فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي أحد العلماء الكبار الذين وضعوا بصماتهم على العصر الحاضر، وبخاصة في النشاط الإسلامي، ليس في المنطقة العربية وحسب، ولا العالم الإسلامي وحده، بل العالم أجمع، في مختلف أنواع النشاطات من تدريس وتأليف ودعوة وخطابة وإفتاء وإعلام، حتى إنني أعتقد أن نظيره في انتشار النشاطات وتنوعها قليل، إن لم نقل نادر.
حتى في هذه الأيام التي بلغ فيها الشيخ من الكبر عتيا لم يركن، حفظه الله، لمتاعب الشيخوخة ومتطلباتها. وقبل عامين تقريبا كان له موقف جليل حظي بإكبار الجميع من مريدين ومحبين ناقدين وآخرين ناقمين، وهو اعترافه على الملأ بخطئه الجسيم حين صدق مزاعم الإيرانيين ودعواتهم للتقريب بين المذاهب ومشاركته لهم فيها، وإشراكه لهم في اتحاد علماء المسلمين الذي يترأسه، واختياره واحدا من رموزهم ليكون نائبا له فيه، وكذلك تصديقه لأكاذيب مقاومة إسرائيل من عميلهم حسن نصر الله، وسخرية الشيخ، سامحه الله، من علماء المملكة وعلماء المنهج السلفي في العالم، حيث كانوا سباقين إلى كشف باطل هؤلاء وزيف دعاواهم، ولم يستنكف الشيخ، حفظه الله، أن يقول بملء فمه: إن علماء السعودية كانوا أكثر منه في هذه القضية فهما، ولم ينخدعوا كما انخدع هو.
وهو موقف جدير بالثناء حقا، رغم أنه جاء متأخرا ومتأخرا جدا، بعد أن بلغ المد الإيراني في العالم مبلغه وانخدعت بعض الجماعات الإسلامية بالإيرانيين وتواصلت معهم، وبدؤوا من خلالها يشتغلون في التشييع في إفريقيا وآسيا بل وأوروبا والأميركتين، وكانوا في بداية نشاطهم يتكئون على فتاوى الشيخ القرضاوي ومن سبقه من علماء الأزهر، كالشيخ شلتوت في الفتوى المنسوبة له، والرموز الدعوية كالشيخ البنا، حين شارك في إنشاء دار التقريب في أربعينات القرن الميلادي الماضي، كما يتكئون على من تابع القرضاوي، حفظه الله، في موقفه من إيران، كالعديد من الناشطين مثل الشيخ راشد الغنوشي، ويوسف ندا وغيرهما، وكثير منهم لم يوافق الشيخ حتى اليوم في رجوعه عن حسن الظن بإيران، كالشيخ مهدي عاكف والدكتور كمال الهلباوي والشيخ الغنوشي والأستاذ فهمي هويدي، حيث لا زال منهم وبالرغم من كل شيء من يرتبط بعلاقات وثيقة بالنظام الصفوي المجرم، أو قل لم يعلنوا حتى اليوم براءتهم منه، فالشيخ الغنوشي بعد جرائم ما يسمى بحزب الله استقبل وفدهم في بلاده وأكرم وفادتهم وثمن مشاركتهم لهم في احتفالاتهم، وأدان ما صدر عن وزراء الداخلية العرب من اعتبار حزب الله حركة إرهابية، بل ومارس حزبه ضغطا على الحكومة التونسية لتتراجع عن موافقتها للوزراء العرب لتقول: إنه قرار غير إلزامي.
فخطأ الشيخ القرضاوي، حفظه الله، ليس خطأ في فتوى يقع أثره على أفراد معدودين، ثم ينقضي بمجرد الرجوع عنها إلى فتوى أخرى، بل خطأ في فهم واقع سياسي ودافع عقدي، ومن الطبيعي جدا أن تستمر آثاره السيئة مدة من الزمن، فأخطاء الكبار -كما يقول المثل العربي- كبار الأخطاء.
ومع ذلك فليس هذا هو الخطأ الوحيد للشيخ في مواقفه السياسية، وأقول بمسؤولية تامة: إنني لا أعرف لفضيلته منذ 38 عاما موقفا في قضايا الأمة السياسية المفصلية إلا ثبت بعد سنوات أنه كان خاطئا، ولست هنا بصدد تعداد تلك المواقف، فقد تحدثت عنها في مقال سابق، وقد أخذ في حينه حظه من الانتشار، وكان نشره قبل أسبوعين على التقريب من إعلان الشيخ، حفظه الله، إقراره بخديعة الإيرانيين له وسابقة علماء السعودية بالوعي بخطرهم.
وإنما أنا هنا بصدد الحديث عن خطأ أعظم وأشد جسامة وأثرا سيئا على الأمة، يدفعني للحديث عنه ما تم قبل أيام من اتفاق حول إنهاء الثورة السورية بين روسية وتركيا ووافقت عليه عدد من الفصائل المقاتلة في الداخل السوري، وهو اتفاق يأتي بعد دمار سورية بأسرها، مهمته الوحيدة إيقاف الدمار عند هذا الحد، وموافقة الفصائل المجاهدة “ووصفي لها بالمجاهدة وصف أراه حقيقيا”، على هذا الاتفاق يعني أنها باتت يائسة من نسيج الأحلام التي ظلت تغزل لها عن دولة الشريعة التي ستقام على أنقاض دولة الأسد، وباتوا أكثر وعيا بأنهم في عالم جديد يختلف عن عالم صلاح الدين، رحمه الله، والصليبيين، عالم النصر المؤزر فيه وتحقيق الآمال لا يكفي فيه الشجاعة والإخلاص وقوة الساعد، بل لا يكفي فيه حتى امتلاك السلاح، ولو كانت قوة العتاد والعدة في هذا الزمان كافية لبلوغ المآرب لما رأيت روسيا المصنعة للسلاح، والممتلئة بالرجال تهزم في أفغانستان؛ ولما رأيت الولايات المتحدة وهي القوة الأولى في الجيش والعتاد، تهزم في فيتنام، وتتراجع في الصومال وأفغانستان والعراق، وأخيرا في سورية.
فليس المسلمون هم الذين يتلقون الهزائم اليوم وحدهم، لكن كل من يتصرف وكأن العالم له وحده لا شك سينكسر، سواء أكان قوة عظمى كروسيا وأميركا، أم جماعات سياسية كالإخوان المسلمين ومن حذا حذوهم، أو فصائل متطرفة كداعش والقاعدة، أو فصائل مجاهدة كالجيش الحر بمختلف ألويته.
فلم يكن المجاهدون الأفغان لينتصروا بعد توفيق الله لهم لولا وجود قوة عالمية تساندهم وهي الولايات المتحدة، وقوة إقليمية هي المملكة العربية السعودية، ولم تكن طالبان لتكتسح الساحة الأفغانية لولا مساندة قوتين إقليميتين هما السعودية والباكستان. وحين تغابى القادة الأفغان وطالبان عمن وقف معهم سقطوا جميعا.
ولم تكن حرب البوسنة لتنتهي لولا أن المجتمع الدولي بأسره رغب في أن تنتهي، هذا هو الواقع، فمن فهمه على حقيقته وتعامل معه بذكاء وحنكة واقتدار استطاع الوصول إلى ما يمكن الوصول إليه، لا إلى كل ما يريد الوصول إليه، ومن تعامل معه بمنظار مقلوب وبدت له الأمور الكبار صغارا، فسوف يصطدم بصخرات الواقع التي زيفها له منظاره المقلوب.
لكن الشيخ القرضاوي كان منذ بداية ما يسمى زورا بالربيع العربي متجاهلا هذه الحقيقة المتجلية كالشمس عقلا وتجربة، فظهر كأب روحي لكل الثورات في تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن، فهل يمكن لهذه النهاية الأكثر إيلاما لثورة سورية -إن كانت قد انتهت حقا- أن توقظ الشيخ القرضاوي إلى خطئه السياسي والمصلحي في موقفه من الثورات؟
وعادة الشيخ القرضاوي حينما يكون دليله في قضية ما العاطفة المجردة في مواجهة الدليل يلجأ إلى السخرية بالمخالف واستهجانه، وقد صنع ذلك في رده على علماء المملكة الذين وقفوا من الثورات موقف العالم من الفتن، فقال: “اللهم إن كانت هذه فتنة فأمتني عليها”، بدلا من أن يقول ما قاله الرسولﷺ: “اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه”، فهل سيستغفر من هذه الدعوة على نفسه ويسأل الله الهدى، ويعود إلى النصوص القرآنية والنبوية التي تأمر بالجماعة وتحض على الصبر وتنهى عن السيف في جماعة المسلمين، وتنادي بإصلاح العقائد والقلوب وتعبيد الناس لله، قبل تسليطهم على حكامهم. النصوص التي تدل على وجوب اعتبار موازين القوى وعدم الإلقاء باليد إلى التهلكة والرحمة بالمسلمين من مغبات الفتن.
إن ندائي هنا للشيخ، حفظه الله، باعتباره رمزا إذا رجع كان لرجوعه أثر عظيم، وشفقة عليه من أن تستجاب دعوته فيحمل ما تجره الثورات على أهليها من رزايا. قد يردد الشيخ أو غيره: إن الثورات لم تفشل لولا الثورات المضادة، وهذا حق من حيث حكاية التاريخ، لكنه باطل إن أريد به تأييد المنهج الثوري الذي لم يأت للمسلمين ولا للكافرين بخير؛ لأن مقاومة الثورات ممن لا يرون رأيها هي الموقف الطبعي الذي لولاه لما كان هناك دافع للثورة أصلا؛ فإن كانوا بادئ أمرهم حالمين بثورة لا تجد لها ضدا فقد أشاروا بالأيدي إلى مبلغ سذاجتهم وسطحية أفكارهم.
-
بحث موقع مفكر حر
أحدث المقالات
كيف تفكك مجتمعا ما وتدمر حاضره ومستقبله؟
Published by:علي الكاشمباحث في اللغة والادب/ 78 وسامة الرجل في التراث
Published by:مفكر حردراسة موجزة عن ديوان (فصائد في قصيدة واحدة) للشاعر والأديب ميخائيل ممو.
Published by:آدم دانيال هومه** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
Published by:سرسبيندار السندي** لماذا الإطاحة بالنظام الايراني ... غدت ضرورية غربية ودولية **
Published by:سرسبيندار السنديالحزب الشيوعي لايختلف عن الاحزاب الدينية الفاشية .. الداخل مفقود والخارج مولود
Published by:مفكر حر** كيف بلع نظام الملالي ... الطعم ألإسرائيلي **
Published by:سرسبيندار السندي** كيف يسخر ويضحك صبيان محمد الجدد ... على عقول ألمسلمين **
Published by:سرسبيندار السنديالمسيح في فكر الإسلام والعقيدة المسيحية
Published by:صباح ابراهيممن يوميات إمرأة حلبجية
Published by:مفكر حراسطورة الإسراء والمعراج
Published by:صباح ابراهيمالفيلم الألماني " حمى الأسرة"
Published by:طلال عبدالله الخوري** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
Published by:سرسبيندار السنديفيلم ايطالي عام 1959 عن تدمر والملكة العربية زنوبيا … علامة المصارع
Published by:مفكر حر** أمة الكُورد بين ألإسلام … والتخلف والتعصب والاوهام **
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/10
Published by:علي الكاشأفكار شاردة من هنا وهناك/51
Published by:مفكر حرقراءة متأنية في ديوان (قصائد منزوعة السلاح) للشاعر نينوس نيراري
Published by:آدم دانيال هومه** كيف رتبت أل سي اي ايه … لقاء الصحفي تايكر ببوتين ولماذا ألان **
Published by:سرسبيندار السندي** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/8
Published by:علي الكاشأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح( 18-19 )
Published by:حسن محموديأفكار شاردة من هنا وهناك/49
Published by:مفكر حرالانتخاب
Published by:مفكر حر" الاشياء البائسة" Poor Things
Published by:طلال عبدالله الخوريالأدب النسوي ما بين الإبداع والاستغلال
Published by:اسعد عبد الله عبد عليأفكار شاردة من هنا وهناك/48
Published by:مفكر حرالرب يفضح الأنبياء الكذبة
Published by:صباح ابراهيمأخطار تهدد الحياة على الأرض
Published by:صباح ابراهيمكأس عسل
Published by:عصمت شاهين دو سكيسليلة الآلهة
Published by:آدم دانيال هومهأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح ( 16, 17)
Published by:حسن محمودي** محنة العقل في الاديان ومعضلة كتبها … بالدليل والبرهان **
Published by:سرسبيندار السندي** لماذا قصف نظام الملالي الارعن … مدينة أربيل ألان **
Published by:سرسبيندار السندياوبنهايمر
Published by:طلال عبدالله الخوري** مَن سيُحاسب قادة حماس … على جرائمهم بحق غزة وأهلها **
Published by:سرسبيندار السندياسرار #الموساد عن #العراق - ج 1
Published by:صباح ابراهيمالمرأة بين الماضي والحاضر مسيرة كفاح وتنمية ونماذج معاصرة
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/4
Published by:علي الكاشالقاسم الأيمانيّ المشترك :
Published by:مفكر حرعام جديد..
Published by:مفكر حر** قصة مِيلادِ السيّد المَسِيحْ … العجيبة والفريدة **
Published by:سرسبيندار السندي#محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
Published by:محمد الماغوطأفكار شاردة من هنا وهناك/43
Published by:مفكر حرمن هو يسوع المسيح ؟ - يسوع المسيح يكشف لنا حقيقة الله-
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
Published by:علي الكاشفاطمة الزهراء و غموض تاريخها
Published by:صباح ابراهيم#نزار_قباني: أيها المسيح العظيم هل تقبل دعوتي إلى العشاء .
Published by:نزار قباني** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
Published by:سرسبيندار السنديهل روح الله هو الله ام جبريل ؟
Published by:صباح ابراهيمأُمة فيها العجب
Published by:عصمت شاهين دو سكيتجاعيد وايجار واتهام
Published by:اسعد عبد الله عبد عليتقاسيم على أوتار الريح
Published by:آدم دانيال هومهالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/1
Published by:علي الكاشالدعاء على المسيحيّين
Published by:مفكر حرمباحث في الأدب واللغة/63 الطعام والمطبخ العربي
Published by:مفكر حرأفكار شاردة من هنا وهناك/41
Published by:مفكر حرأحدث التعليقات
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on علماء النصارى كانوا يتسمون اسماء اسلامية
- س . السندي on فاطمة الزهراء و غموض تاريخها
- س . السندي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- س . السندي on سورة مريم اقتبست من شعر امية بن ابي الصلت
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on #محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
- Mohammad Al Kassab on ضحايا صدام حسين 7
- ابن الرافدين on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- قثيم بن سنحريب الفيروزي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- مسلم on القرآن زور التوراة والإنجيل
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- قثم بن عبد الات القرشي on هدف حماس من (طوفان الأقصى) وهدف إسرائيل من اعلان حالة الحرب
- طوفان البدروسي on ** لماذا ورطت إيران قادة حماس … بطوفان الاقصى ألان **
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية