ثقافتنا صحراوية لم تعلمنا التعبير عن أحاسيسنا و محبتنا للآخر

في كل تجربة مريرة بقعة مضيئة، وعلى الإنسان أن يتسلّح بالحكمة التي تساعده على أن يلتقط تلك البقعة في أشد المواقف ظلمة!
ليس هذا وحسب، بل عليه أن يجعل من تلك البقعة المضيئة عنوانا لتجربته المريرة، كي تُخزّن في ذاكرته من خلال ضوئها، وليس من خلال ظلمتها!
يتوقف جمال اللحظة الآنية التي تعيشها على طبيعة المخزون في ذاكرتك….
كلما غصّت تلك الذاكرة ببقع مضيئة كلما أشرقت لحظتك الآنية، والعكس صحيح!
……
لم تقهرني لحظة في حياتي كما قهرتني لحظتان…..
اللحظة التي سمعت فيها أن أخي، وأقرب اخوتي إلى قلبي، فارق الحياة إثر نوبة قلبية وهو في بداية الأربعينيات من عمره…
واللحظة التي سمعت بها أن جدتي قد فارقت الحياة وهي في عقدها التاسع…
أخي علمني نبل العطاء، وجدتي سلحتني بالقدرة على التحمل والصبر!
…..
أخي هو أخي من أبي…
مات بعد ١٤ سنة من وفاة والدي، كان خلالها المعين الوحيد لنا نحن أبناء والده من غير أمه!
أعطانا، وخصوصا أنا، بلا حدود وبسخاء قلّ نظيره!
صدرت اطروحة تخرجي من كلية الطب قبل شهرين من وفاته، وكان الإهداء: “إلى أخي الحبيب محمد، رمز النبل والعطاء في زمن يُوغل بالقحط….أهدي اطروحتي تلك عربون محبتي)
زارني في المستشفى وأنا تحت تأثير التخدير، إثر عملية قصيرية أنجبت خلالها ابني الأول مازن…
طبع قبلة على جبيني ودس مبلغا من المال تحت مخدتي، وغادر الغرفة قبل أن أصحو تماما، كي يلحق بالباص من اللاذقية إلى بانياس….
بعد وصوله البيت بحاولي نصف ساعة فارق الحياة وهو في عزّها!
كان ذلك في الأول من آب عام ١٩٨١، وحتى تاريخ تلك اللحظة لم أستطع النظر في الألبوم الذي يضم بعضا من صوره!
أخذت الحياة عزيزا وأعطتني عزيزا…
كانت التجربة مريرة ولكنني سجّلتُ في ذاكرتي مولد مازن عنوانا لها، ولذلك دائما تُضيء لحظتي رغم مافيها من ألم!
ليس هذه وحسب، وإنما منحني القدر فرصة لأقول له “أحبك” قبل وفاته بشهرين!
…….
أما موت جدتي فسلخ قطعة من قلبي….
عام ١٩٩٤ وصلتني رسالة من أخي تحمل نبأ رحيلها…
بكيت كما لم يعوِ ذئب جائع، لكن هدير المحيط الهادئ هدّأ من روعي….
مازلت أحتفظ برسالة أخي كنقطة مضيئة في تجربتي المريرة تلك…
كانت أول رسالة وصلتني من أخي في حياتي، وكانت الأخيرة، رغم أنه أخي من أبي وأمي!
وكانت أول مرّة في حياته يعبر لي فيها عن حبه وافتقاده لي…
مازالت بدايتها ـ أختي الحبيبة وفاء ـ البقعة المضيئة في تجربة فقداني لجدتي!
لسبب أو لآخر، لم أتحدث مع أخي منذ سنين…
لكن عبارته “أختي الحبيبة وفاء” مازالت دليلا قاطعا على أنه يحبني، أو هكذا اُريدها!
واعتباري لها دليلا على محبته هو بحد ذاته دليل قاطع على أنني أحبه!
لا نتكلم مع بعض، هذا صحيح!
لكن شحنا من الطاقة الإيجابية تصلني منه وتصله مني في كل لحظة يتذكر كل منا فيها الآخر!
شحنا من الطاقة يفرزها الحب الذي يجمعنا، رغم وعورة العلاقة التي تربطنا!
القطيعة لا تعني الشح المطلق، إلاّ إذا أردتها أن تعني ذلك…
قد تقاطع شخصا طيلة البقية الباقية من حياتك، لكنك تحتفظ له من الحب في قلبك ما يكفي ليرطب ذكراه!
تذكر: أن اللحظة الآنية حُبلى بالذكريات، ومسربلة بما تضفيه عليها طبيعة تلك الذكريات….
…..
لقد أتينا من ثقافة صحراوية جلفة، لم تعلمنا كي نعبر عن أحاسيسنا وخصوصا محبتنا للآخر!
الحب في أعرافنا رذيلة، والتعبير عنه زندقة!!!
كم مرّة سمعت أخاك أو أختك يقولون لك: أحبك؟؟!
كم مرّة سمعتها من أمك أو والدك أو صديق عزيز عليك؟؟!
قلّما….
ناداني في رسالته “أختي الحبيبة وفاء”، لكنه لم يقلها لي وجها لوجه في حياته، وللأمانة لم أقلها له….
كل منا يحمل في قلبه الحب للآخر، لكننا لم نتعلم يوما كي نعبّر عن ذلك الحب على أرض الواقع….
…….
كنت أنبش مؤخرا في محتويات حقيبة ابنتي أنجيلا بعد عودتها من الجامعة، فعثرت على بطاقة عيد الميلاد التي تلقتها من أختها فرح، تقول البطاقة:

Now is the perfect time to tell you how much you mean to me…
And what a wonderful sister you are…
I can’t go a day without feeling so blessed that you are my sister!
I must have done something right in my past life!
Merry Christmas

الآن هو الوقت الأفضل لأعبر لك عما تعنيه لي، وكم أنت أخت رائعة…
لا أستطيع أن أعيش يوما بدون أن أفكر كما أنا مباركة لكونك أختي…
يبدو أنني قد قمت بعمل جميل في حياتي السابقة….
عيد ميلاد سعيد
……..
سألت انجيلا: كيف شعرت عندما قرأت تلك البطاقة؟
فردت: (ماما….لقد كانت لحظة صعبة في حياتي، التقطت البطاقة من البريد وأسرعت باتجاه الجامعة كي ألتحق بمحاضرة اليوم، وأنا أظن أنها مجرد معايدة بمناسبة عيد الميلاد!
لا أعرف ماذا خطر ببالي لأفتحها أثناء المحاضرة، لم أكد أفعل ذلك حتى بدأت الدموع تنساب على خدي كالمطر الغزير.
لم أستطع أن أضبط نفسي، واستمر الوضع عدة دقائق، فاقترب مني البروفسور ووضع يده على كتفي قائلا: أنجيلا، آسف لما حدث وأثر فيك إلى هذه الدرجة، إذا أردتِ بامكانك مغادرة الحصة ولن أسجلك غيابا!)
….
نعم، كما قالت فرح لأختها انجيلا: الآن هو الوقت الأنسب والأفضل لتعبر عن حبك لشخص آخر…
الآن…الآن وليس غدا….أجراس الحب فلتقرع!
فلربما جاء الغد وكان أحدكما في العالم الآخر….
لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، وخير الأعمال تلك التي تظهر محبتك للآخر وتؤكد له أهميته في حياتك، أيا كان هذا الآخر!
دعه يتذكّرك من خلال كلمة “أحبك”!
*******************
كل عيد حب وشمس الحب ساطعة في حياتكم، كما هي في حياتي..
أحبكم
…..
ملاحظة: البوست مأخوذ من كتابي القادم “دليلك إلى حياة مقدسة”، وستكونَ قادرا
على فهم الفكرة الرئيسة للبوست بطريقة أفضل عندما تقرأ الفصل كله، آمل أن يكون ذلك قريبا!