القدس العربي اللندنية : فيصل القاسم
إما أن القوى الكبرى ساذجة، أو أنها تحاول إعطاء مزيد من الوقت للنظام السوري كي يستعيد زمام المبادرة، وينتصر على خصومه، حتى لو كلف ذلك تدمير سوريا بشكل ممنهج وتهجير أغلب سكانها! لنفترض حسن النية لدى القوى الإقليمية والعربية والدولية، التي تحاول التوصل إلى مصالحة وطنية في سوريا، وأنها جادة فعلاً في الحفاظ على ما تبقى من البلاد والحيلولة دون تحولها إلى صومال أخرى في منطقة شديدة الحساسية. لا غبار على هذا المسعى، لكن المشكلة الكبرى تكمن في طبيعة النظام الموجود في دمشق، والذي لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن يقبل بمصالحة تاريخية مع شعبه. فقد دعا نائب الرئيس السوري فاروق الشرع قبل أكثر من سنة إلى تصالح تاريخي في سوريا بإشراف دولي، لكن النتيجة أن بشار الأسد أسمعه كلاماً قاسياً جداً، وركنه جانباً، مما حدا بالشرع إلى الاعتكاف والانسحاب من المشهد تماماً. لقد سعى بعض أركان النظام من غير المتنفذين إلى تجنيب سوريا ما وصلت إليه منذ الأشهر الأولى، لكن مصيرهم كان أيضاً الشتم والتقريع الشديد من قبل الأسد. وينقل فراس طلاس، ابن وزير الدفاع السوري الاسبق مصطفى طلاس، الذي كان من أقرب المقربين لحافظ الأسد، أن بشار استخدم عبارات جارحة جداً بحق كل من حاول تقديم النصح له. ومن تلك العبارات، التي سمعها الداعون إلى مصالحه وطنية عبارة: ‘الكلاب بتنضب في بيوتها، وأنا أقرر الاصلاح اللازم’!
وهذا ليس مستبعداً أبداً، خاصة وأن الأسد أوضح في خطابه الأول، أي بعد اسابيع قليلة على اندلاع الثورة، بأنه ليس مستعداً لأي مصالحة، أو تنازلات، بدليل أنه تحدى خصومه بالنزول إلى الشارع للمبارزة. وقد نفذ تهديده بسرعة البرق، حيث تدفقت الدبابات على محافظة درعا بعد الخطاب مباشرة. باختصار، لقد أرادها النظام منذ البداية حرباً طاحنة مع الشعب والمعارضة. ومن قطع كل هذا الشوط الطويل في المبارزة، لا يمكن أن يتراجع في اللحظات الأخيرة، ويقبل بالمصالحة الوطنية، التي اقترحها عليه عقلاء النظام في بداية الأزمة، خاصة وأنه تورط هو وحلفاؤه الإقليميون في جرائم لم يشهد التاريخ لها مثيلاً. لا يمكن لرئيس فعل كل ما فعل أن يفكر بالمصالحة. وبالتالي، فإن دخوله في مفاوضات مع معارضيه عن طريق مؤتمر جنيف الثاني ليس سوى ضحك على الذقون ومحاولة مفضوحة لكسب الوقت كي لا يظهر في عيون العالم على أنه نظام دموي لا يقبل بالسلام في سوريا.
النظام السوري تحكمه عقلية جنرالاتية تستجيب لأبسط الضغوط من الخارج، لكنها ترفض التنازل قيد أنملة لشعبها. وهي تعتمد دائماً على المماطلة والمراوغة وكسب الوقت، ثم تنقض عهودها، وتنقض على خصومها. وفي هذا السياق تذكر مجلة ‘الإيكونوميست’ البريطانية الرصينة حادثة ذات دلالة مهمة جداً، ولا بد من الانتباه إليها من قبل المعارضين، الذين قبلوا بالتفاوض مع النظام. تقول المجلة ‘في الثمانينات انتفضت النقابات في سوريا بمختلف أنواعها، وسببت صداعاً كبيراً لحافظ الأسد، وخشي كثيراً من حراكها الساخن، الذي بدأ يهدد نظام حكمه، فلم يلجأ الأسد إلى إخمادها، بل راح يفاوضها. وفعلاً صدّقه قادة النقابات، ودخلوا معه في مفاوضات، ووعدهم فيها بتحقيق كل مطالبهم بشرط أن يوقفوا حراكهم. وقد نجح حافظ الأسد بحنكته أن ينزع فتيل النقابات. لكن ما أن توقف الحراك، حتى قام حافظ الأسد بتأميم العمل النقابي في سوريا بشكل كامل، وقضى على الحركة النقابية عن بكرة أبيها، لا بل انتزع منها كل ما كانت تتمتع به من استقلالية، وأنشأ لها مكتباً خاصاً في القيادة القطرية مسؤولاً عن النقابات، بحيث أصبحت النقابات تابعة تماماً لحزب البعث، وفقدت كل استقلاليتها. ولم يتوقف الأمر هنا، بل شنت المخابرات السورية حملة اعتقالات عارمة، طالت كل قادة النقابات والنشطاء النقابيين في سوريا، وأودعتهم السجون. وبعد ذلك، تنازلت النقابات عن كل مطالبها مقابل الإفراج عن المعتقلين لا أكثر ولا أقل، لكن حافظ الأسد رفض إطلاق سراح أي معتقل، رغم الوساطات التي قام بها كبار المسؤولين العرب. وقد قضّى قادة النقابات عشرات السنين في سجون الأسد، وأصبحت النقابات مجرد ذراع هزيل لحزب البعث، إن لم نقل فرعاً لفروع المخابرات السورية. ولو عدنا إلى بداية الثمانينات لوجدنا أن أحد أحزاب المعارضة الممنوعة في ذلك الوقت، ‘التجمع الوطني الديمقراطي’، قد تقدم بمجموعة مطالب تكاد تكون صورة طبق الأصل عن المطالب التي رفعها ممثلو الشعب السوري إلى النظام في مؤتمر جنيف اثنين قبل أيام.
وجاء في الوثيقة، التي تعود الى 34 عاماً المطالب التالية: ‘رفع الحصار عن المدن، وسحب الجيش والقوات الخاصة، وسرايا الدفاع الى ثكناتها الخاصة، وسحب الدبابات من المدن، ووضعها بمواجهة العدو الاسرائيلي. إلغاء حالة الطوارئ التي فقدت مبرراتها، وإلغاء كل ما نشأ على أساسها، وخصوصاً محكمة أمن الدولة، واطلاق الحريات الديمقراطية للأحزاب والهيئات الاجتماعية، والافراد، وإطلاق حرية تأسيس الاحزاب، وإصدار الصحف وضمان حرية الحركة للمواطنين. إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين بلا استثناء، ومن مختلف العقائد والآراء السياسية، أو تقديمهم الى محاكم علنية عادلة قانونية تضمن لهم الحق المشروع في الدفاع عن النفس. إلغاء تسلّط أجهزة المخابرات على المواطنين وعلى الدولة، ووقف النمو السرطاني لهذه الاجهزة عن طريق تحجيمها، وإعادة النظر جذرياً في تكوينها، وقصر صلاحياتها على الأمن الخارجي، وحصر الامن الداخلي بوزارة الداخلية وفقاً للقانون الديمقراطي. إقامة حكومة وحدة وطنية تحل مجلس الشعب القائم، وتدعو لانتخاب حرّ لجمعية تأسيسية تصوغ دستوراً جديداً للبلاد يقوم على مبادئ الحرية والديمقراطية والمساواة بين المواطنين’.(انتهت المطالب التي تقدم به التجمع الوطني الديمقراطي عام 1980). لاحظوا أن النظام وعد بتنفيذ المطالب أعلاه قبل 34 عاماً، لكنه لم ينفذ أي مطلب منها، بل على العكس من ذلك، ازداد تغولاً وتسلطاً وبطشاً وفاشية! وبالتالي، من الخطأ الفادح المراهنة على أي تسويات سياسية مع النظام، حتى لو تغير الزمن، فقد أثبتت الأيام، أنه وبالرغم من كل ما حل بسوريا من خراب ودمار على مدى السنوات الثلاث الماضية، إلا أن النظام لم يتعلم شيئاً، ولم يقدم أي شيء يهدئ من مخاوف السوريين، أو يطمئنهم، فقد توحشت أجهزة الأمن والجيش، وضربت عرض الحائط بأبسط حقوق السوريين، وأصبح قتل الإنسان السوري والاعتداء على ممتلكاته، وتعذيبه حتى الموت مثل شرب الماء بالنسبة لأجهزة الأمن السورية، وهي أس البلاء في البلاد، وكأن النظام يقول للشعب: ‘مهما حدث، فلن نتغير، لا بل انتظروا ما هو أسوأ وأفظع بعشرات المرات، عندما تستتب لنا الأمور مرة أخرى’. ولو تأملت خطاب المؤيدين للنظام لرأيت أنه ليس في وارد أي مصالحة وطنية حقيقية، بدليل أن الأحياء التي تصالحت معه في ريف دمشق يطلق على سكانها وصف ‘المغرر بهم’، وكأنه يعدهم بعقاب شديد لاحقاً. ويذكر أحد الصحافيين السوريين، الذي كان يعمل في إحدى وسائل الإعلام العالمية أن النظام ضغط عليه كي يترك عمله في الأسبوع الأول من الثورة، فترك الرجل عمله، وجلس في بيته طوال السنوات الثلاث الماضية، لكن قبل أسابيع استدعاه أحد فروع المخابرات للتحقيق، فسألهم: ‘لماذا تحققون معي، مع العلم أنني تركت عملي في الأسبوع الأول للثورة نزولاً عند رغبتكم’، فقالوا له: ‘نريد أن نحقق معك حول عملك السابق قبل الثورة’. ويحدثونك عن الاصلاح والمصالحة الوطنية! ويلٌ للساذجين!