مما لا شك فيه أن إعلان بريطانيا منذ العام 1964 عن نيتها الإنسحاب من ( مستعمرة عدن ) قبل حلول عام 1968 , وبعد 129 عام من إحتلالها للمستعمره يعد نقطة جوهرية ومركزيه في الصراع الأمريكي _ البريطاني في الشرق الأوسط , ولهذا عمدت الولايات المتحده الأمريكيه الى إعادة تنظيم المنطقه وفق منظور مصالحها فقامت بإجراء تغييرات عديده لم تزل مستمره حتى يتحقق تنفيذ كامل مشروع : الشرق الأوسط الجديد
# أول ورقه سقطت من الحساب الأمريكي عند نية إنسحاب بريطانيا عن مستعمرة عدن كانت ورقة عبد الناصر , فبعد كل الحرب الدمويه التي خاضها في اليمن وسحق فيها زهرة شباب مصر من أجل أن يطرد بريطانيا عن مستعمرة عدن نُظمت له لعبة مخابراتيه شارك فيها الإتحاد السوفييتي , لغرض دفعه وهو واقع تحت جنون عظمة دحر بريطانيا في مستعمرة عدن , الى دفعه لخوض حرب ثانيه وهو لم ينهِ الأولى بعد فقام بالتحرش بإسرائيل بغلق مضائق ( تيران وصنافير ) بوجه الملاحه الإسرائيليه في خليج العقبه والبحر الأحمر فوقعت حرب حزيران 1967 التي خرجت منها إسرائيل وقد إحتلت جميع الأرض العربيه التي كانت تريدها أثناء مباحثات تقسيم فلسطين والتي لم تمنح لها بسبب التعنت البريطاني في المباحثات , وخرج عبد الناصر من الحرب مع إسرائيل ب ( النكسه العربيه ) وسقوط أسطورة عبد الناصر , وسقوط المد الناصري في كل مكان من الوطن العربي , بعدها إنسحبت بريطانيا فعلاً من المستعمره بتاريخ 30 تشرين الثاني 1967
# عام 1968 أسقط الأمريكان الورقه الثانيه التي كانت عالقه في نزاعهم الشرق أوسطي مع البريطانيين . وقع إنقلاب 17 تموز 1968 العسكري ( الأبيض ) في العراق الذي أزاح الحكم العارفي ( الناصري ) عن العراق , وجيء بالبعثيين ( جناح الضباط الأحرار العراقيين ) الذين أقصاهم عبد السلام محمد عارف عن السلطه بما يعرف ب ( ردة تشرين 1963 ) بعد أشهر قليله من قتله لغريمه عبد الكريم قاسم وتسلقه على كرسي السلطه . البعثيون كانت لهم أكثر من سابقه للإنشقاق على الناصريين , ومن هنا كان سبب تفضيلهم على غيرهم , وكانت المهام الملقاة على عاتقهم تتلخص في محورين : الأول هو تحقيق الأمنيات الأمريكيه في العراق التي لم يتمكن فصيل المنصوريه بقيادة عبد الكريم قاسم .. ولا ( الأخوان عارف الناصريان ) من تحقيقها . المحور الثاني كان التأسيس لحروب المرحلة المقبله في الشرق الأوسط . سأكتب عن ذلك في موضوع منفصل
# عام 1969 تمت التصفيه الأمريكيه للوجود البريطاني والفرنسي في ليبيا بما يسمى ب : ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 قادها العقيد معمر القذافي
ليبيا كانت مجزأه تحت السيطرتين البريطانيه والفرنسيه منذ عام 1943 بعد أن هزمت قواتهما الألمان والإيطاليين , عام 1944 عاد الملك محمد إدريس السنوسي من القاهره الى ليبيا لكن الحكومتين العسكريتين رفضتا منحه الإقامة الدائمة على أرض بلده … وحين اشتد صراع البريطانيين والفرنسيين مع الأمريكان على المغرب وتونس .. أحبت الدولتان تهدئة اللعب مع الأمريكان خصوصا وكليهما تجثمان في مصر بمعاهدة بريطانية عسكريه مع ملك مصر والسودان , ووجود بريطاني _ فرنسي في قناة السويس .. فماذا فعلتا في العام 1951 ؟
قامتا بكتابة دستور ليبي .. وسمحتا للملك محمد إدريس السنوسي بالعودة الى بلده .. تلك العودة المرفوضة منذ سبع سنوات , حيث تم تنصيبه ملكاً على ليبيا من جديد , ومنحتا ليبيا إستقلالاً شكلياً مربوطاً بمختلف أشكال المعاهدات السرية والمعلنه
ماذا كان رد فعل الأمريكان على ذلك ؟ بعد عدة أشهر أطاح الأمريكان بالعائلة الحاكمه في مصر بواسطة مجموعه من الضباط المصريين تعرف عليهم ضابط المخابرات الأمريكي ( كيرمت روزفلت ) عندما كان يرأس ( جمعية أصدقاء الشرق الأوسط الأمريكيه ) أثناء مباحثان الهدنه بين العرب واسرائيل في الحرب العربيه الإسرائيليه 1948
لكن الإطاحه بالعائله المالكه المصريه , لم تكن شيئاً ذا جدوى إن لم تتمكن الحكومه المصريه ( الأمريكيه ) الجديده من رفع القواعد البريطانية عن أرض مصر وطرد الفرنسيين من قناة السويس .. لهذا كان على عبد الناصر أن يدخل مصر في حرب السويس من أجل تحقيق هذا الهدف الذي ظاهره لمصر … لكن منفعته الحقيقيه للولايات المتحدة الأمريكيه
تم بعدها استخدام مصر من قبل أمريكا أسوأ أنواع الإستخدام حيث ارسل شباب مصر للقتال من أجل مصلحة الأمريكان لطرد البريطانيين من حامية عدن … وقبل 4 أشهر من مغادرة البريطانيين حامية عدن بعد قتال دام سنوات .. كان على الأمريكان تأمين أمن اسرائيل ركيزتهم الفعلية في المنطقه .. تم توريط عبد الناصر بحرب حزيران 1967 التي خسرها في نكسة وهزيمة حزيران
نعود الآن الى ليبيا عام 1969 وهي تحت الحكم الملكي المتحالف مع البريطانيين والفرنسيين , وكانت للملك السنوسي علاقه ممتازه مع القاعدة الجوية الأمريكيه في طرابلس وهي ( قاعدة ويلوس ) وتعد القاعده أكبر منشأة عسكرية أمريكيه خارج الولايات المتحدة وتبلغ مساحتها 20 ميلاً مربعاً وتقع على ساحل طرابلس
تضم القاعده نادياً على شاطيء البحر , وأكبر مستشفى عسكري خارج الولايات المتحدة ، وصالات للسينما والبولينغ ومدرسة ثانوية تتسع 500 طالب
تضم القاعدة أيضا إذاعة ومحطة تلفزيونية خاصه بها ، فضلا عن مركز للتسوق ومطاعم للوجبات السريعه
يتواجد في القاعده مايزيد على 15 ألف عسكري أمريكي مع عوائلهم والقاعدة الجوية ويلوس تم بناؤها في الأصل من قبل سلاح الجو الإيطالي في عام 1923 وكانت تعرف بإسم ( قاعدة المَلاّحه الجويه ) نسبة الى بحيرة المَلاّحه القريبة منها
أثناء الحرب العالميه الثانيه استولى الأمريكان على قاعدة المَلاّحه من الإيطاليين في 17 مايس 1945 وقاموا بتغيير إسمها الى ( قاعدة ويلوس ) تكريماً الى الليفتنانت ريتشارد ويلوس الذي لقي حتفه في نفس الفتره في حادث تحطم طائره في ايران
كان مقرراً للقاعده أن تستخدم للأغراض العسكريه والإستخباريه للسيطره على شمال افريقيا وجنوب غرب أوربا في إسبانيا والبرتغال وكان السفير الأمريكي في ليبيا وقتها مسروراً بهذه القاعده ويسميها ( الولايات المتحده الأمريكيه المصغره التي تتألق على سواحل البحر الأبيض المتوسط ) وإستمر العمل في القاعده بين عامي 1945 _ 1959 على هذا المنوال
عام 1959 تم إكتشاف كميات مهوله من نقمة النفط في الأرض الليبيه تجعلها تحول ليبيا من دولة فقيره الى واحده من أغنى دول العالم فإسترعى الموضوع إهتمام قاعدة ويلوس الجويه الأمريكيه , وصعّد النزاع على أشده بين بريطانيا وفرنسا اللتين ترتبطان مع ملك ليبيا بالعديد من الإتفاقياات السريه والمعلنه _ وبين الولايات المتحده الأمريكيه التي تفرض واقعها على الأرض من خلال تواجد قاعدتها الجويه , عندها قامت بتحريك أتباعها في المنطقه لكي تتمكن من تحقيق غاياتها
أول المتحركين كان جمال عبد الناصر الذي ناصب الملك محمد إدريس السنوسي العداء تحت حجة واهيه هي أن الملك لم يقطع علاقاته مع الغرب أثناء حرب السويس . وهي حجة واهيه اذا تذكرنا بأن ليبيا وقتها كانت دوله فتيه تأسست منذ 5 سنوات فقط , وأنها لا تستطيع قطع علاقتها مع بريطانيا أو فرنسا أو الولايات المتحده بسبب كل ما أسلفنا شرحه , لكنها كانت حجه والسلام تبيح لعبد الناصر الإتصال بشكل ما مع مجموعه من ضباط الجيش الليبي لتأسيس ( تنظيم الضباط الأحرار الليبيين ) ومدهم بالدعم والخبره لإسقاط الملك وطرد البريطانيين والفرنسيين عن ليبيا لتحويلها الى مستعمرة أمريكيه تحت مسمى : إستقلال وتحرير
نعود الآن الى حياة الملك محمد إدريس السنوسي نفسه , الرجل كان أول وآخر ملك على ليبيا , ومؤكد تنقصه الكثير من خبرات الحكم التي يستطيع أن يراوغ بها للبقاء في مكانه , أضف على ذلك يأسه من إنجاب طفل , فقد تزوج 5 مرات وأنجب من جميع زيجاته 5 أولاد وبنت واحده ماتوا جميعاً وهم في مرحلة النفاس , مما إضطر الملك أخيراً الى تعيين الأمير ( حسن السنوسي ) إبن أخيه ولياً لعهده , وهذا ما سيجعل الملك غير متمسك بالعرش كما لو أنه كان سيورثه لإبن من صلبه
مؤكد أن ما حصل في ليبيا تلك الأيام كان بعلم الملك السنوسي وبتوافق بين أطراف النزاع ( بريطانيا وفرنسا_ الولايات المتحده ) وكان سيناريو تغيير الوضع في ليبيا يقوم كالتالي :
# يدعي الملك المرض ويستقيل ويتنازل عن الحكم الى ولي عهده ويغادر البلاد قبل أن يتمكن ولي العهد من الجلوس على العرش وحمل لقب ملك
# يستغل عسكر ليبيا الأحرار فترة الفراغ الدستوري بخلو البلاد من ملك ( الأول إستقال وغادر _ والثاني لم يستلم بعد ) فيقوم العسكر بإحتلال مواقع البلاد الحساسه وإعلان الإطاحه بالملوكيه في البلاد
تم تنفيذ هذا السيناريو حرفياً , وهكذا وصلنا الى يوم الأول من أيلول ( الفاتح من سبتمبر ) 1969 لنجد شخصيه هزيله لعسكري خرف تعتلي سدة الحكم في ليبيا . الطريف في الأمر أن الأمريكان وبتاريخ 11 حزيران 1970 أي بعد عشرة أشهر من تغيير نظام الحكم في ليبيا قاموا بالخروج من قاعدة ويلوس الجويه ومنحوا بناياتها الى الليبيين الذين قاموا بتحويلها الى ( مطار معيتيقه الدولي ) … لم تعد للأمريكان حاجه الى مكان صغير ينزوون فيه على أرض ليبيا … ليبيا كلها الآن أصبحت قاعدة ويلوس
تآمرت ( القاعده _ الدوله ) على كل الدول الافريقيه , وحققت بدولار النفط الليبي كل أحلام الأمريكان في إجتياح قارة افريقيا والسيطرة عليها . كنت أعيش في طرابلس وأرى بعيني كل يوم مواكب الرؤساء الأفارقه وهي تجوب شوارع المدينه بحثاً عن القذافي الذي يمنح عطاءات تقدر بمئات الملايين من أجل دعم حركات التمرد والإنفصال في دول افريقيا تحت تسمية ( دعم حركات التحرر للشعوب ) وبعد 42 سنة من خدمة معمر القذافي لأهداف أسياده إنتهى دوره فجاؤا وأنهوه أبشع وأخس نهايه
في الإستعمار القديم كانت الدوله القويه تؤلف جيشاً وتغزو دولاً ضعيفه وتضمها تحت سيطرتها . الإستعمار الحديث لا يفعل هذا إلا ما ندر , اليوم ( حلف الناتو والبنك الدولي ) هما شركتان إستعماريتان مساهمتان ( والدول حاملة الأسهم في هاتين الشركتين ) تخرج الى العالم على شكل تحالفات دوليه لفرض الخضوع والجوع والعبوديه على الشعوب , الأرباح التي تجنيها التحالفات الدوليه يتم تقاسمها في شعبة حسابات الشركه .. أما نحن الدول الخاضعه فمن الآن وصاعداً سيكون مستحيلاً علينا معرفة من هو جلادنا