تناقض البنيان النظري للماركسية والواقع القائم

nabilaudehتحول الماركسية الى مقولات دينية?
التطور التاريخي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات البشرية، قادنا الى واقع جديد مختلف عن فترة صياغة ماركس لنظرياته. ان من يتعامل مع الماركسية كمقولات دينية، يعيش في اشكالية صعبة، تتميز بجمود عقائدي، وانقطاع عن الواقع الاجتماعي والسياسي. وهذا مع الأسف يميز الأحزاب الشيوعية.
في العلوم تجري انقلابات . قوانين فيزيائية كانت حتى وقت قريب تعتبر نهائية، تبين انها نقضت. وتتطور نظريات جديدة مكانها. ليس نفيا لها انما تطويرا وتجديدا. ان تطور العلوم يجري عبر نقدها ومحاولة نقضها أيضا. في الفكر يجب ان نفهم ان النقض والنقد هما ميزة للتطور والتطوير ، وليس للنفي والالغاء.
الماركسية بكل عظمتها الفكرية، لم تطرح نفسها كرؤية الهية، انما كفكر انساني محدد بعوامل اجتماعية ، اقتصادية، تاريخية ومعرفية.
تابعت في الفترة الأخيرة مقالات وتصريحات قادة شيوعيين. ومع كل ما احمله من احترام لدورهم السياسي الطلائعي، الا اني بت أشعر بقلق عميق من تمسكهم بمقولات عفا عنها الدهر. والمشكلة الأخطر التي تنبع من ذلك، هو تحويل تلك المقولات الى أسس للبناء الفكري والسياسي والتحليل الاجتماعي واتخاذ المواقف السياسية والاجتماعية من نضالات مختلفة ومن أحداث عديدة، والأخطر أن تلك المقولات تعتبر قاعدة لكل استراتيجيتهم الفكرية، الاجتماعية والسياسية.
المسالة تتعلق أيضا بمدى المام بعض القادة بالنظرية الماركسية. لدي شكوك ان المامهم سطحي جدا. ربما يحفظون بعض المقولات بشكل ميكانيكي. ولكن ملاحظتي الصعبة اني ارى قطيعتهم المتزايدة مع الفكر الماركسي الذي يدعون انهم ممثلوه وناشروه والضاربين بسيفه.

الصراع الطبقي
ساتناول نظريتان لماركس لم يثبت التطور التاريخي صحتهما. وهما من الأسس الهامة في الماركسية. ويعتمدها الكثير من الماركسيين بصفتها بؤبؤ العين في مناهجهم السياسية.
اولا نظرية الصراع الطبقي: تطرح الماركسية مسألة الاستقطاب الاجتماعي المتزايد لدرجة التضاد والتناحر بين الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع البرجوازي (الطبقة العاملة من جهة والبرجوازية من الجهة الأخرى)، وصولا الى الصدام التناحري، أي بقضاء طبقة على أخرى، والماركسية في رؤيتها التاريخية تطرح بان التناحر سيقود الى استلام الطبقة العاملة السلطة والقضاء على البرجوازية. الى جانب ذلك وارتباطا بنفس الموضوع طرح ماركس نظرية الأممية ، أي ان الصراع الطبقي يوحد بين عمال العالم، يقوي التضامن الأممي بينهم، ويساعد بعضهم البعض، وينسقون نضالاتهم، ضد برجوازيتهم.أي نقل المفهوم الطبقي من إطاره المحلي إلى إطاره الدولي. وعليه الطبقة العاملة ( البروليتاريا) لا تناضل ضد برجوازية بلدها فقط، بل ضد برجوازية البلدان الأخرى أيضا.
لم يثبت صحة هاتان النظريتان. في عصرنا لم يحدث أي صراع طبقي. والأممية لم تكن الا مجرد شعارات غير قابلة للتنفيذ. لم نشهد وحدة طبقية عمالية ضد برجوازية بلدان مختلفة.الانتماء الإثني والإنتماءات الدينية برزتا بقوة أكبر في جميع أحداث عالمنا. بل نعيش أممية برجوازية تسمى العولمة. كل النضالات الطبقية، لم تتجاوز المطالب المعيشية والاجتماعية، أي لم تخرج عن اطار المجتمع المدني بكل تركيبته، وتلخصت طروحاتها بتحسين ظروف الحياة والخدمات والعدالة الاجتماعية والحقوق المدنية المختلفة،ولم يطرح أي شعار لاسقاط نظام برجوازي ، بمفهوم استبداله بنظام مختلف، أي نظام اشتراكي. ولم يكن أي صراع طبقي تناحري في تاريخ البشرية منذ اواسط القرن التاسع عشر بعد ان طرج ماركس نظريته..
حقا هناك تضامن مع الشعوب المناضلة ضد المحتلين والمعتدين من الخارج او القمع السلطوي من الداخل. والتضامن ليس وقفا على الطبقة العاملة، بل قوى برجوازية أيضا تتضامن وترفض أي اعتداء على حقوق الانسان ، وذلك انطلاقا من مفاهيم حقوق الانسان التي اقرت في دساتير الدول الراسمالية ( الاستعمارية) ، وكانت أكثر تقدما من مفاهيم حقوق الانسان في دول المجموعة الاشتراكية ، على الأقل في التطبيق.
المفكر والباحث العراقي عبد الحسين سليمان (باسم الزبرجاوي) يقول:”لينين دفن الماركسية. وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، تم تحرير الماركسية من السجن، وبدأ العديد من الكتاب يكتبون عن ماركس بعيون حقيقية و الالاف من المقالات، وبدأ العالم يعرف من هو ماركس، بعد ان تحرر من السجن السوفيتي الدوغمائي الديني”.

التناقضات
الماركسية تتحدث عن شكلان من التناقضات ، الأول تناقضات تناحرية والثاني تناقضات غير تناحرية. حسب الماركسية فان التناقضات التناحرية هي بين قوى وفئات اجتماعية متعادية نتيجة وضعها الاقتصادي ومصالحها وأهدافها الجذرية،وهذه ميزة لكافة مراحل تطور المجتمع الرأسمالي وتتخلل كافة جوانب حياته المادية والروحية.
من الواضح ان ماركس في نظرته الطبقية اعتمد على معرفته الجيدة للتاريخ الفرنسي ومنها الثورة الفرنسية (1789-1799م). التي أحدثت تغييرات كبيرة في المجتمع الغربي بشكلٍ عام وفي نظام الحكم الفرنسي بشكل خاص. وكانت لها آثار بعيدة المدى على بقية الأقطار الأوروبية أيضًا. وقد أدخلت الثورة الفرنسية المُثُل الديمقراطية إلى فرنسا لكنها لم تجعل الدولة ديمقراطية. ومع ذلك فقد أنهت الحكم المطلق للملوك الفرنسيين، وجعلت الطبقة المتوسطة قوية. وقد أدت الأوضاع الإجتماعية والسياسية والإقتصادية المتردية إلى الثورة. بدأت الثورة بأزمة اقتصادية حكومية، ولكنها سرعان ما أصبحت حركة للتغيير العنيف.
ثم كانت تجربة ثورة 1848 التي قام بها العمال والطلبة وكانت اول ثورة عمالية. و
وعندما صاغ ماركس مع زميله انجلز «بيان الحزب الشيوعي» (1848) وضع البيان كما كتب لينين لاحقا “الخطوط العريضة لتصور جديد للعالم، وخاصة طرحهما لنظرية صراع الطبقات، و نظرية الدور الثوري التاريخي العالمي للبروليتاريا – خالقة المجتمع الشيوعي الجديد”. أي ان ماركس اعتمد على ظاهرة عايشها ، وفيما بعد جاءت كومونة باريس (1871) وهي حركة نقابية وعمالية يسارية، قامت بثورة تعتبر أول ثورة إشتراكية في العصر الحديث ، إستولت على السلطة في فرنسا لمدة شهرين. كل هذا عزز مفاهيم ماركس النظرية حول الصراع الطبقي التناحري. أي اقتبس حالة تاريخية في فرنسا، اعتبرها مقياسا دوليا لا مناص منه حيث تنشا طبقة عاملة مقابل الطبقة البرجوازية ، والصراع ألتناحري بينهما هو حتمية تاريخية.
على الورق ، الحسابات سهلة. في الواقع الحياتي الأمور ناقضت توقعات ماركس. لا أقول أخطأ، ولكن التحولات التاريخية في المجتمع البرجوازي، وزيادة الرفاهية، وتطور الطبقة العاملة العلمي والتكنولوجي، ونشوء فئات عمالية إدارية من مهندسين ومحامين ومدراء بنوك وموظفين في مختلف المناصب الهامة، وتطور مفاهيم الحقوق العمالية والفردية في المجتمع، وتطور الخدمات والتأمينات والضمانات المختلفة، جعل النظام الرأسمالي نظاما ديمقراطيا ليبراليا، نظام رفاه اجتماعي، يقدم من الحقوق الأساسية ، ما تجاوز العالم الاشتراكي بمراحل هائلة.

المفاهيم الطبقية
ثورة اكتوبر (1917) لم تكن انتفاضة عمالية، بل انتفاضة ساهم فيها الجنود والفلاحين، وروسيا كانت اضعف حلقة رأسمالية، أي ان تطور الطبقة العاملة فيها كان ضعيفا وللثورة أسباب بعيدة عن الصراع الطبقي التناحري. بلا شك يمكن تحليل المجتمع بالمفاهيم الطبقية، ولكن ليس بمفاهيم الصراع الطبقي التناحري.انما بمفاهيم العدالة الاجتماعية والنضال من أجل الديمقراطية وحقوق الانسان والمطالب الاجتماعية والخدماتية العامة.ان طرح شعار ثورة اشتراكية اليوم يبدو مأخوذا من رواية عن الخيال العلمي.
كل الصراعات الطبقية اللاحقة لم تكن تناحرية، بل تميزت بقاعدتها الاجتماعية الواسعة من اجل مطالب اجتماعية عامة لجميع فئات المجتمع ، ولم تتخذ طابعا طبقيا او طابع صراع ضد سلطة البرجوازية ، بل طابعا اجتماعيا مدنيا سلميا عاما.
الخطأ هو بناء سياسات الأحزاب الشيوعية على مفاهيم لم تصمد بالتجربة التاريخية، وكانت ظاهرة اوروبية محصورة بدولة معينة، وتركت امتدادها في دول الجوار، المانيا مثلا، ولم تتحول الى قاعدة تاريخية حتمية.
نفس الأمر ينسحب على مفهوم الأممية، لصلته الوثيقة بالمفهوم الطبقي الماركسي.
ما كان صحيحا في تحليل ماركس لظاهرة اوروبية لا يمكن ان يبقى أبد الدهر وكأنه نص ديني مقدس.
نفس الأمر حول البروليتاريا ، التي كانت ظاهرة اوروبية، لم تظهر خارج القارة الأوروبية.مثلا لم تنشأ البروليتاريا في الولايات المتحدة. ومن اسباب نشوء هذه الظاهرة ( البروليتاريا) اقرار قوانين اوروبية حول الأرض التي سلبت الفلاحين المراعي والحقول لحساب التطور الصناعي، وحولتهم الى عمال ملحقين بالصناعة، لا يملكون الا بيع قوة عملهم.
*****
ملاحظة:كتبت من منطلق رؤيتي لعظمة الماركسية التي ادخلت السجن السوفييتي الدوغماتي،وحولت الى مقولات ثابتة بعيدة عن واقع التطورات التاريخية. آمل ان ينطلق المفكرون الماركسيون نحو تطوير الفكر الماركسي بما يناسب القرن الحادي والعشرين.
nabiloudeh@gmail.com

About نبيل عودة

نبذة عن سيرة الكاتب نبيل عودة نبيل عودة - ولدت في مدينة الناصرة (فلسطين 48) عام 1947. درست سنتين هندسة ميكانيكيات ، ثم انتقلت لدرسة الفلسفة والعلوم السياسية في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو . أكتب وأنشر القصص منذ عام1962. عانيت من حرماني من الحصول على عمل وظيفي في التعليم مثلا، في فترة سيطرة الحكم العسكري الاسرائيلي على المجتمع العربي في اسرائيل. اضطررت للعمل في مهنة الحدادة ( الصناعات المعدنية الثقيلة) 35 سنة ، منها 30 سنة كمدير عمل ومديرا للإنتاج...وواصلت الكتابة الأدبية والفكرية، ثم النقد الأدبي والمقالة السياسية. تركت عملي اثر إصابة عمل مطلع العام 2000 ..حيث عملت نائبا لرئيس تحرير صحيفة " الاهالي "مع الشاعر، المفكر والاعلامي البارز سالم جبران (من شعراء المقاومة). وكانت تجربة صحفية مثيرة وثرية بكل المقاييس ، بالنسبة لي كانت جامعتي الاعلامية الهامة التي اثرتني فكريا وثقافيا واعلاميا واثرت لغتي الصحفية وقدراتي التعبيرية واللغوية . شاركت سالم جبران باصدار وتحرير مجلة "المستقبل" الثقافية الفكرية، منذ تشرين اول 2010 استلمت رئاسة تحرير جريدة " المساء" اليومية، أحرر الآن صحيفة يومية "عرب بوست". منشوراتي : 1- نهاية الزمن العاقر (قصص عن انتفاضة الحجارة) 1988 2-يوميات الفلسطيني الذي لم يعد تائها ( بانوراما قصصية فلسطينية ) 1990 3-حازم يعود هذا المساء - حكاية سيزيف الفلسطيني (رواية) 1994 4 – المستحيل ( رواية ) 1995 5- الملح الفاسد ( مسرحية )2001 6 – بين نقد الفكر وفكر النقد ( نقد ادبي وفكري ) 2001 7 – امرأة بالطرف الآخر ( رواية ) 2001 8- الانطلاقة ( نقد ادبي ومراجعات ثقافية )2002 9 – الشيطان الذي في نفسي ( يشمل ثلاث مجموعات قصصية ) 2002 10- نبيل عودة يروي قصص الديوك (دار انهار) كتاب الكتروني في الانترنت 11- انتفاضة – مجموعة قصص – (اتحاد كتاب الانترنت المغاربية) كتاب الكتروني في الانترنت ومئات كثيرة من الأعمال القصصية والمقالات والنقد التي لم تجمع بكتب بعد ، لأسباب تتعلق اساسا بغياب دار للنشر، تأخذ على عاتقها الطباعة والتوزيع.
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.