من غير المعقول وصف ما جرى في لبنان والأردن من إقبال على صناديق الانتخاب في السفارتين السوريتين بغير “التهريج المكشوف”، ليس فقط لأن من انتخبوا لا يتخطون 2% من السوريين الموجودين في لبنان، بل، أيضاً، لأن معظم هؤلاء اقتيدوا إلى السفارتين بالعصا والجزرة.
لو أخذنا لبنان مثالاً، حيث كان هناك تطبيل وتزمير لما سمّوه في دمشق “العرس الوطني”، لوجدنا أنفسنا أمام سوريين يعيشون في الضاحية والجنوب، كان من المحال أن ينجوا بأنفسهم من ضغوط حزب الله، بعد أن أحضر لهم السيارات ووضعها في أماكن قريبة من بيوتهم، وقام بزيارات مكثفة إلى منازلهم، وهددهم وتوعدهم، وأفهمهم أن المسألة ليست فقط في إعادة انتخاب بشار الأسد، بل هي تتعلق، قبل كل شيء، بإعادة إنتاج شرعية للنظام، بديلاً عن شرعيته السابقة، التي انهارت داخلياً وعربياً ودولياً، ويريد الأسد أن يواجه العالم بشرعية جديدة هي الشرعية الشعبية التي تحتّم ذهاب كل سوري، باختياره أو بالإكراه، إلى السفارة السورية في بيروت، أو إلى أحد مقرات حزب البعث اللبناني، ليشارك في منح النظام شرعيةً، هو في أمس الحاجة إليها، بعد أن أفقدته سياسات القتل والتدمير جميع أنماط شرعية الدول، وحولته من نظام إلى عصابةٍ، تكمن مبررات وجودها في قوة سلاحها. للرد على هذا الواقع الذي سيمنع العالم من استرداد علاقاته مع الأسد، سنوات وربما عقوداً، والذي جعل منه نظاماً يشبه ما كان قائماً في جنوب إفريقيا قبل رئاسة مانديلا، من الضروري أن تبدو أموره، من الآن فصاعداً، وكأنه استعاد قبول قطاعات من السوريين لحكمه، بدت في إعادة انتخابه أنها تمنحه تأييدها “الطوعي”، أو شكلاً ما من أشكال الشرعية الشعبية، وتقنع حزب الله وأنصار الأسد اللبنانيين بأنهم يدافعون عن قضية يدعمها السوريون، وأنهم ليسوا في سورية لمقاتلة شعبها، ما يشرعن وجودهم فيها وغزوهم لها.
بهاتين الخلفيتين، مارس الحزب، بالشراكة مع عصابات القوميين السوريين من عملاء المخابرات السورية المعروفين، ضغوطا هائلة على المواطنين السوريين، وبالدرجة الأولى، من يعيش منهم في لبنان منذ عقود، ولم ينخرطوا في الثورة بسبب غيابهم عن وطنهم، وتتطلب مصالحهم قيامهم بزيارات إلى بلداتهم وقراهم ومدنهم، وبقاءهم على صلة مع ذويهم، ومحافظتهم على شعرة معاوية مع نظام القتل، وتلبية بعض ما يريده منهم. في المقابل، لم تفض تهديدات الحزب والعصابة، التي وجهت إلى المهجرين السوريين في المخيمات عن أي نتيجة، على الرغم من أنهم تلقوا تهديدات بالقصف والقتل والحصار، في حال قاطعوا الانتخابات. لو كان هؤلاء انتخبوا، أو أعطوا علاماتٍ تفيد بتغير ما أصاب موقفهم، لكان الأمر مقلقاً. أما أن ينظم حزبان فاشيان شموليان بمساعدة وأموال أجهزة أمن عابرة للحدود، وموجودة بقوة في لبنان، اعتادت، طيلة نصف قرن، على اختراق شعبها، وتسييره بالطريقة التي تخدم مصالحها، فهذا ليس أمراً عظيم الشأن. ومن عايش النظام السوري يعلم علم اليقين أنه لم يقم يوماً أي وزن لرأي شعبه، هذا إن كان قد سمح له يوماً بأن يكون له رأي، فالانتخابات كانت بالنسبة له مناسبة لإذلاله، بإظهار الشوط الذي قطعه في كل ما يتصل بإطباق قبضته الفولاذية على عنقه، والمدى الذي بلغه في ترويضهم، وإلغاء قدرتهم على التفكير، وحقهم في الاختيار، فما الذي يدفعه، اليوم، إلى إبداء هذا الاهتمام المبالغ فيه بأصوات مواطنين، لم يحمل لهم قط أي قدر من الاحترام، ولم يترك مناسبةً، إلا وأبدى فيها احتقاره لهم، واستهتاره بكراماتهم؟
هل يحتاج من قتل وشرد وجرح وأعطب وعذّب ولاحق وأخفى وشوه مليوني سوري إلى أصوات من بقوا أحياءً من ضحاياه، لكي يبقى في كرسي الحكم؟ وأية شرعية يمكن لهؤلاء منحه، حتى في حال هرولوا جميعهم إلى صناديق الانتخاب وأيدوه؟ ومن سيصدق أن النظام الذي كان يستخدم العنف، أيام السلم لانتزاع موافقة السوريين على نواب مجلس شعبه ورئيس جمهوريته، سيمنحهم اليوم، وسط موتهم ودمار قراهم وبلداتهم ومدنهم وركام بيوتهم، حق اختيار من يريدونه، الذي يعني حق التخلي عن بشار الأسد، الذي أباد نصف شعبه، لا لشيء إلا ليبقى في الحكم؟
لم يتعلم النظام شيئا في الأعوام الثلاثة ونصف الماضية، وبقي متمسكا بموقفه، الذي استهدف دوما إجبار شعب سورية على تغيير موقفه منه، والرضوخ له من دون قيد أو شرط. هذه المرة أيضا، يقول بشار الأسد بكل اختصار: على الشعب أن يغير موقفه مني، بعد أن هزمته، أما أنا فلماذا أغيّر، إن كنت أستمد شرعيتي الحقيقية وأهليتي للحكم من قدرتي على قتل السوريين، بلا حسيب أو رقيب؟