تاريخ كلمة “لي لي ليش” وحقيقة معبد “لالش” الأيزيدي

georgekadrجورج كدر – كاتب وباحث وإعلامي من سوريا: التراصوت

في المستوى الثاني الذي سنخوضه عن “هناهين الأعراس وزغاريدها” سننتقل إلى مستويات أعمق وأكثر وعورة وصعوبة، لأن كلمة “أويها” أو “ويها” التي تبدأ بها النسوة هناهينهن أو هلاهيلهن، والتي تفيد معنى “الغواية والاغراء”، كما ذكرنا سابقًا، تُختتم بإطلاق زغرودة “لي لي ليش”، والبحث في الـ”لي لي ليش” هذه مضن لعدة أسباب، أهمها أنّي لم أجد لها ذكر فيما اطلعت عليه من مراجع وقواميس اللغات القديم، والثانية أن الباحثين الذين اشتغلوا على زغاريد الأعراس في بلاد الشام وصدرت أعمال بعضهم عن “الهيئة العامة السورية للكتاب”، لم يولوا الكلمة أهمية إلا بالقول إنها صوت تختتم بها هناهين الأعراس.

لا يخفى على أحد غرابة صوت “لي لي ليش” الذي تطلقه النساء في نهاية الزغاريد، والكل يتذكر أن أول شعور انتباه لدى سماعه هو الضحك

إذن، أمامنا عملية مضنية من الحفريات اللغوية لهذه الكلمة، سنعتمد خلالها على دلالتين، الأولى دلالة الاسم “لي لي ليش”، والأخرى دلالة المناسبة “الفرح”، وهو الأعم، وبدرجة أقل الحزن أو الموت.

لا يخفى على أحد غرابة صوت “لي لي ليش” الذي تطلقه النساء في نهاية الزغاريد، والكل يتذكر أن أول شعور انتباه لدى سماعه هو الضحك عليه، ولكن إذا فككنا الاسم نجد أن له -بدلالته اللفظية- علاقة عضوية مع “ليل”، وكلمة ليل في اللغات القديمة هي الليل والمساء، في الأكادية ليلياتو، ليلاتو
lîliātu(m), lîlâtu(m)،
وبالسريانية “ليليا”، وبالحبشية “ليليت”، ولكنها في السومرية تعني الريح والهواء، ومنها أتى اسم الإله السومري الشهير “آنليل”، “آن” السيد، “ليل” وتعني الهواء، وهو “سيد الهواء”.

نجد أن لكلمة الليل في اللغة الحبشية “ليليت” شبه يصل حد التطابق مع اسم إحدى أقدم إلهات الشرق ليليث
(Lilith)،
وإذا فككنا اسم هذه الالهة القديم، ستصابون مثلي بالدهشة، “لي لي ث” أو “لي لي ليش”، نعم هي ذاتها صحية الأفراح واستقبال المطر، ونجدها في صيحات الحروب والموت هي صيحة تجمع تناقضات الموت والحياة بطريقة غريبة ومدهشة. وكأني بأحدكم يقول لي الآن: وهل تقصد أن أصل كلمة “لي لي ليش” هو اسم الآلهة القديمة ليليث؟

فأقول له نعم هذا ما أقصده، ولا أخفيكم أني وخلال قراءتي للتاريخ الديني في العراق القديم لفتني اسم جبل “لالش” الذي يقع غرب مدينة الموصل شمال العراق، ويحتضن أحد أقدم المعابد الدينية التي يحج لها أتباع الديانة الأيزيدية، قلت في سري غريب هذا التطابق بين “لال ـ ش” و “ليليلش”، خاصة أن حرف الياء في اللغات القديمة يمكن أن يكتب ولا يلفظ، أو العكس، مثل كلمة إيل كبير آلهة العالم القديم تلفظ أيضًا “إل”.

“معبد لالش” الذي يقال إن معناها باللغة الكردية “مكان الهدوء والسكينة”، ليس إلا معبد ليليث الإلهة اللغز

وقلت إن “معبد لالش” الذي يقال إن معناها باللغة الكردية “مكان الهدوء والسكينة”، ليس إلا معبد ليليث الإلهة اللغز التي حيرت العلماء وألهبت خيال الأدباء والفنانين، بقي هذا المعبد خالدًا لآلاف السنين وحرفت الألسن اسمه، وأعتقد أن إعادة قراءة أسطورة ليليث، التي سنتحدث عنها الآن مقاطعين إياها مع معتقدات الأيزيدية، ستفتح لنا بابًا جديدًا في معرفة أسرار هذه الديانة القديمة الباطنية التي قد لا يعرفها حتى القائمون عليها.

تقول بريجيت كوشو في بحثها القيم “أسطورة ليليث” (المنشور في مجلة الآداب العالمية ـ دمشق ـ العدد 129 شتاء 2007) إن: لاسم “ليليث” جذور في فصيلة اللغات السامية والهندو أوروبية.. وفي السومرية يعني الريح الحار “حمى النفاس” الذي يعطي -حسب المعتقد الشعبي- الحرارة للنساء أثناء الولادة، ويقتلهن مع أطفالهن.

عُدّت “ليليث” في البداية باعتبارها من أكبر القوى المعادية للطبيعة تتصدر مجموعة مكوّنة من ثلاثة آلهة: أحدهم ذكر والاثنتان أنثيان: “ليلو
Lilû”،
و”الليليتو
La Lilitû”،
و”أردات ليلي
L’Ardat Lili،
واعتبرت هذه الأخيرة (أردات ليلي) زوجة سارق النور أو السارق الأنثوي للنور، وهنا أود أن أنبه إلى أن أساطير الأيزيدية تتمحور على إله النور والضياء، وأيضًا يوجد تشابه بين كلمة “ليليث” والكلمتين السومريتين التاليتين: ليلتي “الشهوة”، ووليلو” الفسق”.

تستخدم ليليث إغراءها (المرأة الجميلة ذات الشعر الطويل) وشهوانيتها (الأكثر حيوانية) في نهايات تدميرية (وهو ما جسده الفنانون والأدباء في عصر النهضة والعصر الحديث بطريقة رائعة). وباكتشاف النقوش في الآثار البابلية في مكتبة “آشور بانيبال” وضّحت أصول “ليليث”، البغي المقدسة لإنانا، والآلهة الأم الكبرى، التي أرسلت من قبل هذه الأخيرة كي تغوي الرجال في الطريق، وتقودهم إلى معبد الإلهة، حيث كانت تقام هناك الاحتفالات المقدسة للخصوبة.

بداية الهنهونة “ويها” تفيد معنى الغواية، وخاتمتها “لي لي ليش” تفيد الطلب من ليليث أن تهب العروسين الخصوبة

أنبه هنا إلى أن الصورة تتضح عندما نعلم أن بداية الهنهونة “ويها” تفيد معنى الغواية، وخاتمتها “لي لي ليش” تفيد الطلب من ليليث أن تهب العروسين الخصوبة وهي تقودهم إلى فراش الزواج، وقد كان الاضطراب واقعًا بين “ليليث” المسماة “يد إنانا”، والإلهة التي تمثلها، والتي كانت هي نفسها توسم أحيانًا بهذا اللقب “البغي المقدسة”.

تنتمي أسطورة “ليليث” إلى أصول تاريخية قديمة جدًا، فهي تتصل ببابل القديمة -وأنبه إلى أن الأيزيديين يقولون إن ديانتهم مستمدة منها- حيث كان الساميون القدماء يتبنون مجموعة من المعتقدات الخاصة بأجدادهم السومريين، كما ترتبط بأكبر أساطير الخلق. هناك روابط متينة تلصقها بالثعبان، إنها بقايا ذكريات طقس قديم جدًا كرّم أكبر إلهة سميت كذلك بـ”الثعبان الأكبر” و”التنين”، القوة الكونية للخلود الأنثوي، والتي عُبدت من خلال هذه الأسماء: “عشتروت
Astarté،
أو عشتار Istar ou Ishtar،
ميليتا Mylitta،
إنيني أو إينانا Innini ou Innana).

نجد لـ “ليليث” ذكرًا سريعًا في أسطورة جلجامش السومرية (راجع ألواح سومر، كريمر/باقر ص 325) التي جاء فيها: إن إنانا زرعت شجرتها المقدسة “الخلبو، ولعلها شجرة الصفاف” ورعتها على ضفاف الفرات، فإذا بريح جنوبية تهب بقوة، فيفيض النهر ويقتلع شجرتها، فأخذت إنانا الشجرة بيدها، وأتت بها إلى أوروك وغرستها في حديقتها المقدسة.. لكن عذراء الأرض المقفرة “ليليث” الإلهة التي تهيم في البراري ليلا نخرت وسطها وسكنت فيه، وأن الحية استقرت في قاعدتها، فبكت ابنة السماء بكاء مرًا، وهي العذراء المرحة.. فأتى جلجامش ليحرر شجرة إنانا وتمكن من ذلك فـ”هدمت ليليث بيتها وسط الشجرة، وفرت إلى الأماكن الخربة المهجورة”.

انتقلت ليليث إلى الأدب الديني العبري بعد السبي الأول لليهود (قبيل الميلاد بخمسة قرون) وظهرت ليليث الشيطانة الليلية التي تعرف عليها اليهود في السبي البابلي، وعادوا من بابل بليليث المخيفة التي تدب الخوف والرعب في قلوب الصغار، ونجد لها ذكر في كتابهم المقدس “التوراة” نقرأ في سفر أشعيا 34/14 سفر رؤيا نهاية أدوم التي تتحول بفعل غضب يهوه، إلى كتلة نارية من الزفت والكبريت وتصبح أرضا مقفرة لا حياة فيه، وهناك تستقر “ليليث” مع وحوش البرية والضباع، (للأسف الترجمة العربية للتوارة والتي تحوي الكثير من الأخطاء تقول “هناك يستقر الليل” في حين أن الأصح “هناك تستقر ليليث”).

التضرعات التي وضعت لليليث كانت درءًا لشرها وقوتها، تمامًا كما نجد اليوم لدى بعض الأقوام التي تعبد “الشيطان” درءًا لشروره

لن نخوض كثير في ذكر ليليث المرعبة في توراة اليهود لأن ما يهمنا من بحثنا كيف أصبح التلفظ باسم “ليليث/ لي ليش” في زغاريد الأعراس، بمثابة تعويذة سحرية لدرء غضبها وطلب رضاها تجنبًا لأذاها فهي البغي المقدسة المسؤولة عن الخصوبة، وهي بذات الوقت شيطانة نفسها لأنها هي الإلهة التي تحدد مصير الطفل وأمه بعد الولادة، إنها بصفتها الربوبية المغرقة في القدم ربة الموت والحياة.

ما سيقودني إلى تأكيد فرضيتي تلك هو أن بريجيت كوشر التي بحثت بعمق في أسطورة ليليث وأدبياتها في التراث اليهودي تصل في بحثها إلى نتيجة مفادها أن: النصوص اليهودية الأولى المعروفة التي حاولت إعادة الاعتبار لليليث، هي نصوص وُضعت أساسًا ضد شيطانية ليليث، وأعطت التضرعات والطرائق.. من أجل إبعادها عن الأطفال والنساء الحوامل.

إذا حتى التضرعات التي وضعت لليليث كانت درءًا لشرها وقوتها التدميرية، تمامًا كما نجد اليوم لدى بعض الأقوام التي تعبد “الشيطان” درءًا لشروره كما يقولون، وعليه فإن “لي لي ليش” الأعراس ما هي تعويذة سحرية تطلق في الأعراس لحماية العرسين من شر ليليث من ناحية، ومن أخرى تدعوها لكونها “يد إنانا” و”بغيها المقدس” لتقود العروسين إلى فراش الزواج لتمنحهما بركاتها، بعد أن أرضتها النسوة في العروس بذكر اسمها المتكرر “لي لي ليش” أو “ليليث”.

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.