جبتُ هذه الحياة وخضتها وتذوقتُ طعمها حلوها ومرها, وعاشرت من كان بطبعه أميرا وعاشرتُ من كان بطبعه حقيرا وصاحبتُ خيارَ الناس ولكني لم أجد أجملَ من صحبة أهلي وجيراني حتى وإن اختلفوا معي فكريا وعاطفيا ومنهجيا في كل شيء , وتنسمتُ عبير هذه الحياة , ودخلتُ بيوت الفقراء وبيوت الأثرياء ولكن بصراحة لم أجد بيتا أوسع من بيتي ولم أجد غرفة نوم أجملَ من غرفةَ نومي , ونمتُ على وسائد مصنوعة من القش وعلى وسائد مصنوعة من النايلون وعلى وسائد مصنوعة من الحرير ومن البلوسترين ومن القطن ولكن لم أنم ولم أنل الراحة إلا وأنا مرتاح الضمير سواء أكانت وسادتي من القش أو من الحرير, وغطيتُ جسمي أثناء النوم بشتى أنواع الأغطية ولكن لم أجد غطاء على مقاس أرجلي إلا الغطاء الموجود في غرفة نومي, أما عند الناس فقد نمتُ كثيرا ولكن دائما ما كانت أرجلي مكشوفة وغالبا ما كنت استيقظ ليلا وبطني يؤلمني من شدة البرد والغطاء مكشوف عن جسدي هكذا أجد نفسي حينما أنام خارج البيت وهكذا اشعرُ بالمغص من البرد لأنني بصراحة لا اعرف كيف أنام خارج بيتي وأبقى دوما قلقا جدا وطوال الليل وأنا لا أضع الغطاء على جسدي جيدا, هذا عدى الكوابيس التي تأتيني على شكل أحلام مزعجة.
المهم أن بيتي الصغير بحجمه أجمل من قصور الإنس والجان ومساحته أوسع من مساحة وطن بكامل معداته, والهواء الذي به أنقى هواء اشتمه انفي والدفء الذي بداخله أفضل من أفران الكهرباء والغاز لقد تجولتُ في بيوت وكأنها قصور الجان التي نقرأ عنها في القصص والروايات الخيالية ولكنني لم أجد بيتا يؤويني من الدفء إلا بيتي, نمتُ في زماني داخلَ بيوت مدفئة بأحدث وسائل التدفئة ولكنني لم أجد أدفء من بيتي, ودخلت بيوتا مكندشة بأحدث وسائل التكييف والتبريد والتحشيش!! ولكنني لم أجد بيتاً أبرد ولا أهوى من بيتي في فصل الصيف , دخلتُ بيوتا كثيرة ورأيتُ كثيرا من الناس وحاولت أن أكتب بعض المقالات وأنا مثلا ضيف شرف في إحدى بيوت الأصدقاء ولكني لم استطع كتابة سطرٍ واحد وكانت كل كلمات السطر مشوشة ومخربطة ولخبطيطة وأشياء لم افهمها , ودخلتُ في زماني أفخم المطاعم وتناولت فيها أشهى المأكولات ولكن كل ذلك لا يعادل عندي رغيف من الزيت والزعتر في بيتي الصغير فهذا أشهى من لحوم الضان , وكلك لا يعادل عندي بيضة مقلية أو لا يعادل رغيف خبز (زلابيا) , بيتي هو مسرحي الذي وقعت به كبرى احداث التاريخ في عائلتنا, بيتي هو المحيط الذي احتميت به طوال كل تلك السنين, بيتي هو الشريان الذي يروي قلبي وفكري وعقلي, بنيته انا وأمي غرفة غرفة ورممناه أكثر من مرة , رحم الله جدتي حين لم أكن افهم عبارتها التي تقول:( بيتي ما بطلع منه إلا على قبري).