ان ترتيلة الروح عبارة عن نظام غنطوسي ، يرقى بتاريخه الى القرن الثالث للميلاد ، وهذه الترتيلة تأملية تأويلية ومكتوبة بالاغريقية والسريانية ، على انه من الواضح ان السريانية هي الاصل ، ومن الممكن ان كاتبها هو ابن ديصان (200 م ) الذي كان غنطوسيا تمتع بشهرة كبيرة ، وهو مؤسس ادب اللغة السريانية .
تروي الترتيلة عقيدة الخلاص الغنطوسية ــ التي هي عقيدتها المركزية ــ على شكل حكاية ، فالامير هو المخلّص الذي جاء الى العالم ليوقظ اجزاء النور النائمة ، واللؤلؤة هي الرمز الغنطوسي للضوء المكبّل ، فهي كنز مشع محاطا بها ما يشبه الكهف من الصدف الحيواني ، المخبأ في الاعمال المظلمة ، لكن يلاحظ مع ازدواجية الرموز التي هي سمة للميثولوجيا الغنطوسية تقمص الامير بالحال شكل ووضع شخصية ,, الروح ,, المكبّلة ، لكن مالبث ان جعله عالم المادة الشرير ( رمز له هنا بمصر لأنها بلاد عقيدة الموت والموتى ) ينسى هويته الحقيقية ، ويغرق في سبات عميق من الجهل .
هذا وان شخصية ,, الُمخلّص ,, ــ اي المخلّص نفسه بحاجة الى فداء ــ هي شخصية عادية في الميثولوجيا الغنطوسية ، عندما تكون الشخصيات المقدسة متورطة في العالم الادنى ، وقد تكررت هذه الازدواجية في الهويات في رموز اخرى . فثوب ,,المخلّص ,, السماوي يمثل نفسه السرمدية ، وهو نوع من المضاعفة ، او ان ذاته قد حفظت في الممالك العليا بينما كان هو نفسه في الاسفل ، وهذه الذات كاملة باعمالها الصالحة ، وعند نهاية المهمة تتحد ثانية به . اما الاخ التوأم ، او التالي في المرتبة فهو ايضا شكل من اشكال الذات السرمدية .
هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ترمز ثياب المصريين الى سجن الروح الارضي المظلم ، وحين وضع الامير على نفسه الثياب المصرية ، ألبسها بالمادة الشريرة ، وشبيه هذا اننا نجد ان في الميثولوجيا الغنطوسية المخلّص يتولى حمل ذنوب العالم بشكل طبيعي بحت ، ويقوم بدمج هذه الذنوب وادخالها الى جسده ، وبذلك يكون قادرا على انهاك قواها الشريرة ، لانه عند الموت يدع جسده خلفه ، ويتولى جسده السماوي . وهكذا نجد الامير في ترتيلتنا يقذف ثيابه المصرية بعيدا ، ويرتدي ثوبه السماوي المتلألىء ، ويقطن بشكل ابدي في مملكة ابائه .
ترتيلة الروح ( اللؤلؤة) :
عندما كنت طفلاً صغيراً … أعيش في مملكتي ، في دار أبي … كنت سعيداً في الثروة والمنزلة … وبين اولئك الذين ربوني … من ديارنا في الشرق … بعث بي والدي … الكنوز في مخزننا … جمعوها لي في صرّة (هنا ترمز الصرّة الى التعليمات الروحية ,, أوغنطس ,, التي يوصلها المخلّص الى المؤمنين ) … كبيرة لكنها خفيفة … بحيث أتمكن من حملها بيدي … ذهب ,, بيب ــ إليا,, ( كانت إليا مرسى قديما في الشمال الغربي لآسيا الصغرى ، وكانت في احدى المرات مرفأً لمدينة بيرغاسيوم القديمة ) … وفضة ,, كازاك ,, العظيم ( أوغازاكا ، قصر الفرثيين في ميديا ــ بلاد الجبل ــ العليا ) … وياقوت الهند … وعقيق بيت كاشان ( ارض كاشان ــ افغانستان حاليا ) … وربطت احجار الماس بحزامي … التي تستطيع سحق الحديد … ونزعوا الثوب المتلألىْ عني … الذين كانوا قد صنعوه بدافع حبهم لي … وعبائتي الارجوانية …
التي كانت قد قيست وحيكت لقامتي … وعقدوا ميثاقاً معي … وخشية ان انسى … كتبوه على قلبي :
اذا ما انحدرت نحو مصر … وجلبت اللؤلؤة الوحيدة … الموجودة في وسط البحر( غالبا ما يستخدم البحر في الغنطوسية كرمز لعالم المادة او الظلام ) … يحرسها التنين الشاخر( التنين هو حاكم النظم الشريرة ، وسلفه الميثولوجي هو تيامات الذي ذبحه مردوك الاله البابلي ) .
عندئذ سترتدي ثوبك المتلألىء من جديد … والعباءة التي تبتهج بها … وستكون مع اخيك الذي يليك في المرتبة … وريثاً لمملكتنا .
تركت الشرق وانحدرت … وكان معي رفيقان … لان الطريق خطرة ، ومن الصعب ايجادها … وكنت صغيرا حتى أتمكن من اخذها .
عبرت حدود ميشان ( ميشان المملكة ، “العمارة ” المحافظة التي تقع في جنوب العراق ) … مكان اجتماع تجار المشرق .
وصلت الى بلاد بابل … دخلت اسوار ساربوخ ( وهو المتاهة ، عبارة عن بناء مليء بالممرات المضلة ، والعالم القديم عرف اربع متاهات كبيرة ، واحدة منها كانت في مصر قرب القاهرة اليوم ، مزينة بالاعمدة الكثيفة والتماثيل العملاقة والنصب المنقوشة وجميع صنوف الفن المصري ) .
وانحدرت الى مصر … وتركني رفيقاي … وذهبت الى مكان التنين … وسكنت بجوار حجره … منتظراً حتى يكون قد نام … كيما استطيع أخذ اللؤلؤة منه .
كنت وحيداً تماماً … وغريباً عن اولئك الذين عشت معهم … ثم رجلا من جنسي ، رجلاً حراً … رجلاً من الشرق ، كان ما رأيت ( من المحتمل ان يكون هذا نمطاً ثانياً من انماط أزدواجية الرموز ) .
شاب جميل وقوي … إبناً للزعماء … أتى إليّ وصار صديقي … وجعلته شريكاً في مطلبي .
وحذرته من المصريين … ومن معاشرة القذرين … لكني ارتديت ثوبا مثل اثوابهم … خشية ان يحتقروني كغريب .
وخشية ، انني عندما اذهب لاخذ اللؤلؤة … يوقضوا التنين ضدي … لكن بهذه الوسيلة او تلك … رأوا انني لم اكن من سكان ريفهم … وعاملوني بخداع … وأعطوني طعامهم لآكل منه .
ثم نسيت انني كنت إبناً للملوك … وخدمت ملكهم … نسيت اللؤلؤة … التي كان أبواي قد أرسلاني من اجلها .
فقد ثقل عبء طعامهم عليّ … وسقطت في نوم عميق … لكن كل ماحدث لي … علم به والداي ، وكانا حزينين كثيراً .
وتم الاعلان في مملكتنا :
إن على الجميع الاسراع الى بابنا … ملوك وامراء الفرثيين … وجميع نبلاء الشرق … وضعوا خطة لانقاذي … حتى لا أترك مصر.
كتبوا رسالة إليّ ( تعد الرسالة ، او الدعوة ، التي ايقظت الروح النائمة من جهلها ، بمثابة رمز من رموز الغنطوسية المعتمدة ) … ووضع كل نبيل اسمه عليها :
من ابيك ملك الملوك
ومن امك سيدة الشرق
ومن اخيك الذي يليك في المرتبة
انهض من نومك وأصغ
الى كلمات رسالتنا
تذكر انك إبن ملوك
وانظر الى أية عبودية انت تخضع
تذكر اللؤلؤة
التي اسرعت الى مصر من اجلها
فكر بالثوب المتلالىء
وتذكر عبائتك الرائعة
التي سترتديها من جديد بمثابة لباسك المبهرج
عندما في لائحة الشجعان
يتلى اسمك
مع اخيك الذي يليك في المرتبة
ستكون وريثا في مملكتنا
رسالتي! رسالة من الملك … مختومة بيده اليمنى … حتى تكون آمنة من الاشرار… اولاد بابل وشياطين ساربوخ القساة .
طارت على شكل نسر … ملك جميع الطيور … طارت وهبطت الى جانبي …واصبحت كلها كلاماً .
وفجأة أستيقظت ونهضت من سباتي … لدى سماعي صوتها وصوت خشخشتها … تنبهت واستيقضت من نومي … أخذتها وقبّلتها … وفككت الختم عنها وقرأت .
وتبعاُ لما انطبع على قلبي … كانت كلمات الرسالة المكتوبة … تذكرت انني ابن الملوك … افتقدت منزلتي الحرة … وتذكرت اللؤلؤة … التي تم ارسالي الى مصرمن أجلها ,,, ووضعت تعويذة على الشخص المخيف ( التعويذة مؤثرة ، لان الضوء مسمم للظلام كما الظلام مسمم للضوء ) .
التنين الشاخر … وهدأته لينام ، ولاطفته ليذهب في سبات عميق … وعزمت عليه باسم والدي … وباسم الذي يلينا في المرتبة … وأمي، ملكة الشرق … واختطفت اللؤلؤة …وانعطفت لأعود الى منزل والدي .
ثوبهم القذر وغير النظيف … خلعته وخلفته في ديارهم … واخذت طريقي عائداً مباشرة … الى نور ديارنا في الشرق .
ورسالتي ، موقظتي … وجدتها امامي في الطريق … فكما ايقظتني بصوتها … قادتني بنورها … قاطنة في الحرير … أضاءت بشكلها امامي … بصوتها وقيادتها … جعلتني أسرع في طريقي … بحبها جذبتني .
تقدمت وعبرت ساربورخ … وودعت بابل على يساري … ووصلت ميشان العظيمة … ميناء التجّار … الذي يقوم على شاطيء البحر .
ثوبي اللامع الذي كنت قد خلعته … والعباءة الملفوفة به …أرسلهما لي والدي من الرمثة ــ ركن ( ربما في مرتفعات هيركانيا، وهي مقاطعة الامبراطورية الفارسية وقعت في جنوب شرقي بحر الخزر )… على أيدي خازنَيْن … يثقون باخلاصهما … لقد نسيت كيف كان شكلهما … لانني كنت طفلا عندما تركتهما … في منزل والدي .
وتقدمت الان نحوهما … بدا الثوب لي … مثل مرآة لنفسي … رأيت فيه كله نفسي بأسرها … عدت الى نفسي بعودتي اليه .
كنا أثنين في التمييز … وواحد في الشبه … والخازنان اللذان جلباه ايضا … بطريقة مماثلة رأيت … انهما كانا اثنين ، كأنهما واحد في الشبه ( من المحتمل ان فكرة الشبح في الغنطوسية صادرة عن عقيدة ايرانية موجودة في الأفستا ,, البستاه ,, تفيد انه بعد وفاة المؤمن تظهر مشاعره لنفسه ) .
حيث كانت هناك علامة ملكية منقوشة عليهما … كتلك التي كانت على أيدي الشخص الذي كان قد أعاده اليّ … هنا كان كنزي وثروتي … ثوبي اللامع المطرّز … المتلأليء بالالوان العديدة … المحاك بالذهب والزُبدْجَدْ ، والياقوت والزمرّد … وجزوع العقيق من كل لون …وثبتت درازته … وصنع ببراعة في البيت العالي … بأحجار من الألماس … بدت جميعها ملصوقة .
وصورة ملك الملوك … طرزت عليها جميعه … ومثل حجر اللازورد … كانت الوانها المتعددة …ثم رأيت من جديد فوقها جميعا … حركات المعرفة تهتز … ورأيتها تستعد … كما لو أنها تريد ان تتكلم معي .
سمعت نبرة صوتها عندما تكلمت الى أولئك الذين أنزلوها :
,, أنا النشيطة في الأعمال
” التي ربّوها له قبل والدي ” ( غير مفهوم في كل من الأغريقية والسريانية ) .
وأدركت في نفسي أن طبيعتي
نمت تماشياً مع أعماله ,, .
وبحركاتها الملكية … صبت ذاتها عليّ … وعلى أيدي المعطيين … أسرعت عليّ أتمكن من من أخذها .
وحرضني الحُب على المثابرة … وأنه يجب عليّ أن اركض لاقابلها واستلمها … مددت يدي وأخذتها … بألوانها الجميلة كسيت نفسي … عباءتي ذات الألوان البرّاقة … ألقيتها حول نفسي بكامل اتساعها … وارتديتها ومضيت … الى باب الترحاب والطاعة … الى جلالة* والدي الذي أرسلها اليّ ( عبارة الأصل هي ” زيوا ” شعار الملك ) … لأنني نفذت أمره … وهو ايضا نفذ ماكان قد وعد به .
أختلطت مع نبلائه … ذلك انه أبتهج بي ورحب بقدومي … وعدت اليه في مملكته … لأنه بصوت المديح … بمجده جميع خدمه … والأن تعهدوا بانهم الى باب … ملك الملوك ينبغي إحضاري .
جالبا هديتي ولؤلؤتي
يتوجب عليّ المثول أمام الملك .
ان ترتيلة الروح ، او اغنية اللؤلؤة المكتوبة كلماتها باللغتين السريانية والاغريقية ، تعكس خلفية ثابتة للبنية الثقافية والاجتماعية والجغرافية للامبراطورية الفرثية ، فهي مليئة بالكلمات والعبارات المستعارة من اللغة الفارسية . ولولا اعادة ترجمة بعض التعابير والتلميحات المستعارة الى اللغة الفارسية الوسيطة لما امكن فهم العديد من تفاصيلها بشق الأنفس .
ويمكن القول ان هذا التقدم الادبي الآرامي الذي بات اكثر نشاطا وحيوية منذ ما يدعى ( الآرامية الامبراطورية ) في ايام الأخمينيين كان مسؤولا عن تطور لغة ادبية سربانية منسقة ، حسبما اشتقت من اللهجة المتداولة لفظا والمكتوبة في الرها ، والمهم ان نبين هنا ان هذه الوثيقة لاتظهر اية انحرافات او خروج ملحوظ عما اصطلح على تسميته بالرهاوي .
واخيرا ، قال ف ـ س ـ بوركت ، وهو اعظم الخبراء بالادب السرياني : ان سمة هذا الادب الاساسية هي بعض المرونة والتوسط ، ومع ذلك فهو يعترف ان هذه المخطوطة ( التي قدم لها ترجمة انكليزية رائعة ) ، هي شيء مستثنى …