تيرا هي ابنة ثقافة تحترم الإنسان وتؤمن بقدراته

wafasultannewyorkأعادتني تيرا تلك الشابة العشرينية خمسين عاما إلى الوراء…
نعم نصف قرن، فأنا بعمر الأرض!
أعادتني إلى “عليّان” البعيد في الزمن والقريب في الذكرة…
عليّان بياع السمك في حيّنا…

كان أعرجا، ربما لاصابته يوما بشلل الأطفال، وكان يحمل سلته المليئة بالسمك ويجر نفسه في أزقة الحي بصعوبة بالغة آملا أن يبيعهم قبل أن يفسدوا!
كنا أطفال الحي (وأنا رئيسة العصابة) نرشقه بالحجارة ونحن نصيح: عليّان الجحشوني…عليّان الجحشوني!
لم نحكم على عليّان بأنه جحش إلا من خلال الطريقة التي تعاملت بها نساء الحي معه!

كل ذي إعاقة ـ وأرفض أن أقول عاهة ـ في مجتمعنا متخلف عقليا، وفاقد للأحاسيس والمشاعر الإنسانية…
هكذا يتم التعامل مع المعاقين في بلدنا، أية كانت نوعية الإعاقة!
ليس هذا وحسب، بل كل إنسان في تلك البلاد يتعامل مع الإنسان الأقل شأنا منه على أنه متخلف عقليا وفاقد للأحاسيس الإنسانية!

لم تشذّ نساء حينا يوما عن تلك الثقافة الموغلة في إجرامها!
كنّ يستهزأن بعليّان، ويحاولن غشه عندما يتعلق الأمر بحساب ثمن السمكات، ظنا منهن أن عقله يقاس برجله المشلولة!….
كلما تذكرت عليّان، وما أكثر ما أتذكره، أعيش حالة الإحباط التي كان يعيشها تحت وقع حجارتنا وصيحاتنا!

مرّة غافلني مختبأ في ظل جدار ـ باعتباري رأس الفتنة ـ واستطاع أن يمسك بي، لكنني تملّصت من يديه وهربت بعد أن تركت نصف شعري في قبضته!
فراح يصيح محكوما باحباطه: والله لو مسكتك يا قزمة سأجعلك خرا سمك!
كنت صغيرة القدّ ولكنني جهورة الصوت، ولذلك كان عليّان مستاءا مني أكثر من أي طفل آخر!
آخ يا عليّان لو تعرف اليوم أنني لست قزمة، ولكنني كنت يومها عصارة ثقافة قزمة!
…..
تيرا وحيدة والديها، وجاءت إلى الحياة بعد ثمان محاولات فاشلة لتلقيح بويضة أمها داخل الانبوب!
نعم هي من أطفال الأنابيب!
بعد أن تمّ تلقيح بويضة أمها مع نطفة والدها داخل انبوب، اُعيد زرع البويضة الملقحة في رحم الأم حتى اكتمل نموها..
كل الفحوص أثناء الحمل أشارت على أن الجنين طبيعي وبكامل صحته…
لكن إحساس الأم أصدق من أي فحص أو تحليل!

عندما أمسكت جزيل طفلتها للحظة الأولى أحسّت بأن الطفلة تعاني من خلل ما…
لم تكن معانيها وحركاتها تشير إلى أنها طبيعية بأي شكل…
قبلت جزيل التحدي، واقتنعت بأنه قدرها، وستفعل مابوسعها لتضمن مستقبل تيرا كشخص عاقل وقادر على الحياة باستقلالية!
قال لها الطبيب المختص بالدماغ والأعصاب عندما كانت تيرا في الخامسة من عمرها: (لو استطاعت تيرا يوما أن تستوعب عملية الجمع، كأن تضيف واحد إلى ثلاثة، اتصلوا بي كي نحتفل بتلك المعجزة!)
….
تيرا حصلت العام الماضي على الدبلوم في علم المكتبات ـ
Library Scince
بدرجة
Valedictorian
(شرف)، وهي تحضر اليوم للماجستير!

علم المكتبات ليس هو اليوم كما كان في السابق، فهو علم يتعلق كليّا بالكومبيوتر وبطريقة تلقين المعلومات!
ليس هذا وحسب، بل تحلم تيرا أن تصبح في المستقبل القريب رئيسة مكتبة الكونغرس الأمريكي، التي تعتبر أضخم مكتبة في العالم، وطبعا حلمها قاب قوسين أو أدنى!

اشترى والدا تيرا بيتهم في ذلك المنتجع عندما كانت في الرابعة من عمرها…
تقضي فيه شهرين كل صيف…
قررت أن تأخذني في رحلة سيرا على الأقدام كي تطلعني على معالم المنتجع، وكي استرد روحي التي تركتها هائمة فيه منذ الصباح..
لم نمشِ سوى دقائق حتى أذهلتني…
كانت تقف أمام المبنى، أي مبنى نمرّ بجانبه، ثم ـ وكأنها تلقي عليّ محاضرة ـ ترش كلامها رشا: هذا المبنى اُسس عام كذا وكذا، ثم أعيد ترميمه عام كذا وكذا، كان مالكه الأول رجل الأعمال فلان الفلاني ثم اشتراه فلان الفلاني واليوم تعيش فيه عائلة أصلها من الولاية الفلانية..
أما دار الاوبرا فتأسس عام كذا وأعيد ترميمه عدة مرات منذ أن تأسس، تتبرع بالنفقات العائلة الفلانية والفلانية….
مدرسة الفن تأسست عام كذا وكذا وهي اليوم تضم كذا وكذا من الطلاب والطالبات…
هذا النادي للفتيان والفتيات أول نادي تأسس في أمريكا…
هذا التمثال نحته فلان الفلاني، وهذا اللوحة تبرع بها فلان الفلاني…
هذا الفندق أول فندق دخلته الكهرباء في أمريكا، أدخلها اديسون بنفسه، ولا زالت هناك طاولة في المطعم داخل الفندق تحمل اسم اديسون، باعتباره أيضا كان زوج ابنة مؤسس المنتجع!
وهكذا دواليك، حتى شعرت أنني في دوامة، ولم أعد قادرة على أن أتابع عقلا بشريّا يتفوّق في غزارة معلوماته على أي كومبيوتر!
….
قالت لي صديقتي جزيل، والدة تيرا: يُقال أن الإنسان يستخدم فقط 10% من خلايا دماغه، ولذلك عندما أكد الأطباء أن تيرا تعاني من درجة ما من التخلف العقلي، آمنت ووالدها بحتمية وجود 10% على الأقل من خلايا دماغها السليمة، وعاهدنا أنفسنا أن نركز على تلك الخلايا!
….
تيرا هي ابنة ثقافة تحترم الإنسان وتؤمن بقدراته…
وليست هي اليوم سوى ثمرة جهود جبارة لوالدين آمنا بحق ابنتهما في حياة طبيعية ومستقلة!
…..
لذلك، أعادتني تيرا نصف قرن إلى الوراء فذرفت دمعة على عليّان، وأرسلت بطاقة اعتذار لروحه الراقدة بسلام!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.