كانت انجيلا نجمة الحفل، وكان حفلا رائعا، قلنا لها فيه: وداعا، نتمنى لك رحلة موفقة!
……..
يا إلهي…..
كم اختلف مفهوم الإنسان للزمان والمسافات!
أذكر في طفولتي المبكرة جدا، سافر أحد أقربائي إلى ألمانيا ليلتحق بجامعة هناك ويكمل تعليمه العالي، وأذكر كيف التفت نساء العائلة والحي حول أمه، يندبن قهرها الأمومي، وكأنه غادر ولن يعود
والأم تولول: هيهات يازمن…أراك ياحبيب القلب!
…..
كانت ألمانيا في ذلك الوقت أبعد عن سوريا من بعد المريخ عن الأرض في مفهوم اليوم
أربعة ساعات طيران؟؟؟؟
يا لهول البعد!!
لكنها ليست أبعد من كالفورنيا حيث نعيش عن الولاية التي ستسافر اليها انجيلا في مهمة دراسية، من أجل تحصيلها الجامعي الأعلى!
……
تغير مفهومنا للمسافات، وانقلبت الولولة زغازيدا وأهازيج….
أخذت انجيلا عهدا مني ومن والدها أن نطير اليها كل شهرين، وأخذنا عهدا منها أن تطير إلينا كل شهرين،
وبذلك نراها وترانا كل شهر، ناهيك عن التكنولوجيا التي تختصر المسافات وتحيل االدهر ثوانيا…
……
كذلك، أخذت عهدا مني بأن تصلها أقراص الكبة والصفايح وفطائر السبانخ والزعتر كلما شعرت بالحنين اليها…
وأخذت عهدا منها ان تستمر في إرسال تقريرها اليومي عن أحداث ذلك اليوم من أقلها شأنا إلى أهمها…
……
لقد تغير الزمن وفرض علينا أن نتغير معه، ومن لا يتخذ من التغيير سنة، ستطحنه عجلة الزمن عندما تجده جثة هامدة في طريق سيرها!
لا ثوابت في زمننا هذا إلا التغيير نفسه…
……
أراقب ملامح انجيلا وهي تحملق مليا في شاشة كومبيوترها، بينما تبحث من خلال النت عن مسكّن لها في الولاية الجديدة وتقوم بفرش الشقة قطعة قطعة لتجد كل شيء جاهزا عندما تصل هناك، وذلك قبل بدء الفصل الدراسي بيوم واحد، دون أن تضع على عاتقنا أية مسؤولية تجاه سفرها والتحضير لذلك السفر،
حتى من الناحية المالية فستكون مسؤولة عن تكاليف مهمتها الدراسية لأربع سنوات، والتي ستصل مبلغا خياليا، بين أقساط الجامعة وتكاليف المعيشة.
لقد ضمنت لتوها تلك التكاليف من خلال سعيها الشخصي الحثيث، عن طريق قروض بنكية ومنح دراسية.
…..
غادرت عشنا منذ أن بلغت عامها الثامن عشر، ومن يومها وهي تشتغل وتدرس، وقلما تطلب مساعدة أو تضع على كاهلنا ثقلا.
ثقتنا بها وثقتها بنفسها كانت المصباح الذي أضاء لها الطريق وخفف عنها وعورته!
لا تمر شاردة أو واردة في حياتها إلا وتوثقها بالصور ثم ترسلها لي كي أشاطرها الرأي!
في كل رسائلها لي تخاطبني
Mamma Goose
ماما الوزة
لا أدري لماذا تناديني بالوزة…
هي تقول: هناك أوجه شبه بيني وبين الوزة…
ربما جمال الرقبة!!!!!!!
من يدري؟؟!!
ولكن، تبقى تلك الأوجه سرا في قلب انجيلا!
…….
علاقتي بها، كما هي علاقتي بأخيها وأختها، تحافظ على إحساسي الدائم بالحيوية والشباب،
وخصوصا عندما أزف لها نبأا مفاجئا، فترد بعفوية طفولية:
Shot up! You’re lying
اسكتي…عّم تكذبي!
وكأنني زميلة مقعدها في صفوف الحضانة.
لم أتجرأ يوما حتى على المزاح مع أمي، ولو فعلت على طريقة انجيلا لغاصت شحاطة البلاستيك في لحم زنودي،
ولو قلت لها “ماما الوزة” لوزوزتني من رقبتي!
خصوصا كانت أمي ـ ولم تزل ـ عسكرية المزاج برتبة “مساعد أول في مخفر سوري”،
وبقيت في نظرها حتى بعد زواجي مجرد جندي مغلوب على أمره يؤدي خدمته الالزامية في ذلك المخفر!
إنها ثقافة “لا تقل لهما أف”، ثقافة الاحترام المزيف والمبني على الخوف،
ثقافة ساهمت في خلق إنسان خنوع،
يؤمن بأن حقوقه مجرد صدقات يتفضل عليه بها من كان أعلى منه في السلم الهرمي،
تلك الثقافة التي تتعارض تماما مع الثقافة التي عاشت بها انجيلا، والتي هي:
” ابنك مسؤولية وليس ملكية، وعليك أن تقوم بواجبك تجاهه، قبل أن تطالبه بحقك عليه”!
نعم، أنا وانجيلا – مازلنا وسنبقى – رفاق مقعد واحد في صف الحضانة،
وذلك عندما يتعلق الأمر بعفوية الحياة ودفقها الطبيعي.
أما عندما يتعلق الأمر باتخاذ قرار، فأسبقى في نظرها مثلها الأعلى ومرشدها الروحاني،
والمرساة التي تثبت دعائمها، وهذا هو التقدير والاحترام الحقيقي!
…..
في طفولتها كانت كثيرة الحركة دائمة السقوط،
وكلما طرحتها شيطنتها أرضا، كانت تركض باتجاهي وصراخها يصم أذني،
فأتناول يدها بهدوء وأقبلها وأنا أقول: راح الواوا…
فتعود الى الشيطنة وكأنّ شيئا لم يكن…
حتى تاريخ اليوم وكلما عادت الى بيتنا لتشكو همومها وترمي بعضا منها،
تمد لي يدها عندما افتح لها الباب، وهي تقول، بعربيتها المحببة الى قلبي: رووه الواوا…
فأقبلها ليتسربل وجهها وعلى الفور بارتياح، ينتقل بالعدوى الى وجهي!
ثم تعبث بشيطنتها المعهودة بخزانتي ورفوف المطبخ والثلاجة لتسرق مايحلو لها!
…….
عندما كانت تدرس مادة “علم النفس” كمقرر في السنوات الجامعية الأولى
قالت لي يوما
ماما الوزة، اقسم لك رحت استعرض شريط طفولتي بحثا عن ذكرى مؤلمة لأرى إن كانت قد تركت أثرا سلبيا على شخصيتي، فلم أعثر على واحدة!!
أخفيت دموعي وراء سماعة الهاتف، بينما راحت تجتاحني بعنف ذكرى شحاطة أمي ومكنستها، وكذلك عصا المدير محمد زغيبي وهي تنهال فوق رأسي!
هذه أنا التي أحسد نفسي على طفولة لم تكن سيئة على الإطلاق مقارنة بغيري،
فكيف بذلك الغير؟!!!
…..
من طرائفها عندما تتحدث العربية،
كان يزورنا يوما قريب من سوريا، وكانت يومها صغيرة
وجدت حذاءا له في البيت فجلبته له في محاولة لإكرامه، ثم قالت له بالعربي وهي تشير إلى الحذاء:
أموو…هادا انت!
وكانت تقصد “عمو هادا الك”، فصرخ بها: هادا ابوكي ولييي!
حالفها الحظ ولم تسجل تلك الحادثة كذكرى مؤلمة،
ربما – وعلى الأرجح- لأنها لم تفهم ماقاله،
حتى ولو فهمته لغويا – أبوك هو الحذاء – لن تفهمه ثقافيا، فالحذاء في الثقافة الامريكية لا يعني الاهانة والتقليل من الشأن، بل يعني شيئا مهما لا تمشي الحياة بدونه!
(اذا اردتم مستقبلا أفضل علموا اولادكم لغة اخرى، فلقد أفلست اللغة العربية فكريا واخلاقيا)
…………..
تلك هي انجيلا،
بينما شعوب بأكملها مازالت تؤمن بأن البنت تجلب “العار أو العدو عا باب الدار”!!!
لم تجلب انجيلا لنا يوما إلا الصديق الودود، وإحساسا بسعادة عامرة
وبفخر لاحدود له:
أننا منحنا الكون انسانة قوية وجديرة بالحياة!