بلاد الرافدين في القرون الثلاثة للميلاد

bablبلاد الرافدين في القرون الثلاثة للميلاد

بقلم; عضيد جواد الخميسي

كانت بلاد الرافدين في بداية القرن الثالث للميلاد، مؤلفه من مناطق متنازعة سياسيا،واقعه كل منها تحت مؤثرات ثقافيه متضاربه،وعقائد متنافسة،حولت جميعها البلاد الى مركز للصدام فيما بين كل من الامبراطوريتين الرومانيه والفارسية،وبالتالي الى منطقة مواجهة بين الثقافتين الهلنستيه والفارسية،وحقل صراع بين ديانتين رئيستين مع مجموعة من عقائد وممارسات عدد من الطوائف .والمقصود بالديانتين هما: المسيحيه التي ستكون عقيدة رسمية للرومان ،والزرادشتية التي قدر لها ان تشغل دورا مشابها في ايران،ذلك انهما كانتا المتنافستين الروحيتين الرئيستين.
وكان الفرثيون الفرس قد انتزعوا بلاد الرافدين من ايدي السلوقيين في حوالي عام(150 ق.م)،وبعد خوض حروب عدة بين انكسار وانتصار مع الرومان،حقق أردشير(احد افراد الاسرة الساسانية النبيلة) لنفسه سلطاناً على منطقة((فارس))عام 208 م،وبسلسة من الحملات،ان يبسط سلطانه على ايران الشرقية الى حدود الهند الشمالية الغربية،غير انه لم يلاق سوى نجاحات طفيفة في اندفاعه نحو ميديا وارمينية،ثم تمكن من الاستيلاء على شمالي بلاد الرافدين(متجنبا المناطق الرومانية) ودخل منتصراً الى سلوقية طيسفون(المدائن) العاصمة الامبراطورية الفخمة ،،جنوب بغداد ،،،وذلك غدت سيادته على الاقاليم الفارسية امرا لايقبل الجدل،لاسيما بعد تتويجه امبراطوراً.. قام اردشير بتسمية ابنه شابور اميرا مشاركا له بالسلطة ،ونجم عن هذا التعيين تجديد هائل للنشاط العسكري في تلك المنطقة،واستولى شابور على مدينة الحضر،التي كانت محطة هامة لقوافل الصحراء،وذلك بعد مقاومة عنيدة،وتم تتويجه للعرش الامبراطوري ربماعام 242م.
ومع ذلك لم تترجم خطط شابور الى وقائع محققة في اي بقعة، فقد شهدت ايام الخريف الاخيرة لعام 260 م انسحاب جيشه الى بلاد الرافدين ،، وليس بامكاننا ان نناقش هنا الاسس العسكرية الصرفة لاخفاقه انما من الواضح ان العديد من الاسباب قد اسهمت في اتخاذ الملك العظيم لقراره،ولاشك انه كان للمعارضة المتزايدة التي قادها عدد من القادة المحليين الموالين لروما مع طول خطوط الاتصال ومصاعب الامداد المتلاحقة ،مع خيبة الامل من الموقف السلبي لسكان الاقاليم المحررة،والاحوال المتقلقلة على الحدود الفارسية الشرقية ،كان لكل ذلك اثره على الملك العظيم في اقناعه بالتخلي عن مشاريعه التوسعية،ولكن هذا لايعني ان نقول بتخليه عن مشاريعه في ذلك الزمان والمكان ،بل على النقيض من ذلك فقد استمرت الحرب طوال مدة حكم شابور،على الرغم من انه لم ينجم عنها اية نجاحات حقيقية،وع ذلك ،فمن المهم ان نتذكر ان الامور بدت في حوالي منتصف القرن الثالث،وبدا كأنما حكومة الملك العظيم سيمتد ظلها ليشمل جميع منطقة الشرق الاوسط وبالاخص بلاد الرافدين..هذا ماكان يخص الاوضاع السياسية في بلاد الرافدين والمناطق المجاورة بالموجز،اما الاوضاع الثقافية،حيث استمر التنافس بين بلاد فارس وروما على المستويين الثقافي والسياسي،وبالطبع استخدم الرومان اللغة اللاتينية لاغراض قيادة الجيش والادارة العسكرية،واستخدموا اللغة الاغريقية لاهداف فكرية ولاغراض الادارة المدنية،وعليه نالت الاغريقية قبول قادة وشعوب شمال الرافدين والمناطق المجاورة. وكانت خلال القرون الثلاثة الاولى لانتشار المسيحية اداة ووسيلة تعبير اعتمدها المؤلفون الاكاديميون والفلاسفة والادباء،وكان النفوذ الهلنستي فعالا لاتحده الحدود السياسية ولا توقفه وبناءا على المدونات المتوفرة،احتفاظ اللغة الاغريقية للادارة والنقش على النقود. وهناك امثلة اخرى من سوسة على الحيوية المستمرة للغة الاغريقية، ولعل اكثر الادلة مكانة واهمية هو الرسالة التي ارسلها الملك ارطبان او ــاردوان ــــ في عام 21ــــ22 م الى اثنين من موظفيه ونوابه في سوسة ،في اقليم -خوزستان- فقد كان اولهما كبير الكتاب ،وهو منصب خاص اقتبس من الادارة السلوقية ،وكان الثاني -أصبهبذ- قائدا للجيش ومؤكد انه حمل الاسم الفارسي المداول ،،فرهات ،، بينما حمل الاول الاسم الاغريقي،، انتيخوس ،، وقد اوضح الامبراطور الفرثي بلغة اغريقية متدفقة ماينبغي عمله حول انتقاء الموظفين المحليين وكانت صياغته للعبارات متطابقة مع الاسلوب الاصطلاحي الذي تطور منذ ايام خلفاء الاسكندر .
وتمتعت الاغريقية بهذه المكانة ليست في مدينة سلوقية الاغريقية فحسب ،بل في العديد من المستعمرات الاغريقية ،مثل مدينة ،، ارتميسيا,, ،التي تشهد على مدى قوة النفوذ الهلنستي في داخل الدولة الفرثية، ، ولسوء الحظ ان معارفنا حول هذه المناطق التي نطقت بالاغريقية محدودة ،لان اعمال السبر الاثري لم تمارس فيها الا بشكل ضئيل جدا،لاسباب تتعلق بمواقف الحكومات المتعاقبة من فرق المسح والتنقيب، ومع ذلك فان مدينة دورا ـــ أوربوس تقدم لنا فكرة هامة عن الحياة التي كانت موجودة هناك فهنا ايضا تمتعت الاغريقية بمركز مهيمن وذلك على الرغم من توفر مدونات اخرى وخربشات جاءت بالبهلوية والتدمرية ،مع وثيقة قانونية كتبت بالسريانية ،وان محتويات الوثائق والمدونات جميعا تشير الى الاساس الشرقي الواسع لسكان بلاد الرافدين..
ويظهر هذا كله ، بشكل مدهش ،السلطة النشيطة الفعالة ،التي حافظت عليها اللغة الاغريقية والافكار الهلنستية في بلاد الرافدين والمناطق المجاورة ،خلال العصر الفرثي ،فقد كان سحر الحضارة الاغريقية قادرا على اظهار نفسه بطرق عديدة وبوسائل كثيرة ،بينما كان التأثير البابلي قد تضاءل بشكل ملحوظ بحلول القرن الاول لما قبل الميلاد،وربما استمر هذا التاثير على شكل اجراءات وممارسات محدودة ،وخاصة في مراكز التعليم القديمة التي استمرت في اعتماد اللغة المتاصلة القديمة ،كل هذا بصرف النظر عن حقيقة ان اللغة الارامية قد حلت محل البابلية ،وغدت اللغة الشائعة في الاستخدام منذ القرن السادس قبل الميلاد ،ومهما يكن الحال فقد تم احيانا تهجية البابلية باحرف اغريقية اثناء استخدامها ،وذلك وفق الطريقة التي تم بها ادخال الابجدية الارامية في وقت مبكر وللاغراض نفسها ،وذلك انه من المشكوك فيه وجود اي استخدام للحروف المسمارية بعد بداية تاريخ ميلاد المسيح..اما الوضع الديني لبلاد الرافدين وما جاورها ،،كان الخلاف في المعتقدات الدينية داخل المناطق التي تكلمت الاغريقية والارامية في هذه الحقبة،واضح تماما ،وعبرت بلاد الرافدين عن شخصيتها واظهرتها من خلال عدد واسع من الطوائف والفرق ،وشاركت الطبقات العليا لكل من الفرثيين والساسانيين في عقائد الفرس القومية بشكل رئيسي،وبرز هذا بشكل جلي في تقديس الآلهة مثرا، واناهيد،وذلك ضمن ظروف تجددت ثانية اثناء تقديس الرب ،،زروان،، ومما لاريب فيه ان الزرادشتية المحضة قد تمتعت بتاييد قوي بين صفوف الفرس من سكان بلاد الرافدين ،تماما مثلما منحت طائفة الكهنة المجوس المتنفذة ،ولاءها للزروانية..
كانت بلاد بابل الجنوبية ملاذاً مفضلاً لدى عدد من الطوائف ذات الخلفيات البابلية ـــ السريانية، واليهودية والمسيحية والمندائية .
كانت التجمعات اليهودية سمة بارزة للريف البابلي منذ العهود القديمة ،وقد واصلت هذه التجمعات نشاطها الدعوي واعمال التبشير لديانتها،فربحت عددا من المتحولين الى ديانتها لبرهة من الزمن حتى من بين افراد الاسرة الفرثية الحاكمة في ـــ اديابين ـــ ومكن نفوذ اليهود هناك وفي الرها وبابل ايضا من نشر العهد القديم والتقاليد اليهودية ، وجعلها معروفة على نطاق واسع قبل دخول الديانة المسيحية. ومن المحتمل ان اليهودية دون غيرها من الديانات ،والحركات الدينية كانت قد فقدت زخمها السماوي في بداية القرن الثالث للميلاد ،وكانت المسيحية قد اظهرت نفسها من قبل على انها المنافس المهيمن في بلاد الرافدين الشمالية ،انما بسمة يهودية قوية ،وبذلك حققت غالبية التحولات اليها بين صفوف اليهود . كما لم يكن المسيحيون بطيئين في الحصول على موطئ قدم لهم في بلاد الرافدين الشمالية ــ الجزيرة ــ فقد كانت الرها مركزا للبعثات التبشيرية ، ومنها انتشرت المسيحية الى الشرق والغرب، فوصلت الى بعض الاقاليم الفارسية الصرفة ـــ مثل اقليم اديابين ثم الى خوزستان ففارس ـــ وذلك في حوالي عام 100 م . وتعد الاسطورة السريانية حول اعمال الرسول ـــ أداي ــ مصدرا فريدا للمعلومات حول البىئة التي تطورت فيها الديانة المسيحية السريانية ، كما ان الترجمات السريانية للعهدين القديم والجديد تعد ثمينة جدا في اظهار الصلة القريبة بين الرها وموطن المسيحية ، وان مايسمى برواية ــ بيشيتا ــ للعهد القديم له علاقة وثيقة بالترجمات الآرامية ـــ اليهودية او لوضوح الروح اليهودية ـــ المسيحية التي يمكن ان نلمسها فيه. واعطيت المسيحية منذ بدايتها في الرها وعلى الفور دورا روحيا عرفانياً واضحا من جانب ابن ديصان واتباعه ،وهذا السبب في ان كلمة ـــ مسيحي ـــ عدّت هناك بشكل رئيسي على انها الديصانية ، هذا من ناحية ، ومن ناحية اخرى وجدت طوائف مرقيونية مزدهرة وهم اتباع ـــ مرقيون ـــ وهو عالم لاهوت عرفاني كبير ،وكانت معظم هذه الطوائف في اعالي بلاد الرافدين . ومن المفيد والمثير في الوقت نفسه معرفة ان هذين الزعيمين البارزين ـــ اي مرقيون وابن ديصان ـــ قد ترعرعا في اجواء فارسية متشددة ، فقد ولد مرقيون داخل حدود مملكة بونتوس الفارسية في ميناء سينوب في آسيا الصغرى . وكان الناسك ابن ديصان شخصية بارزة في القرن الثاني ، وبحكم انه كان فيلسوفا ،مؤرخا،وعالما بانساب الشعوب ، وفلكيا، وشاعراَ، ومنافحاً قوياَ عن المسيحية ،وماهراً في الجدل ،فقد شغل منصبا فريدا في بلاد الرها، ويمكن ايضا عزو نفوذه وسمعته في الدوائر الملكية لدولة ـــ اسروين ـــ ليس لذكائه الثاقب وغير الاعتيادي فحسب بل لخبرته المذهلة في الرماية التي كانت الرياضة المفضلة لدى الفرثيين، وعليه يمكن عدّهما من حيث المنشأ والمظهر من البشائر الدالة والمقدمة لظهور ـــ ماني ــ وديانته التبشيرية ـــ المانوية ــ
كما سأتناول الديانات ،الزرادشتية ،والمندائية ، والمانوية، في الموضوع القادم .

المصادر-;-
ايران القرن الثالث ــــ سبرنغلنغ ــ شيكاغو 1953
عناصر رافدية ــ جيووايد نغرين ــ 1961
بعض النقوش السريانية من القرنين الثاني والثالث م ــ سيغال ــ لندن 1954
النصوص الادبية ـــ هونغمان ماركين ــ 1958

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.