يشكل النزاع الأمريكي _ البريطاني حول العراق نقطة جوهريه في الصراع بينهما في الشرق الأوسط ولهذا تم زج العراق في معاهدة ( سعد آباد ) التي وُقعت بينهما عام 1937 وإنتهت عام 1948 عند حل عصبة الأمم التي دمرتها الحرب العالميه الثانيه , ثم زج العراق من جديد عام 1956 في ( حلف بغداد ) الذي تأسس تحت رعاية الأمم المتحده ثم خرج العراق منه بعد الإنقلاب العسكري الأمريكي عام 1958 حيث تم نقل مقرات الحلف الى تركيا وتحول إسمه الى ( حلف السنتو ) أو حلف المعاهدة المركزيه
بداية الأربعينات من القرن الماضي سقطت باريس تحت الإحتلال الألماني وكان الثمن لتحريرها هو إنسحابها من سوريا ولبنان لتتحولا منذ ذلك التاريخ الى مستعمرتين أمريكيتين , عندها أدركت بريطانيا أن صراعها مع الأمريكان في المرحلة المقبله سيكون في مستعمراتها حول البحر الأبيض المتوسط لذلك قامت عام 1945 بتقديم مشروع تأسيس ( جامعة الدول المنتدبه ) بفتح التاء والدال والباء من كل من مستعمراتها : العراق وفلسطين ومصر , والتي تحول إسمها عند التأسيس الى جامعة الدول العربيه بعد إنضمام دول عربيه اخرى إليها من غير دول الإنتداب
عام 1947 إضطرت بريطانيا بسبب مديونيتها العاليه الى الأمريكان نتيجة الحربين العالميتين الأولى والثانيه الى الموافقه مرغمه على قرار تقسيم فلسطين وبذلك خسرت موقعاً ستراتيجياً لها على الضفة الشرقيه من قناة السويس شريان قلب العالم الذي يربط الشرق بالغرب , فقامت عن طريق الجامعه العربيه وجيوش جمعتها من دول الإنتداب بإستعمال العرب بالنيابه للدفاع عن مواقعها في مستعمرتها المفقوده وهكذا وقعت حرب 1948 العربيه الإسرائيليه
رغم أن العراق لا يمتلك حدود مشتركه مع اسرائيل إلا أنه شارك في هذه الحرب , وحين وقعت مباحثات الهدنه العربيه الإسرائيليه فلم يشترك فيها العراق بل سحب جيشه فقط أما ترسيم الأرض والحدود مع اسرائيل فقامت به إمارة شرق الأردن عوضاً عن العراق
بعد هذه الحرب أدرك الأمريكان أن بريطانيا لن تغادر مواقعها في الشرق الأوسط بغير قوة السلاح , وهكذا تم التنسيق مع منظومة الضباط الأحرار المصريه أثناء مباحثات الهدنه ( وهم الجناح العسكري من جماعة الأخوان المسلمين في مصر ) فوقع في مصر الإنقلاب العسكري الأمريكي عام 1952 الذي سيخرج بريطانيا من مصر ويحولها منذ ذلك التاريخ الى مستعمرة أمريكيه
في العراق كان الوضع مختلفاً ففي نهاية عام 1949 قام الرائد ( رفعت الحاج سري ) بتشكيل تنظيم عسكري تحت عنوان ( تنظيم الضباط الوطنيين ) على شكل خلايا سريه متفرقه في ثكنات ومعسكرات مختلفه , وكانت ميول هؤلاء الضباط تختلف ما بين قوميين الى شيوعيين الى ليبراليين , وهذه الخلايا تتجمع كلها في تنظيم الضباط الوطنيين الذي يقوده رفعت الحاج سري , أطلق عليه فيما بعد ( تنظيم الضباط الأحرار ) تيمناً بتسمية الحركه التي وقعت في مصر
كتب ( جمال حماد ) وهو واحد من منظومة الضباط الأحرار المصريه عمل في العراق كملحق عسكري بعد إنقلاب 1952 في مصر يصف الطريقه التي قاد بها جمال عبد الناصر مجموعة الضباط الأحرار العراقيه فيقول بأنه خلال عمله في بغداد عام 1952 إلتقى في وزارة الدفاع العراقيه بكل من ( المقدم الركن إسماعيل عارف ) مدير شعبة العمليات في الوزاره , و ( رفيق عارف ) رئيس أركان الجيش , وتأسست بينهم صداقه بموجبها تمت دعوته لحضور مناوره عسكريه في راوندوز في أيلول 1953
في راوندوز وبشكل سري جرت بين الثلاثه محادثات بعلم كل من عبد السلام عارف ورفعت الحاج سري , على إثرها سافر جمال حماد الى مصر وأطلع جمال عبد الناصر على كل الأوليات , ثم عاد الى بغداد وأبلغ المجموعه برد عبد الناصر , ثم قطع علاقته مع المجموعه حتى لا يثيرون الشبهات , وأبلغهم أن يتصلوا عوضاً عنه بسكرتير السفاره السوريه في بغداد ( محمد كبول ) للإطلاع على المخطط الأمريكي لقلب نظام الحكم
في نفس الوقت قام جمال حماد ومن موقعه كملحق عسكري بتطوير علاقة صداقه مع كل من الملك فيصل الثاني والوصي عبد الإله للتمويه على الدور الذي يقوم به الآن في العراق
الخطه التي أعدت للإنقلاب عام 1956 تتلخص في أنه بتاريخ 12 /10 / 1956 سيتم إجراء إستعراض عسكري , أثناء الإستعراض يتم ضرب المنصه التي يجلس عليها الملك فيصل الثاني , الوصي عبد الإله , نوري السعيد , والمارشال البريطاني مونتغمري
الضباط الميدانيون المخططون كانوا كل من : إسماعيل عارف , رفعت الحاج سري , صالح السامرائي , أما التنفيذ فكان من واجب اللواء الذي يقوده عبد الكريم قاسم . عبد الكريم قاسم كان وقتها خارج تنظيم الضباط الأحرار ويبحث لنفسه عن دور للإنتساب الى التنظيم بإصراره على موضوع ضرب المنصه مهما كلف الأمر , وهكذا نشأ بين المخططين والمنفذين بعض الجدل الذي وصل صداه الى نوري السعيد فقام بإلغاء الإستعراض العسكري , ونقل هؤلاء الضباط كل واحد الى مكان داخل أو خارج العراق فلا يلتقون أبداً
عبد الكريم قاسم كانت له علاقه جيده بالقصر الملكي ونوري السعيد تجعلهم يستبعدون أي شك فيه ولهذا لم تشمله حركة النقل التي وقعت بعد إفتضاح أمر محاوله عام 1956 . الآن وقد خلت الساحه من ضباط منافسين يمكن أن يقاسموا عبد الكريم قاسم في جني المكاسب , فقد كرر محاولة ضرب المنصه في إستعراض عسكري وقع بداية عام 1958 بالإشتراك مع محمد نجيب الربيعي , ولا تدري كيف إفتضحت هذه المحاوله الثانيه التي قام نوري السعيد على إثرها بنقل محمد نجيب الربيعي سفيراً في المملكه العربيه السعوديه فأصبح الطريق سالكاً أمام قاسم للإستحواذ على كل ما يريد من مناصب , كتب الدبلوماسي الأردني ( ضياء الدين بن طالب الرفاعي ) الذي كان يعمل وقتها في السفارة السعوديه في الرياض في كتابه ( حقيبة الذكريات ) الكثير عن قلق محمد نجيب الربيعي وتكتمه بسبب هذه الحادثه حين عمل سفيراً للعراق في الرياض
عدة محاولات عسكريه للإنقلاب على الحكم لم تفلح , عندها قرر الأمريكان إخراج بريطانيا من العراق بالقوه , وكانت أدوات الإنقلاب الأمريكي في العراق في 14 تموز 1958 هم كل من جمال عبد الناصر وكميل شمعون ورشيد كرامي وسارت الخطه كالتالي
بعد توقيع الوحدة بين مصر وسوريا في 22 شباط 1958 وإعلان ( الجمهوريه العربيه المتحده ) تم إفتعال توتر داخل لبنان بين المسيحيين الموارنة والمسلمين على خلفية أن الرئيس الماروني ( كميل شمعون ) لم يقطع علاقاته مع الغرب عام 1956 حين دخلت مصر في حرب السويس . أظهر عبد الناصر الغضب , فإفتعل كميل شمعون تقارباً مع حلف بغداد ونوري السعيد العدو اللدود لعبد الناصر
عند إعلان ( الجمهورية العربية المتحدة ) كان رئيس الوزراء اللبناني المسلم ( رشيد كرامي ) من المناصرين لها وهو مساند لسياسة عبد الناصر منذ حرب السويس
اللبنانيون المسلمون طالبوا الحكومة اللبنانيه بالإنضمام الى الوحدة في هذه الجمهورية الجديدة , بينما المسيحيون كانوا يريدون لبنان دولة مستقلة . عندها تمرد المسلمون اللبنانيون فقام المسيحيون اللبنانيون بالإدعاء أن هناك قوات من الجمهورية العربية المتحدة قادمة من سوريا ستقوم بمناصرة المسلمين , مما دفع كميل شمعون الى تقديم شكوى الى مجلس الأمن الدولي . فقامت الأمم المتحدة على الفور بإرسال فريق من المحققين الذين رفعوا تقريرهم بأنهم لم يجدوا أيا ما يثبت ذلك الإدعاء . عندها أعلن كميل شمعون أنه يرشح نفسه لفترة رئاسية جديدة .. مما زاد الأمور حدة في لبنان
كانت الخطة محكمة لإستدراج المنطقة للقيام بإنقلاب في العراق . في هذه الأثناء كانت الحكومة المصرية والرئيس جمال عبد الناصر شخصياً يجري إتصالات ومباحثات مع مجموعة من الضباط العراقيين لقلب نظام الحكم في العراق والإتفاق معهم على خطة لتنفيذ ذلك
مخاوف من إمتداد العنف الذي يقع في لبنان الى الأردن , جعل الحكومة الأردنية التي ترتبط مع بغداد بالحلف الهاشمي , تطلب من الحكومة العراقية تحريك قطعات من جيشها للذهاب الى الأردن تحسبا لأي ما قد يستجد
وهذا هو بيت القصيد من كل ما سبق من تمهيدات : تحريك بعض قطعات الجيش العراقي … لأن هذه القطعات ما أن تحركت , حتى خالفت التعليمات المعطاة لها فلم تذهب الى الأردن لكنها حاصرت المواقع المهمة في بغداد مثل وزارة الدفاع ودار الإذاعة .. ثم حاصرت القصر الملكي , وهي بقيادة كل من العميد الركن عبد الكريم قاسم والعقيد الركن عبد السلام محمد عارف . وعند الفجر فتحت السفارة المصرية في بغداد أبوابها ووزعت المنشورات وصور عبد الناصر , وأعطت التعليمات
ومنذ الصباح الباكر أعطت القوة التي تحاصر القصر الملكي , الأوامر الى العائلة المالكة بمغادرة القصر , وكانوا كل من : الملك فيصل الثاني , الوصي عبد الإله , زوجته الأميرة هيام , الملكة نفيسة زوجة الملك علي ووالدة الوصي عبد الإله , الأميرة عابدية خالة الملك , وبعض الخدم .. أمر الجميع بالتقدم في الحديقة على شكل صف والإستدارة بوجوههم الى الحائط , وبدأ النقيب عبد الستار العبوسي بإطلاق النار فشاركته القوة المحاصرة بإطلاق النار .. فتم قتل العائلة المالكة وخدمها برمتهم
مساء نفس اليوم قدمت الحكومة المصرية التهاني للضباط العراقيين على نجاحهم في إسقاط الحكم الملكي وبدأت الإذاعات المصرية تذيع نشيد ( بغداد يا قلعة الأسود ) بصوت أم كلثوم الذي كان معداً لهذا اليوم .. منذ بدأ التخطيط للإنقلاب
لكي تنزل الولايات المتحده الأمريكيه جنود المارينز في أقرب نقطه من هذه الأحداث , قام كميل شمعون صباح يوم 15 تموز 1958 بطلب العون من الحكومة الأمريكية التي تبسط نفوذها على لبنان منذ أربعينات القرن الماضي بالتدخل لحماية الأوضاع الداخلية .. فإستجاب الرئيس الأمريكي أيزنهاور مباشرة بتنفيذ عملية بلو بات : الوطواط الأزرق
قامت قوات إنتشار سريع أمريكية قوامها 14 ألف جندي بالوصول الى لبنان دفعة واحدة حيث قامت الجوية منها بإحتلال مطار بيروت ودائرة قطرها بضعة أميال تحيط بالمطار , أما قوات
المارينز فقد إحتلت ميناء بيروت المشرف على المدينة , ثم وصل مبعوث أيزنهاور ( روبرت ميرفي ) الى بيروت وأشرف من هناك على حماية الإنقلاب الذي وقع في بغداد , وحماية الوضع الجديد في العراق أيضا , وبرر روبرت ميرفي بقاءه في لبنان بحجة تهدئة أوضاعها . وبعد إحكام السيطرة على أوضاع المنطقة بعد إنقلاب العراق , تم إنتخاب فؤاد شهاب رئيساً لجمهورية لبنان , وإنتهت عملية الوطواط الأزرق فغادر روبرت ميرفي بيروت
من كل ما تقدم يتبين أن مهمة منظومة الضباط الأحرار في العراق لم تكن أكثر من إغتيال العائله المالكه وهي عمليه مشينه بكل ما رافقها من عنف ورعونه , أما المنفذ الحقيقي للإنقلاب الأمريكي في العراق فكانت قوات المارينز الأمريكيه ب 14 ألف جندي , وخلاف مفتعل بين عبد الناصر وكميل شمعون ورشيد كرامي , ومن يريد الإطلاع على التفاصيل الممله لهذا الإنقلاب عليه العوده الى كتاب ( حرب خروشوف البارده ) تأليف الأمريكيان ( ألكسندر فورسينكو , تيموثي نفتالي ) وهو من إصدارات عام 2006 باللغة الإنكليزيه ولم يترجم الى العربيه حتى اليوم
المهمه التاليه التي قام بها ( الضباط الأحرار ) في العراق بعد قتل العائله المالكه كانت الصراعات المسلحه فيما بينهم لتدمير آخر ما تبقى في العراق , تأسيس المليشيات , والإعتقالات , والمذابح الدمويه في الموصل وكركوك , إستفراد عبد الكريم قاسم بالسلطه وإقصاؤه وإعدامه لعدد من رفاقه في المنظومه , ثم الإطاحه به من قبل عبد السلام عارف بمباركه من عبد الناصر , ثم تأسيس مليشيا جديده وزيادة الإعتقالات , والإنقلاب على البعثيين لأنهم إنشقوا عن موضوع الوحده مع عبد الناصر في سوريا .. وهلم جراً
حالة الفلتان التي يعيشها العراق اليوم ليست وليدة ساعتها , قام بالتأسيس لها ثله من الضباط ( الوطنيين ) ( الأحرار ) منذ إنقلاب عام 1958 وسيستمر الفلتان ما دمنا وبعد حوالي 60 عاماً على ذلك الفلتان غير قادرين على رؤية الأمور على حقيقتها