرياتها: أكوان صغيرة، وعوالمٌ وبضعة أشخاص، وضحايا بالأبيض والأسود أو بالبني، كما لو أنهم في حداد، كالمنسيين.
تجبرني تلك الصور التي التصقت بصدري على التنفس عميقا، محاولا إنقاذ نفسي من الاختناق الذي تنفثه كالرحيق في فصل الربيع. رأيت الشعلة المميزة للساحرة قبلاً في أشخاص أٌخَر، ولو بدرجة أقل، ربما لأنهم يجهلونها؛ رأيتها في من يؤلف أغنية وهو يدندن ماشياً، و ذاك الذي يشق الحجر بإزميل ومطرقة بكل ما أوتي من قوة، أو ذاك المنغمس في رسم أفكاره على القماش. أما الشعلة فهي مختلفة، إنها تمسك بروح الرائي، تاركة إياها خاوية وشاردة.
يسيطر علي الفضول ويذيبني في نار أسئلته، لأني في تلك اللحظة لم أفهم كلماتها ولم أصدقها، عندما قالت: “بعت روحي لشيطان. اسمه موغل في القدم ضاع في الهواء وفي البحر. وعلى أي حال فقد حرَّك الآلاف منذ الأزل”. أما الآن فأعتقد أن الحق ما قالته، وأننا نحن الذين رأينا صورها، هم القربان الذي نذرته ثمنا لخلاصها.
دهشة
كان سفري لغابة الأمازون، من بين الأسفار التي مازالت تنبض في ذاكرتي بكل امتنان، رغم الرطوبة والحرارة الخانقتين هناك. تعرفت على كاهن من قبائل جنوب أورينوكو
Orinoco.
كان نحيفا وبريق عينيه أطفأته السنون. وما إن جن الليل حتى دعاني لأشارك في طقس من طقوس قبيلته. كنت أنصت لقصص ذلك الرجل، وأنا جالس قبالة النار مع أفراد القبيلة.

الليل والطعام وربما الشاي المعد بنبتة ذات اسم غريب حوَّل الكلمات لماء رقراق في الصحراء. استقرت في قلبي قصة من القصص المحكية. قصة حكى لنا الراهب فيها عن نسوة بحجم نحلة وبأجنحة طائر طَنَّانٍ وشعرهن مَيَاسِمٌ.
كُنَّ من سكان الغابات العتيقة التي كانت تغطي الأرض، قبل أن يتعلم الإنسان قطع الأشجار. كن يسكن خلف الأوراق الزرقاء؛ يلبسن بتائل الماء ويتزين بتيجان من هواء نُورِيٍّ. أما الآن فيهربن من البشر، رغم أنهن لا يُجِدْنَ فن التخفي. يختبئن في أماكن غير معهودة؛ في رماد النيران الاصطناعية، وفي الأعين الزرق لطفل أسمر، وفي مذكرات حب فجائي، أو داخل علب الهدايا التي تُعطى دون سبب معروف.
أتذكر وجه الجميع وهم مفتونون بكلمات الكاهن، ففهمت الآن أن النسوة وجدن مخبأ في ثنايا الريح أيضا. كانت تلك الليلة مفعمة بالعفوية. أتذكر الابتسامات والنكهات وطقطقة النار وبرد الليل. وما كان مدعاة لأسفي هو أني لا أتذكر طريقة استدعائهن، ولم يخطر ببالي سوى وسيلةٍ واحدةٍ، وهي أن أزحلقهن من على بِلَّوْرٍ كسرته فراشة أثناء تحليقها.

This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.