من بين الأمور التي تعلمتها خلال تغطيتي لأحداث الشرق الأوسط على مدار سنوات عديدة، هو أن هناك (صباح اليوم التالي)، وبعد صباح اليوم التالي، سيأتي صباح يوم تالٍ، واحذروا الخلط بينهما. ففي صباح اليوم الذي يلي حدثا ضخما يسارع فيه السذج إلى الإعلان عن أن انتصار أو هزيمة شخص ما في معركة واحدة سيغير كل شيء إلى الأبد. في صباح اليوم التالي لليوم التالي، عندما تبدأ قوانين الجاذبية في القيام بعملها، لا تبدو الأمور في أغلب الأحيان بذات القدر من الحسن أو السوء كما كان يعتقد، ما يصل بي إلى الكلام عن ضم فلاديمير بوتين للقرم.
في صباح اليوم التالي، اُعتبِر بوتين بطل روسيا، حتى إن بعض النقاد السذج عبروا عن رغبتهم في أن يكون لدينا مثل هذا القائد الحاسم. حسنا، دعونا كيف سيكون صباح اليوم التالي الذي سيلي صباح اليوم التالي السابق، أي بعد ستة أشهر مثلا. أنا لا أتكهن هنا، ولكنني سأوضح حقيقة، وهي أن بوتين يتحدى ثلاثا من أعظم القوى على الأرض، هي: الطبيعة البشرية، وأمنا الطبيعة، وقانون مور. وعلى خلفية ذلك، أدعو له بالتوفيق.
ويؤكد استيلاء بوتين على القرم التأثير الدائم في مجال الجغرافيا السياسية؛ فروسيا دولة قارية، تمتد على مساحات شاسعة من الأراضي، يزود عنها عدد ضئيل للغاية من الحواجز الطبيعية. وقد كان كل قادة الكرملين، بدءا من القياصرة مرورا بالمفوضين والمحتالين، مصابين بهوس حماية أرجاء روسيا من الغزاة المحتملين، وللدولة الروسيّة مخاوف أمنية مشروعة، غير أن الأحداث الأخيرة لا صلة لها بهذه المخاوف.
والدراما الأوكرانية الأخيرة لم تبدأ بالجغرافيا – بقوة خارجية تحاول غزو روسيا، كما حاول بوتين الادعاء، بل بدأت القصة بشعوب داخل المجال الروسي تحاول الخروج منه. فعبر عدد كبير من الأوكرانيين عن رغبتهم في ربط مستقبل الاقتصاد الأوكراني بالاتحاد الأوروبي لا بالاتحاد الأوراسي الذي يبشر به بوتين. هذه القصة، في جوهرها، بدأتها وحفزتها الطبيعة البشرية – التساؤل المستمر من جانب الشعوب لضمان مستقبل أفضل لأنفسهم ولأطفالهم – ولم تبدأها الجغرافيا السياسية، ولا حتى النزعة القومية المبالغ فيها. وهي ليست قصة «اجتياح» بل هي قصة «خروج».
لا عجب في ذلك، فقد ذكر مقال صدر مؤخرا في موقع «بلومبيرغ بيزنس ويك» أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في أوكرانيا في عام 2012، بلغ 6.394 دولارا أي أقل بنسبة 25 في المائة عن المستوى المسجل منذ نحو ربع قرن. ولكن إن قارنتم أوكرانيا بأربعة من جيرانها الشيوعيين السابقين غربا، بولندا، وسلوفاكيا، والمجر، ورومانيا، والتي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي سنجد أن متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في هذه الدول يقترب من 17.000 دولار. فهل تستطيع لوم الأوكرانيين إن أرادوا الانضمام إلى فريق آخر؟
لكن بوتين يعتمد أيضا في حساباته على أن العالم لن يحرك ساكنا تجاه أمنا الطبيعة، لأنها ستتقبل الأمر الواقع، فصادرات النفط والغاز الروسي تشكل 70 في المائة من صادرات روسيا، وهي مسؤولة عن نصف العائدات الإجمالية للدولة. (متى كانت آخر مرة اشتريت فيها سلعة مكتوبا عليها «صنع في روسيا؟»). لقد رهن بوتين حاضر بلاده ومستقبلها بموارد الهيدروكربون بشكل أساسي، في مرحلة دعا فيها كبير خبراء الاقتصاد في الوكالة الدولية للطاقة إلى «ضرورة الحفاظ على نحو ثلثي مخزونات النفط والغاز والفحم الحجري الثابتة دون تطوير، إذا أراد العالم تحقيق هدف الحد من مستويات الاحترار العالمي بدرجتين مئويتين» منذ بداية الثورة الصناعية، حيث يرى علماء المناخ أن تخطي الحدود الحالية درجتين مئويتين سيزيد بشكل كبير من احتمال ذوبان القطب الشمالي، وارتفاع مستويات البحار بشكل خطير، وهبوب عدد أكبر من العواصف الهائلة المدمرة، وتغير المناخ بصورة يتعذر معها السيطرة عليه.
ما هو المقابل الروسي لقانون مور؟ تقول النظرية التي وضعها غوردن مور، أحد مؤسسي شركة إنتل، إن قوة المعالجة للرقائق الإلكترونية تتضاعف كل سنتين تقريبا. وكل من يتابع مستجدات قطاع الطاقة النظيفة اليوم يستطيع أن يخبركم أن جزءا من قانون مور مطبق في مجال الطاقة الشمسية، التي تشهد انخفاضا قويا في أسعارها، حتى إن أعدادا كبيرة من المنازل، بل وحتى المرافق، تراها رخيصة، فقد باتت تحاكي سعر الغاز الطبيعي. وتسير محطات توليد الطاقة من الرياح في المسار ذاته، وبنفس القدر من الكفاءة في استخدام الطاقة. ويتصدر هذا المجال الصين التي تسير باتجاه الحصول على 15 في المائة من مجمل إنتاج الطاقة الكهربائية لديها من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2020، ولن تتوقف الأمور عند هذا الحد. ولا يمكنها أن تتوقف، وإلا فلن يتمكن شعبها من التنفس. ولو أن الولايات المتحدة وأوروبا حصلتا على حافز أكبر لتشجيع مصادر الطاقة المتجددة، للحد من الدخل النفطي الذي يحصل عليه بوتين، فقد تؤتي هذه المبادرات ثمارها بشكل أسرع وأكبر مما يتصوره البعض.
إن مشروعية قادة الصين اليوم تعود في جانب منها إلى قدرتهم على تحويل نظام الطاقة في بلادهم إلى نظام صديق للبيئة، ليتمكن شعبهم من التنفس. أما مشروعية بوتين، فتعتمد على ما إذا كان قادرا على ضمان استمرارية الإدمان الروسي للنفط والغاز. فعلى من ستراهنون؟
قبل أن نتوج بوتين كرجل العام في مجلة «تايم» مجددا، دعونا ننتظر ونرَ النتائج التي سيحملها صباح اليوم التالي الذي سيلي صباح اليوم التالي.
* خدمة «نيويورك تايمز»
نقلا عن الشرق الاوسط