في خطاب الرئيس الأمريكي باراك حسين أوباما الى الأمة الفارسية لمناسبة إحتفالها ببداية السنة الفارسية ( عيد نوروز ) الذي وافق في آذار 2009 قال : (( هناك من يصرون على أننا نُعْرَفْ بإختلافنا , ولكن دعونا نتذكر الكلمات التي كتبت من قبل الشاعر سعدي قبل سنوات طويلة والتي قال فيها : أولاد آدم عون لبعضهم لأنهم خلقوا من جوهر واحد )) . ولا عجب في سماع هذه العبارة من الرئيس الأمريكي لأن قصيدة سعدي التي وردت فيها تلك العبارة معلقة منذ سنوات طويلة على جدار قاعة الأمم في مبنى الأمم المتحدة في نيويورك وهي تقول :
بنی آدم اعضای یک پیکرند
که در آفرينش ز یک گوهرند
چو عضوى به درد آورد روزگار
دگر عضوها را نماند قرار
تو کز محنت دیگران بی غمی
نشاید که نامت نهند آدمي
ومعناها باللغة العربية :
أبناء آدم من نفس الجوهر
ومن خلقهم هو الذي وضع هذه القاعدة
تأثير عضو واحد يكفي
ليجعل بقية الأعضاء تشعر بالأثر
وعدم الإهتمام بمحن الغير
لا يصدر إلا عن وحوش بوجوه بشر .
أبو مصلح بن عبد الله المعروف بإسم ( سعدي ) والذي عاش حوالي 100 عام بدأت في العام 1184 ميلادي , كان واحداً من أهم شعراء الفرس في العصور الوسطى , ليس لجودة شعره وحدها , ولكن لعمق المشاعر الإنسانية الموجودة فيها .
كان الشيخ سعدي مواطناً إيرانياً يعيش في شيراز التي تركها منذ سن مبكرة وذهب الى بغداد ليتعلم الأدب العربي والعلوم الإسلامية , في أشهر مركز للمعرفة كان موجوداً ذلك الزمان وهو ( المدرسة النظامية ) وذلك خلال المدة بين عامي 1195 – 1226 .
الأوضاع غير المريحة التي أعقبت غزو المغول لإيران أدت به الى التجول والعيش في الأناضول , ثم سوريا , وأخيراً العراق . كما أنه يتحدث في أشعاره عن سفره الى الهند ووسط آسيا .
رحلات سعدي التي بدأت منذ العام 1271 وحتى 1294 وضعت في كتاب بعنوان ( رحلات سعدي ) وهذه الرحلات تختلف عن رحلات ( ماركو پولو ) في أن سعدي كان قد تجول خلالها بين عامة الناس وتحسس معاناتهم , بينما رحلات پولو كانت قد تمت في أجواء الثراء والرفاهية .
كان سعدي خلال رحلاته البعيدة يسهر في المقاهي الى ساعات متأخرة من الليل ويتبادل مع التجار والفلاحين واللصوص وأتباع الطرق الصوفية , الأحاديث ووجهات النظر , فيتعلم الحكمة من الجنون , والأمانة من ضياع الحق , ثم يظهر ذلك لاحقاً في شعره .
حين عاد الى شيراز بعد رحلته الطويلة , كان قد أصبح رجلاً مسناً , وكانت شيراز وقتها تحت حكم ( أتابك أبو بكر سعد بن زنكي ) الذي إحترم الشاعر كثيراً وعده من كبراء المدينة , ولهذا فحتى أسم شهرة شاعرنا ( سعدي ) هو إسم منحول عن إسم الحاكم ( سعد بن زنكي ) الذي مدحه الشاعر في قصائد تمجده وتمجد عائلته الحاكمة تم إدراجها في مقدمة مجموعة أشعاره التي تعرف بإسم البستان أو بإسم ( بستان سعدي ) . وقد أمضى سعدي ما تبقى من عمره في شيراز .
أتم سعدي كتابة ( البستان ) عام 1257 ميلادية , وأتم كتابه الآخر ( حديقة الورد ) أو ( الگلستان ) عام 1258 . يتضمن البستان حِكماً كتبها الشاعر على شكل قصائد شعرية تتضمن الحديث عن العدالة والحرية والإعتدال والقناعة , كما يعكس صوراً من حياة الدراويش وممارساتهم الصوفية .
الصفحة الأولى من كتاب ( البستان ) وكان الكتاب قد خطَّ في الهند في القرن السابع عشر الميلادي , كتبت فيها العبارة التالية : (( بسم الله الرحمن الرحيم , خالق الحياة , الحكيم , واهب النطق باللسان , الله العاطي والمانع , الرحيم , غافر الذنب وقابل العذر )) .
الگلستان أو ( حديقة الورد ) مكتوب نثراً ويتضمن القصص والمواقف الشخصية للشاعر , تختلط بها مجموعة من القصائد القصار التي تتضمن الحكمة والنصيحة وبعض السخرية والمرح , يدلل بها سعدي عن وعي عميق بعبثية الوجود البشري , وقدر أولئك الذين يعتمدون على أمزجة ملوك تتغير في كل حين وتتناقض مع حرية الدرويش _ الإنسان .
يعد الدارسون الغربيون ( البستان ) و( الگلستان ) كتباً ذات جاذبية خاصة , ويرون سعدي شاعراً كبيراً في مدائحه وأشعاره الغنائية , وكاتباً لعدد من القصائد المتقنة في تصوير التجارب الإنسانية لعل أشهرها قصيدته في رثاء بغداد بعد سقوطها بيد المغول عام 1258 . كما يثمنون أيضاً غزلياته وقصائده التي كتبها باللغة العربية .
مزيج غريب من العطف الإنساني , والسخرية , وروح الدعابة , تجعل من سعدي شخصية محبوبة حتى في أكثر الدراسات تقليدية عن عالم الثقافة الإيرانية .
قام الشاعر الروسي الشهير ( ألكسندر پوشكين ) بالإقتباس عن سعدي في روايته الشعرية المعروفة بإسم ( يوجين وإنجين ) حين قال : (( كما غنى سعدي منذ أزمان بعيدة : بعضهم صار بعيداً جداً , وبعضهم الآن قتيل )) .
يمايز سعدي بين العالم الروحي والجوانب العملية في الحياة الدنيوية , ففي كتاب البستان على سبيل المثال إستخدم الروحانيات لدفع نفسه الى خارج العالم الدنيوي ليعطينا تصويراً حساسا للطبيعة والناس , بينما في كتابه الآخر ( الگلستان ) يخفض من هذه الروحانيات ليتمكن من تقديم رفاقه أبناء السبيل وهو يصور ببراعة الفرق بين شيخ يتعبد في خانقاه أو تكية وبين تاجر مسافر يمر من نفس البلدة , لكن براعة سعدي في عرضه لثنائية الحياة هذه تصور لنا العالمين على أنهما فلقتي حبة لوز تنامان داخل قشرة نواة واحدة .
يوصف النثر الذي كتبه سعدي بأنه من السهل الممتنع ويرتكز على شبكة من الترادفات والتناقضات المكتوبة على شكل جمل ذات سجع , كما لو كان قافية شعرية , وبمهارة فائقة .
تمت ترجمة ( الگلستان ) الى الفرنسية عام 1634 , وبعد عشرين عاماً على ذلك تم نشر ( البستان ) و( الگلستان ) مترجمين الى الألمانية عام 1654 . ومنذ ذلك الوقت كان سعدي شخصية شرقية معروفة في أوربا .
كتب الفيلسوف والباحث والشاعر الأمريكي ( رالف والدو إيميرسون ) الذي كان روحاً متعطشة لكتابات سعدي , وساهم بنفسه في كتابة تقديم بعض طبعات كتب سعدي المترجمة , وهو الذي قرأ سعدي فقط من خلال ما ترجم الى الإنكليزية , بأن كتاباته يمكن أن تقارن بما ورد في الكتاب المقدس ( البايبل ) من حيث الحكمة والجمال في السرد .
توفي سعدي في مسقط رأسه شيراز , ومنذ ذلك الحين أصبح قبره محجة لمحبي الشعر والأدب , تم تجديد القبر أول مرة خلال فترة حكم كريم خان زاد 1750 _ 1779 . ثم أعيد تجديده في عهد الشاه الأخير محمد رضا بهلوي عام 1952 حيث غلف المكان بالمرمر وجعلت له ( رازونتان ) زينتا بالورد وأشعار سعدي , أما الحجر المنتصب عند رأسه فقد زينته إحدى قصائده , وعند قاعدة الحجر خطت عبارة صغيرة تقول : (( ستضوع رائحة الحب من قبر سعدي حتى ولو بعد ألف سنة على وفاته )) وهذه العبارة هي بيت شعر كان سعدي قد كتبه في حياته . ميسون البياتي – مفكر حر؟