بين الخلق والركود

إن لم تلجأ إلى ما وراء الطبيعة لن تكتشف عالما آخر
اللجوء إلى الله يجسد مدى الأزمة الروحية
كيف نقترب من الفهم الإنساني ؟

عصمت شاهين دوسكي
الجزء التاسع

الأزمة الإنسانية تمر بمراحل عدة إلى أن تصل إلى ذروتها ، وإن لم تعالج وتجد لها حلا تتفاقم أكثر وتحتل مكانة تؤثر في الروح والذات التي هي أصلا تحتاج إلى مؤثر وفعل فالمشاعر الشديدة تميل إلى من يسمعها ينصت إليها وإن لم تجد ستنفر من المكان ومن العالم كله وتدخل في دجنة معتمة بلا قرار وتشعر إن لا حلول ولا خلاص على الأرض ، وتستحيل الرغبة إلى قوة خفية في الأعماق ، وكان هذا الشعور الروحي الذاتي المؤلم يحتاج إلى تدخل المعجزات وخوارق العادات ، فما جدوى المناداة في قصيدة إبراهيم يلدا ” من موضع قدمي إلى العلى ” فالنداء يستفحل ليكون ألما في القلب المشروخ ” وأنا أنادي ” النداء بلا جواب كأنك تدق في الماء ” لا عين ولا أذن ترى وتسمع ” بعد نزيف الجراحات وكثرة الآلام وتورم الآثام وضياع نور الأمة والأحلام في ظل الظلام ، كأن هذا المنادي الصامت وعدم تلقيه الجواب فقير لقيط مجهول بلا أب ولا أم ، وكأنه ” يعيش في عظم بلا لحم ودم ” فالعظم دليل الركود واللحم والدم دليل الخلق والحركة والنشاط ، هذا الحرمان الكبير يولد ثورة داخلية فكرية حسية فوق تجليات أكون أو لا أكون ، تغدو كارثة إنسانية مدها الوحيد الروح لتجد منافذ أخرى فوق الطبيعة وتتخيل سلما سماويا محاولة للوصول إلى المتلقي في العلى ، فهذه الروح تميل إلى خالقها إلى من يحميها ويؤويها ويداوي ما فيها .
(( من موضع قدمي وحتى العلى وأنا أنادي
عسى ان يسمع ندائي المطبوع على قلبي
ومرثيتي يا الهي اكتبها وأكررها
لا عين ولا إذن ترى وتسمع
من روح من لا روح له ،
في كل يوم تولد روح في الإثم
من غير أب أو أم
تنمو وتعيش مع الآخرين وهي بلا اسم
وكأنها تعيش في عظم بلا لحم ودم )) .

الشاعر إبراهيم يلدا لا يكتفي أن يعري الروح التي تنفعل في المجتمع بل المكان الأمة التي تقوم بعملية الدمج بين الوجود واللا وجود وتستند على الخلق ” فهي تجوب بين الناس حافية عارية ” هذا التجرد والعري يجسد صور من صور الحرمان والفقر والحاجة إلى شيء ما ، فهناك ثلاثة أشياء مهمة يحتاجها الإنسان الزاد والمثوى والكساد فإن نقصد واحدا منها اضطربت الروح ونشط طوفانها وتمردها أو ركودها وخمولها وموتها ، فمن لا يجد بيتا كيف يشعر بالأمان والسلام ؟ ومن لم يشعر بالأمان والسلام كيف سيفرق بين النور والظلام ؟ سيحمل روح التمرد وتمارس صلاحيات بعيدة عن الروح إن لم تلجأ إلى العلى إلى ما وراء الطبيعة ، إلى ما وراء المعرفة الكونية ، إلى ما وراء الروح نفسها والإنسان ليكشف عالما آخر ، مخلصا آخر .
(( تجوب بين الناس حافية وعارية
لا بيت لها ، ولا من بيت يحويها
حتى عيناها قد سملت منذ ان فتحتها
كحيوان بلا عقل يتشبه بسيرته
إنسان هو لا صديق له … لا حلم .. أو أمل
في قوته يكمن ثور وفي فكره طفل
لا يفرق بين النور والظلام الذي في القبر )) .

اللجوء إلى الله يعكس مدى الأزمة الروحية ، وهذه المناداة يخصها الإنسان لله تعالى سرا بينه وبين نفسه وعلنا ليكتشف الأشياء ، وسؤال الله في طلب الحاجة ليس غريبا ناهيك عن حاجة الإنسان لربه في كل مكان وزمان ، لكن في وقت الأزمات يشتد إيمان الإنسان ليكون المنقذ الروحي الوحيد الله ، فالله قريب من العبد ما دام العبد يحسن الظن بالله ، فحياة الإنسان لا تسير وكيف تسير وهي ” بلا قلب أو مخ ” الشاعر يرى السعادة والخلاص في المناداة وتوضيح سقوط الأوراق من شجرة الإنسان ورقة تتبعها ورقة لتعري كل شيء ، وحينما يكون مجردا وهيكله وجذعه بلا روح بل أكثر قوة عندما ” يحترق كقطعة خشب ” هذه الصور الشعرية تمتاز بتجرد الإنسان وخسرانه الروح التي تسمو على الأرض المكان لا أن تهان وتذل وتنكسر وتتساقط أوراقها لضعف الإنسان الذي لا يختاره بل يفرضه الواقع والمكان والزمان ، هذه الدلالات الإيحائية منفتحة على الرغم من خصوصية المضمون والمناداة وهيمنة المناجاة الروحية .
(( سيدي : الحياة بلا ثمرة كيف لها ان تسير
وهي بلا قلب أو مخ
فهي تشبه تلك الرياح التي
تجمع حفنة من الأوراق الساقطة
من شجرة وحيث جذعها بلا روح
يحرق ويحترق كقطعة خشب )) .

مناجاة ومناداة الرب منذ بداية الخليقة تفاعلت على الأرض ومع الإنسان والشواهد كثيرة مع الأنبياء والرسل وإلى أن يشاء الله بصور مختلفة ما دام الإنسان على الأرض ، يجد نفسه ضعيفا لعدم قدرته على فعل أثر يبقى خالدا سيهون عليه كل شيء شيئا فشيئا حينها إن شملت تضيع البلاد والعباد فيتخذ من مناداة الله فضاء رحبا لإيحاء الروح وتجديد المطروح وترميم الشروخ وبعث الأمل في الحياة ليهب الأمة الخلاص فالرجاء ليس ضعفا فالله كريم والتوسل ليس ذنبا فالله رحيم ، أصبحت الرؤى الفضائية والتناقضات كثيرة لشعب يهتم بالآثار والتماثيل والأحجار ويفتخرون بوجودها والإنسان منهك متعب فقير وحائر في إيجاد لقمة العيش بين القمامة ، يكون بلا راع ، بلا صوت ، وآلامه بلا أنين وهمسه بين شك ويقين .
(( انه ملاك في العلى يطير ويهبط
يصيح في وجهي: يا غراب بلا راع
كل رأس أوجعتها فلا صوتك يصبو
ابك على نفسك كي لا تذبل آخر أوراقك
وبصوت أكثر جهوري يصرخ في وجهه
إن كان محبوك في كل جهة من يديك يفلتوا )) .

الشاعر إبراهيم يلدا بين أزمة المكان والوجود وأزمة إنسان وأمة تتمحور أساسا في طريقة التكوين والتوجيه والتحذير والتنبيه وتصوير إمكانيات خلق حياة جديدة ” لماذا لا تنفخ مثل سيدك ” يكشف طاقة جوهرية تتدخل فوق الطبيعة البشرية والوجودية فالنفخ ليس خلق روح بل تجديد روح وتفعيلها وتنشيطها لروح إنسان ” طريح تحت الأرجل ” في رمق أخير يتجلى الذبول والتوقف ومن خلالهما وآثارهما تتكون الوحدة لكن من يتمكن أن يعيش ويحيى وحيدا طول الحياة ؟ فالوحدة الإجبارية المؤلمة لا تحتاج إلى ورقة للحياة بل ورقة نعي وعزاء وإن وجدت أمة فهي لا ترثي أحدا لأنها تحتاج إلى من يرثيها .
(( لماذا لا تنفخ مثل سيدك
روحا في الإنسان الطريح تحت الأرجل
إن كانت آخر الأوراق من شجرة بلا جذع
قد ذبلت بلا توقف من قطيع بعد آخر
وان كانت حياتي تحيى لوحدها فلا تستحق
تلك الورقة الأخيرة
فليس من أم لا تسأل عن مرثيتي )) .

من الفضائل تكرار التاريخ نفسه لكن بصورة عصرية ليعي كل مخلوق ما دامت الأمة السياسية والاجتماعية والدينية لا تطمئن لنبيها وتطرده ” يطرد منها النبي ” فهل يعقل امة تعيش وتتطور وتتقدم وتبدع بدون نبي ، بدون نور العقل والوعي والحكمة ، يقول العلامة ” دستوفسكي ” : أشرق ذات يوم نور العقل على ذلك العدم ” ماذا يفيد الندم بعد طرد النبي ؟ ماذا يفيد لو أقاموا له رمزا تمثالا تذكارا ؟ .
(( أيها السيد
أغنيها في كل الأوقات
وان قال عني كل مخلوق انه يشبه المجنون
سأقول : في القرية التي يطرد منها النبي
ترى أهلها يندمون
ومن ثم يعودون ليقيموا له التذكار )) .

الشاعر إبراهيم يلدا بأسلوبه الفكري الفلسفي يحاول بطرق شتى خلق بنائية روحية تجديدية منفردة من خلال استحداث أطر تأويلية عصرية يسعى منها إلى تفعيل خلق طاقة حيوية نشطة وتحقيق رؤية تصور الشعر كرؤية بناءة تمس روح الإنسان وفكره وإحساسه وكيانه ومناداته والكون الذي يحيى فيه بكل موضوعاته وتناقضاته التي تتلون بألوان مشرقة تتناغم مع حالاته وبصيرته الفلسفية والرؤية التي ترتبط بالإنسان والمكان والكون ونواميسه بتجربة ووعي ناضج يعرف ماذا يرسل بدقة للآخر لأنه قريب من القارئ خاصة كلماته تنساب بشوق ولوعة وروح خلاقة تقترب من سر التوحد بالكون والإنسان عابر القواميس والاصطلاحات ليلبسها ثوبا جديدا آخر يقترب من الفهم الإنساني المحرك لكل المعطيات والرؤى الوجودية والمكانية الجديدة في العالم .
***************************************************************
الرؤيا الإبراهيمية بين الموت والميلاد – الجزء التاسع – طبع في أمريكا وفي مدينة
Des Plaines
دسبلين ،،، الينوي،،،، ,في مؤسسة
Press Teck .. بريس تيك . 2018 م

About عصمت شاهين دو سكي

- مواليد 3 / 2 / 1963 دهوك كردستان العراق - بدأ بكتابة الشعر في الثامنة عشر من العمر ، وفي نفس العام نشرت قصائده في الصحف والمجلات العراقية والعربية . - عمل في جريدة العراق ، في القسم الثقافي الكردي نشر خلال هذه الفترة قصائد باللغة الكردية في صحيفة هاو كارى ،وملحق جريدة العراق وغيرها . - أكمل دراسته الابتدائية والثانوية في مدينة الموصل - حاصل على شهادة المعهد التقني ، قسم المحاسبة - الموصل - شارك في مهرجانات شعرية عديدة في العراق - حصل على عدة شهادات تقديرية للتميز والإبداع من مؤسسات أدبية ومنها شهادة تقدير وإبداع من صحيفة الفكر للثقافة والإعلام ، وشهادة إبداع من مصر في المسابقة الدولية لمؤسسة القلم الحر التي اشترك فيها (5445) لفوزه بالمرتبة الثانية في شعر الفصحى ، وصحيفة جنة الإبداع ، ومن مهرجان اليوم العالمي للمرأة المقام في فلسطين " أيتها السمراء " وغيرها . - حصلت قصيدته ( الظمأ الكبير ) على المرتبة الأولى في المسابقة السنوية التي أقامتها إدارة المعهد التقني بإشراف أساتذة كبار في الشأن الأدبي . - فاز بالمرتبة الثانية لشعر الفصحى في المهرجان الدولي " القلم الحر – المسابقة الخامسة " المقامة في مصر " . - حصل على درع السلام من منظمة أثر للحقوق الإنسانية ، للجهود الإنسانية من أجل السلام وحقوق الإنسان .في أربيل 2017 م - حصل على شهادة تقديرية من سفير السلام وحقوق الإنسان الدكتور عيسى الجراح للمواقف النبيلة والسعي لترسيخ مبادئ المجتمع المدني في مجال السلام وحقوق الإنسان أربيل 2017 م - حصل على درع السلام من اللجنة الدولية للعلاقات الدبلوماسية وحقوق الإنسان للجهود الإنسانية من أجل السلام وحقوق الإنسان . أربيل 2017 م . - عدة لقاءات ثقافية مع سفيرة الإعلام فداء خوجة في راديو وار 2017 م . - أقامت له مديرية الثقافة والإعلام في دهوك أمسية أدبية عن روايته " الإرهاب ودمار الحدباء " في قاعة كاليري 2017 م - تنشر مقالاته وقصائده في الصحف والمجلات المحلية والعربية والعالمية . - غنت المطربة الأكاديمية المغربية الأصيلة " سلوى الشودري " إحدى قصائده " أحلام حيارى " . وصور فيديو كليب باشتراك فني عراقي ومغربي وأمريكي ،وعرض على عدة قنوات مرئية وسمعية وصحفية . - كتب مقالات عديدة عن شعراء وأدباء الأدب الكردي - كتب مقالات عديدة عن شعراء وأدباء المغرب - كتب مقالات عديدة عن شعراء نمسا ، (( تنتظر من يتبنى هذا الأثر الأدبي الكردي والمغربي والنمساوي للطبع . )) . - كتب الكثير من الأدباء والنقاد حول تجربته الشعرية ومنهم الدكتور أمين موسى ، الدكتورة نوى حسن من مصر الأديب محمد بدري، الأديب والصحفي والمذيع جمال برواري الأديب شعبان مزيري الأستاذة المغربية وفاء المرابط الأستاذة التونسية هندة العكرمي والأستاذة المغربية وفاء الحيس وغيرهم . - عضو إتحاد الأدباء والكتاب في العراق . - مستشار الأمين العام لشبكة الأخاء للسلام وحقوق الإنسان للشؤون الثقافية . - صدر للشاعر • مجموعة شعرية بعنوان ( وستبقى العيون تسافر ) عام 1989 بغداد . • ديوان شعر بعنوان ( بحر الغربة ) بإشراف من الأستاذة المغربية وفاء المرابط عام 1999 في القطر المغربي ، طنجة ، مطبعة سيليكي أخوان . • كتاب (عيون من الأدب الكردي المعاصر) ، مجموعة مقالات أدبية نقدية ،عن دار الثقافة والنشر الكردية عام 2000 بغداد . • كتاب ( نوارس الوفاء ) مجموعة مقالات أدبية نقدية عن روائع الأدب الكردي المعاصر – دار الثقافة والنشر الكردية عام 2002 م . • ديوان شعر بعنوان ( حياة في عيون مغتربة ) بإشراف خاص من الأستاذة التونسية هندة العكرمي – مطبعة المتن – الإيداع 782 لسنة 2017 م بغداد . • رواية " الإرهاب ودمار الحدباء " مطبعة محافظة دهوك ، الإيداع العام في مكتبة البدرخانيين العام 2184 لسنة 2017 م . • كتب أدبية نقدية معدة للطبع : • اغتراب واقتراب – عن الأدب الكردي المعاصر . • فرحة السلام – عن الشعر الكلاسيكي الكردي . • سندباد القصيدة الكورية في المهجر ، بدل رفو • إيقاعات وألوان – عن الأدب والفن المغربي . • جزيرة العشق – عن الشعر النمساوي . • جمال الرؤيا – عن الشعر النمساوي . • الرؤيا الإبراهيمية – شاعر القضية الآشورية إبراهيم يلدا. • كتب شعرية معدة للطبع : • ديوان شعر – أجمل النساء • ديوان شعر - حورية البحر • ديوان شعر – أحلام حيارى • وكتب أخرى تحتاج إلى المؤسسات الثقافية المعنية ومن يهتم بالأدب والشعر لترى هذه الكتب النور في حياتي .
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.