د. ميسون البياتي
اليوم أتممت عشرين عام منذ غادرتك، ومن يومها لم أعرف الإستقرار الى الآن
بنيتك قبل ستة وثلاثين عاما حسب ذوقي ورغبتي من حر مالي الذي كسبته من عملي
وكنت أظن تابوتي يوم موتي سيخرج منك
زرعت في حديقتك الخلفية سدرة وزيتونتين واخترت لهذه الحديقة طراز الحدائق الصحراوية
أما حديقتك الأمامية فقد كانت قبلة للناظرين، توسطتها رمانتي الحبيبة التي كانت تجود برمان وردي أطعم وأشهى من العسل
وحين ولدت ابني الوحيد، زرعت له في ركن هذه الحديقة فسيلة نخل برحية وقلت له : عندما تكبر علق لأولادك مرجيحة على هذه النخلة وقل لهم إن جدتهم قد زرعت لك هذه النخلة يوم مولدك
حين وقعت الحرب تكسرت أجزاء كبيرة منك بفعل القصف اليومي المكثف الذي تعرضت له محلتنا، لكني أصلحت كل ذلك بمجرد وقف العمليات العسكرية
داخلك بيتي الحبيب التقيت أهلي وأحبتي وأصدقائي ولم تزل حكاياتنا عطرة ندية في ذاكرتي
وخزنت فيك بغرفة المكتبة في الطابق الأعلى ما يزيد على ألفي كتاب، وفي هذه الغرفة كتبت أطروحتي للدكتوراه، يا الله كم كنت سعيدة وفخورة بنفسي تلك الايام
فجأة تذكرت القيادة التاريخية الفذة أن واحدا من أهلي مقيم بالخارج، صار معارضا لها، فتم استدعائي الى استعلامات القصر الجمهوري من أجل إجباري العمل ضد هذا الواحد من أهلي
وخلال عشرة أيام كنت اشتريت جواز سفر وحملت ابني وغادرنا الى الأردن، في عمان شعرت بألم في معدتي وتقيأت دما
كل شيء حدث بسرعة مرعبة، وصار عندي يقين أنني لن أرى العراق مرة أخرى
حصلت على عدة عقود عمل من جامعات عربية انتهت كلها قبل سقوط الصنم، لذلك فكرت في الهجرة، فجئت الى هذا البلد الذي أحمل جنسيته الآن، وليس في ذلك أي فخر، فهل من بعد كونك عراقي سيعجبك أن تكون أي شيء آخر؟
بيتي الحبيب
منذ الصباح الباكر أغني لك مع كاظم (مشتاق ومضنيني الفراق مشتاق) وخنقتني العبرة عدة مرات حين يصل الى القول (هجرني من هجرتوني دفا بيتي، وانا بليل الشتا موعود). وأنت تعرف عندما يكون الانسان في هكذا حالات اشتياق فانه يكون مستعدا لإجتراع الأعاجيب
قررت أنني يجب ان أراك اليوم وبأي شكل أو صورة، نزلت برنامج (جوجل إيرث) على الكومبيوتر. وفتحته ثم ذهبت الى بغداد، وصرت أبحلق في شاشة الكومبيوترحائرة الروح، كأني في طائرة أسابق نفسي للنزول في المطار وأنا لاأدري أي من أحبتي سيكون بانتظاري، يا ربي كيف سأجد بيتي وسط هذه الزحمة والإتساع؟
عبرت دجلة من الرصافة الى الكرخ وانا الآن في ساحة المتحف، وهذه المحطة العالمية، وهذا مطار المثنى، هنا معهد الفنون الجميلة، وهذا معرض بغداد، بدأت نبضات قلبي تتسارع حين رأيت برج المأمون، درت دورتين حول البرج ولم أعد أر شيئا من خلال دمعي، ها أنت حبيبي بيتي أمامي، لكنك أبعد من السماء عني
حين أقرب صورتك تفقد وضوحها، وحين أبعدها تفقد تفاصيلها، فلم أستطع غير ملاحظة أن نخلة ابني التي كان طولها حوالي متر حين غادرنا، صارت الآن شابة جميلة تصل سعفاتها الى بلكونة البيت…. أين انت يا البرحية؟ ابني الآن صار ينسى الكثير من كلماته العربية ويجد من الأسهل عليه التكلم بالانكليزية، ولست أدري مرجيحة أي أحفاد ستحملين اذا لم يكونوا أحفادي؟
ذهبت الى موقع لحساب المسافات على الأرض، فوجدت بغداد تبعد عني 154 ألف كيلو متر، هل هذا معقول يا ربي؟
اتصلت بأهلي في بغداد قلت لهم : سأعود
فقالوا : إحذري أن تفكري بذلك، إبن عمتك اغتالته قوات من الداخلية في بيته عند السابعة صباحا، وقريبك فلان تم اختطافه لطلب فدية خمسين الف دولار، وابن خالك أسير عند الامريكان، أما قريبنا فلان فقد اعتقلته الداخلية منذ عام ونصف، ومنذ عام كامل انقطعت أخباره تماما
بيتي الحبيب
ماذا أفعل أمام كل هذا؟ عدت إليك على موقع جوجل، وضعت عليك إشارة تمكنني من الوصول إليك في كل مرة دون بحث
وصرت أردد أبيات من واحدة ابن زريق البغدادي
أستودع الله في بغداد لي قمرا بالكرخ من فلك الأ زرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وإني لا أودعه
تشبث بي يوم الرحيل ضحى وأدمعي مستهلات وأدمعه
إني أوسع عذري في جنايته بالبين عنه وجرحي لا يوسعه
بيتي الحبيب، سأزورك كل يوم على موقع جوجل، وهذا كل ما بقي لي منك أدامك الله لمحبتنا
خير الكلام … بعد التحية والسلام ؟
١: صبرك ألله وصبر كل العراقيين الطيبين المهجرين والمهاجرين وأنا واحد منهم مع كل أهلي حتى لم أشهد وفاة أبي الذي كانت أمنيته تلك ؟
٢: لا يسعنا القول إلا حسبنا الله نعمة الوكيل نعمة المولى ونعمة القدير على الدجال الخميني الذي جلب الكوارث علينا وعلى أيران والمنطقة ؟
٣: أن يفسد الطغاة فهذا ديدنهم ، ولكن أن يفسد رجال الدين في البلاد العباد فتلك كارثة الكوارث ومن علامات الساعة ؟
٤: أرجوا أن تقبلي مني هذه الأبيات القليلة ؟
شلون أو دعك ياوطن … وأنت الأصل والبديل
چذب أكول ودعتك … تعال وأسأل قلبي العليل
مالي شغل باللي خان … والشريف راية ودليل
وحساب الكل يوم الدين … وياويلوا القاطع سبيل