بروفيسور أمريكي من أصل لبناني في أخطر كتاب عن حكم ‘الأسدين’: ‘التمرّد السوري’: المغامرة العلوية التي تحمل بذور دمارها!!

محمد منصور : القدس العربي fua

ربما كان من حسن حظ مولف كتاب (التمرد السوري) الصادر حديثا عن دار (جداول) في بيروت بترجمة أحمد الشنبري، أن مؤلفه البروفيسور والأستاذ الجامعي الأمريكي فؤاد عجمي، هو لبناني الأصل وشيعي من أبناء الجنوب… وبعيداً عن هذا الانتماء، فهو يحمل في تاريخه العلمي والأكاديمي، سيرة حافلة بالعمل والبحث العلمي المعمق في تاريخ منطقة الشرق الأوسط، إلى درجة دفعت (شارلز هِل)، العضو البارز في معهد هوفر والرئيس المشارك في مجموعة عمل (هوبرت وجين داويت عن الإسلام والنظام الدولي) إلى التساؤل في معرض تقديمه لهذا الكتاب: ‘من يستطيع سوى فؤاد عجمي ان يصور هذه الحالة السورية الفريدة عبر العصور والطبقات ذات التعقيد السياسي الثقافي؟!’.
فهذا الانتماء وتلك السيرة، ربما يجعلان فؤاد عجمي بمنأى عن الاتهامات الجاهزة التي يمكن أن تجرها عليه هذه القراءة الشفافة، شديدة الجرأة والوضوح التي يقدمها للواقع السوري الذي أنجب الثورة، والتي قد تصطدم تصادماً عنيفاً، مع تلك (الرومانسية الوطنية) التي ينظر فيها الكثير من المثقفين أو غير المثقفين المنضوين تحت لواء الثورة السورية الحالية، حين يرون أن حكم الأسد، لم يكن حكماً علوياً طائفياً خالصاً، وأن الشبيحة ينتمون لكل الطوائف، وأن: (الطائفة الكريمة) بريئة من آثام هذا النظام ماضياً وحاضراً!

شعب ذو كرامة!

يلخص فؤاد عجمي في البداية رؤيته لهذه الثورة بعبارات مقتضبة وبليغة تلتمع في ثنايا نصه السردي البديع، المفعم بالمعلومات والأفكار والاستنتاجات التحليلية التي تقودها قراءة منهجية لتناقضات واقع تاريخي حافل بالصراع والاستبداد والفساد. يقول في الفصل الأول من الكتاب الذي حمل عنوان (الوارث):
‘إن السوريين الذين عانوا كل بلاء، لم يريدوا أن يُحكموا بأطفال بشار، بالطريقة نفسها التي حُكموا بها من قبل بشار، او كما حكم آباؤهم من قبل والد بشار’ ويتابع في موضع آخر:
‘أراد شعب ذو كرامة شيئاً أكثر من هذا النظام الكئيب القائم على الديكتاتورية والنهب’ موضحاً قبل ذلك:
‘هناك قوة لا تقاوم اصدمت بشيء لا يمكن تحريكه. لم يستطع النظام أن يخيف السكان، والناس لم يستطيعوا التخلص من هذا النظام المتغلغل الذي بناه الأسد الأب، كأكثر دولة أمنية مخيفة في الشرق العربي’.
ولكي يدرك القارئ كيف بنى الأسد الأب هذه الدولة الأمنية المخيفة التي غدت ‘شيئا لا يمكن تحريكه’ حتى عندما تصطدم بقوة احتجاحية هائلة، لا بد أن نفهم التركيبة الدينية والتاريخية للعصبة التي قام عليها هذا النظام، كما يفعل فؤاد عجمي حين يذهب في الفصل الثاني من الكتاب الذي يحمل عنوان: (وقدم أهل الجبل) إلى دراسة تاريخ العلويين وجغرافية بيئتهم وطبيعة عقائدهم، وكيف قفزوا إلى السلطة.

عزلة صنعتها العقيدة!

يرى فؤاد عجمي أن التاريخ لم يكن (رفيقاً بالعلويين) فقد كانوا جماعة جبلية انعزالية وفقراء، وظهروا كفرقة منشقة عن المذهب الشيعي منذ أكثر من ألف عام، وأن فقهم كان: ‘خليطاً من العناصر الأفلاطونية الجديدة والغنوصية المسيحية والإسلام والزردشتية’ ويوضح أن عقيدتهم التي كانت في نظر السنة والشيعة معاً تتسم بالغلواء الشديد بسبب تقديسهم لعلي الذي تجاوز حدود الإسلام، لم تستطع أن تجد موطئ قدم لها إلا في الجبال المنعزلة: ‘كان الموطن الجبلي المكان الآمن لكي يعيشوا ويمارسوا عقيدتهم. كان للنصيرية موطئ قدم في بغداد وحلب ولكن هؤلاء اختفوا بسرعة’.
العقيدة التي لم تستطع أن تصمد في مدن حضرية، وجدت في التقية ضرورة أساسية لها. ليس التقية مع المحيط فحسب بل مع كل زائر يحاول أن يعرف: ماذا يعبد هؤلاء؟! ويستحضر فؤاد عجمي صورة لهذه الجماعة في منتصف القرن التاسع عشر يصفها بأنها: (لا تمحى) وجدها في كتاب (البلاد والكتاب) لمؤلفه الأميركي (و. دبليو. أم. تومسون) الذي حرره عام 1857 ففي إحدى رحلاته إلى سوريا وفلسطين وصل إلى جبال النصيرية ووصفهم بأنهم كانوا لغزاً بالنسبة إليه.. ومميزي الخلقة، يختلفون بشكل جذري عن العرب وكأنهم ينتمون إلى جذور مختلفة، كان من المستحيل التأكد من عددهم وقد قدر عددهم بـ ‘أكثر من مئتي ألف’ وقد وصف المهارة التي يستخدمونها لتجنب أي تخمين عن أسرار ديانتهم بأنها ‘أمر أثار دهشته دائماً’ وقد استفسر تومسون من رجل عجوز من هذه الجماعة عن نوع الناس الذين يسكنون هذه الجبال فأجاب: ‘آه.. فلاحين’. كان تومسون يعرف أنهم فلاحون، ولكن كان يسأل عن عقيدتهم، أجابه العجوز: ‘دين! ما حاجة الفلاحين للدين؟’ كان تومسون أكثر إصراراً، وسأله: ‘من هو النبي الذي تتبعون؟’ أجاب العجوز: ‘إلى حد ما نحب علياً.. وكذلك نحب عيسى المسيح’ هذه الملاحظة حول عيسى المسيح قالها بعد أن ذكر له تومسون انه مسيحي، وقال أنهم يحبون عيسى المسيح وأن: ‘ديننا مذكور في العهد الجديد’!
خلال القرن التاسع عشر نزل النصيريون إلى السهول ليزرعوا الأرض للملاك الغائبين في اللاذقية ومقاطعة حماه. ويقول عجمي: ‘كانوا دائماً ينزلون ولا يصعدون أبداً، كان ذلك تعبيراً عن بؤس حياة الجبال’.

إهمال العثمانيين واحتضان الفرنسيين!

عندما وجد العثمانيون النصيرية في عزلتهم نعتوهم بـ ‘الملة الضالة’ كان من العبث أن يحاول العثمانيون إدخالهم في مجتمعهم، فبعد حملة أو حملتين، تركوهم في سلام… وعند انهيار الإمبراطورية العثمانية لم يحظَ النصيريون بأكثر من تغيير اسمهم إلى اسم أفضل فصاروا (العلويون). وعندما وصل الانتداب الفرنسي اختص سوريا ولبنان بسياسة واضحة تجاه الأقليات، سياسة (فّق تسُد) فمنحت دولة للعلويين وأخرى للدروز. يقول المؤلف مستشهداً بالمؤرخ ألبرت حوراني: ‘استمتعت المشاعر العلوية بهذا الاستقلال الذاتي وأرادت أن تبقى بعيدة عن القوميين في دمشق’.
لم تستطع فرنسا أن تلتزم بوعود الاستقلال التي أعطتها للأقليات. ففي عام 1936 وضعت الاتفاقية الفرنسية – السورية حداً لاستقلال هاتين الجماعتين، بعد أن حصلت النخب السياسية الوطنية التي خاضت معارك الاستقلال السياسي على مبتغاها. ولهذا يناقش فؤاد عجمي هذه المرحلة المفصلية من تاريخ العلويين بطريقة خاصة يقول:
‘لا زال هذا التاريخ موضع جدل. فالنخبة القومية في دمشق تكتبه بالمعيار المألوف المتوقع: إن الإرادة الوطنية قد تغلبت، ومخططات القوة الخارجية أحبطت. ولكنه كان تاريخاً أكثر تشويشاً: ليس هناك رأي موحد في الجبل العلوي او جبل الدروز. كان هناك اتحاديون رحبوا بالنظام الجديد وكانوا منجذبين للقومية السورية وقد توصلوا إلى هذه المشاعر من خلال قراءة واقعية لتردد فرنسا وتذبذبها. ولكن ثقل التفضيل كان مع الاستقلال الذاتي تحت الحماية الفرنسية. لم يكن لديهم ثقة بأن النخبة الحضرية ستمنحهم العدالة والاهتمام، فبالنسبة إلى الأغلبية بين الجماعات الصغيرة كانت هذه القومية غطاء لسيادة السنة ‘ويضيف في موضع آخر’ إن المشاعر العلوية المعادية للسنة لم تكن مجرد امتعاض فكري تجاه مركز سياسي بعيد، وإنما ضغينة حقيقية جداً’ ولعل ما يؤكد تلك المشاعر، العبارات التي تضمنتها العريضة التي رفعت إلى فرنسا، والتي وقعها ستة من أعيان العلويين متوسلين عدم خروج فرنسا من سوريا وعدم إنهاء دولتهم: ‘إن الحكم البرلماني الذي وعد به القوميون ليس أكثر من مظاهر كاذبة لا قيمة لها، إن روح العداء المغروسة في قلوب العرب المسلمين عن كل شيء ليس مسلماً لا تقدم للعلويين سوى التهديد والتسلط والإبادة’… وصولا إلى النص الأكثر إثارة الذي يتحدث فيه العلويون عن اليهود بالطريقة التالية:
‘هؤلاء اليهود الطيبون في فلسطين قدّموا للعرب التحضر والسلام ونثروا الذهب وأسسوا الرخاء في فلسطين بدون ان يضروا أحداً أو يأخذوا أي شيء بالقوة، ومع هذا أعلن المسلمون الحرب المقدسة ضدهم، ولم يترددوا في قتل نسائهم وأطفالهم’!!
حين يعرّف فؤاد عجمي بأحد الموقعين على هذه العريضة وهو سليمان الأسد والد حافظ الأسد شخصياً، يعلق بالقول:
‘لم يكن سليمان الأسد وهو يناشد قوات الانتداب ضد وحدة سوريا، أن يتخيل الانتصار الذي ينتظر ذريته’.

سوريا بعد الاستقلال: محاولات الدمج!

يعترف فؤاد عجمي أن النخبة الحضرية التي سيطرت على سياسة الدولة السورية الناشئة (ويقصد بها الحكم الوطني المديني بعد الاستقلال) لم تقدم تنازلات للأقليات… لكنها في الوقت نفسه لم تمارس اضطهاداً أو عزلاً، بل على العكس من ذلك عملت على دمج العلويين في المجتمع:
‘إن النخبة الاتحادية أصرت على أنه لم يكن هناك شيء خصوصي أو مختلف حول العلويين أو الدروز او الأكراد. جميعهم سوريون كغيرهم، فهم عرب حقيقيون ومسلمون ولكنهم تخلفوا عن الركب، ولكنهم مع الوقت والتعليم سوف يندمجون في المجتمع الكبير’.
الروح القومية العلمانية التي تميز بها الحكم الوطني، مضافاً إليها هديتين حصل عليها العلويين: الأولى: فتوى الشيخ أمين الحسيني مفتى القدس التي صدرت في حزيران/ يونيو عام 1936 والتي تشير إلى أن العلويين حكماً مسلمين ولذلك يجب قبولهم بالكامل من قبل كل مسلم، وهذه الفتوى كما يعلق مؤلف الكتاب: ‘لم تكن أبدا لتقلقه فقد كان اتجاه المفتي دائما نحو الوحدة العربية’ أما الهدية الثانية فقد جاءت من الفرنسيين الذين جندوا الكثير من العلويين في جيش المشرق بعدما احتقر السنة الخدمة العسكرية وكانوا في غنى عنها… كل هذه العوامل او (الهدايا) مهدت الطريق لاستيلاء الأقلية على السلطة. ويعلق المؤلف هنا بالقول: ‘وبمجرد مرور عقدين بعد الاستقلال، كان مقدرا للجيش أن يكتسح حكم أعيان السنة وطبقة البيروقراطيين. كان النظام السياسي جاهزاً للاقتطاف وهؤلاء الرجال الجديدون القريبون بشكل خطير من بؤس الريف، لم يكن هناك ما يخسرونه.’
ويستشهد فؤاد عجمي هنا بدراسة فذة قدمها المؤرخ مارتن كريمر عن التمزق الجذري الذي انتهك الأوضاع الطبيعية: ‘ العلويون الذين كانوا ذات يوم فلاحين، حولوا محارثهم إلى سيوف، بداية أصبحوا ضباطاً عسكريين ثم استخدموا آلات الحرب للاستيلاء على الدولة. بالنسبة إلى السنّة كان ذلك اغتصاباً. كانت سوريا ميراثهم، وادخلوا العلويين إلى مشروعهم القومي، والان أصبح الغرباء سادة البلاد’ يضيف كريمر: ‘صعود العلويين أوقع السنة في حيرة فقد غدرت بهم أيديولوجية العروبة التي صنعوها بأنفسهم’.

سوريا البعثية: ثلاثة انقلابات سوداء!

الفصل الثالث من الكتاب: (زمن المؤسس) يكاد يكون أهم فصول الكتاب… لأنه يحلل بدقة كيف استولى حافظ الأسد على سورية ثم ورّثها لابنه. يطلق فؤاد عجمي لقب (سورية الجديدة) على سورية الانقلابية التي ولدت بعد انقلاب البعث في الثامن من آذار عام 1963. ليست جديدة بالمعنى الحضاري بالتأكيد، بل في شكل السلطة التي كان يجري التأسيس لها، والتي يرى أنها: ‘ولدت من فوهة البندقية’ ولكن البندقية التي حضرت في الانقلابات السابقة منذ عام 1949، أضيف لها هنا الأيديولوجيا: ‘أيديولوجيا حزب البعث لعبت دورها، أعطت الرجال الجدد اللغة التي يحتاجونها لإخفاء طموحاتهم الشخصية والطائفية’.
يميز عجمي في هذه المرحلة ثلاث انقلابات صنعت قيم السلطة الجديدة:
الانقلاب الأول 1963: كان خليطاً من الحماس الأيديولوجي والطموح، حيث تلاقى الضباط البعثيون والمنظرون الأيديولوجيون لقلب نظام الامتيازات القديم رأساً على عقب. نفذ ذلك الانقلاب رجال من أصول ريفية: إسماعيليون ودروز وعلويون وسنة من الطبقات الصغرى في المجتمع. كانت هناك العديد من الحركات الأيديولوجية المتصارعة والمتنافسة على توجه البلاد: ناصريون وشيوعيون والمؤمنون بقومية سوريا الكبرى، ولكن البعث انتصر.
الانقلاب الثاني 1966: كان مؤامرة داخل حزب تآمري. تم دفع المؤسسين جانباً، ثم طرد الأسطوري ميشيل عفلق من الحزب الذي خلقه. وقد ترك سوريا للأبد معلناً على الأشهاد أن ذلك البعث ليس بعثه، وهؤلاء الجنود ليسوا جنوده. صعدت إلى السلطة سلالة جديدة محدودة الأفق. سيطر ضابطان علويان (صلاح جديد وحافظ الأسد) على الصرح العسكري البعثي. هذان الرجلان والضباط الذين تحلقوا حولهم كما يصفهم مؤلف الكتاب – لم يعرفوا ثقافة وأساليب المدن السورية، فضلا عن باريس. أيديولوجياً: كان ذلك نظاماً متزمتاً ومعادياً للتجار والأعمال الخاصة في البلاد، وشرهاً ومتهوراً تجاه الشؤون الدينية والإقليمية. كانت طائفية النظام آنذاك بالكاد خفية: دفع العلويون الضباط الدروز والإسماعيليين جانباً، ولكنهم تركوا بعض المجال لأولئك المستعدين من بين السنة لقبول واقع سلطة العلويين. ولكن هذا النظام البعثي الجديد كان مقدراً له الانتهاء من الداخل: فالنزاع بين حافظ الأسد وصلاح جديد انتهى لصالح الأول. خلع (جديد) بذته ووضع سلطته داخل جهاز الحزب، أما (الأسد) الأكثر دهاء فقد اختار البقاء داخل الجيش وفرق الضباط، كان تبرير استيلائه على السلطة أنه (حركة تصحيحية) ضد صلاح جديد والمتزمتين!
الانقلاب الثالث 1970: قاده حافظ الأسد. الذي وفر لبلاده الاستقرار، لكن الثمن كان فادحاً.

أقوى هجاء لحكم الأسد الأب!

يقدم فؤاد عجمي في سياق تحليله للانقلاب البعثي الثالث، أفضل وأعمق تحليل لشخصية حافظ الأسد وأقوى هجاء لنظام حكمه على الإطلاق، ما سيدفعنا للوقوف في اقتباسات طويلة، تصلح لرسم بورتريه نقدي لمن اندفع السوريون في ثورتهم الحالية لتكسير تماثيله، يقول:
‘شعر السوريون آنذاك بالارتياح لثباته وانضباطه، ولكن ذلك كان تبريراً؛ وفي الواقع لم يكن سادياً في لجوئه إلى العنف، لقد كانت هناك منهجية لوحشيته وهدوء، وتعمدية في شخصيته نفسها. يقول الذين تعاملوا معه إنه لم يسبق له أنه رفع صوته ولم يكن يلجأ إلى الصراخ والتهديدات الفارغة. كان على الأحسن متحدثاً عاماً متوسط المستوى. لم يكن لديه الكثير من الحيوية والحماس خلال العقد الأول من حكمه، فوّض أمور الوحشية إلى أخيه الأصغر رفعت الذي لم يتورع عن العنف والانحطاط الشخصي. كان قد أسس لنفسه كياناً على صورته وفعل ذلك في مكر وقسوة متساويين. بنى ذلك على خلفية الحرب الباردة على نمط ديكتاتوريات أوروبا الشرقية والكتلة السوفياتية. كان هناك اضطرابات ومؤامرات واستيلاءات عسكرية على السلطة في تاريخ سوريا بعد الاستقلال، فقام بإنهاء ذلك. في دولة الأمن القومي لهذا الحاكم العسكرين وشى الابن بعائلته، وفضحت الزوجة أسرار زوجها، وعشرات الألوف أرسلوا إلى السجون السياسية، وانتشر نظام الرعب في كافة أنحاء البلاد من أكبر المدن إلى أبعد القرى’.
يتابع فؤاد عجمي تحليل شخصية حافظ الأسد ونتائج حكمه في موضع آخر فيقول:
‘حافظ الأسد حطّم بلاده، وخلفيته العلوية غذت وحركت الإرهاب. كان ابن فلاحين وانشقاقي. كانت دمشق عاصمة السلالة الأموية، مستودع العقيدة الحضرية السنية التقليدية. كان ذلك حين أحرز أولى انتصاراته عندما اندفع [الإسلام] خارج الجزيرة العربية. الأمر الذي له أهمية لانطباع سوريا عن نفسها. كانت هناك أقليات، لا أقل من 18 طائفة وجماعات عرقية، ولكن فخر المكان كان للمدن الرئيسة: حلب وحمص وحماه، وللعقيدة السنية التي غلبت على هذه المدن. كانت طبقة التجار وأعيان المدن وعائلات المسوؤلين في الدولة تعتبر سيادتها أمراً مسلماً به. لم يخطر ببال السنة بأن عسكرياً علوياً من خلفية فلاحية سوف يحكم المدن الأبية المفعمة بالحياة. كان صعوده إلى السلطة بداية من 1960 حذراً للغاية. اختبأ وراء رجال السنة كواجهة له، وبذل جهده لتطمين عائلات التجار الكبار بان مصالحهم ستكون محمية من قبل نظامه، وأنه يمكن الاعتماد عليه ضد الأيديولوجيات المتطرفة في حزب البعث والجيش. ولكونه كان دائماً على وعي بالإساءة التي تمثلها خلفيته العلوية لدى المحافظين من السنة، فقد حصل على فتوى من حليف في لبنان: الإمام موسى الصدر، بأن العلويين جزء من الشيعة الإثنا عشرية. (…) إن تقديس الإمام علي والذي هو أساس للعقيدة العلوية تم ضبطه، وحاول الحاكم نفسه أن يعمل المستطاع ليبدو منسجماً مع الممارسات السنية. كان يصلي في العلن، ويتناول إفطار رمضان برفقة علماء الدين، وأظهر التقوى المتوقعة من رجل أتيحت له الفرصة ليحكم مدينة ذات أهمية قصوى للإسلام مثل دمشق’
يتابع فؤاد عجمي تحليله الهام لكيفية سيطرة حافظ الأسد على المؤسسة الدينية فيقول:
‘ طوّع حافظ الأسد المؤسسات الدينية السنيّة لتكون تحت إرادته. فأعطى الفقهاء ميزة، ولكنه حدّ من دورهم السياسي. أكد الفقة السني على طاعة الحاكم وتحاشي الفتنة. وتقيّد الفقهاء السنة الذين عينتهم الدولة بذلك المبدأ. كان مزاج الجهاز الديني الرسمي قد شكّله رجل من نقابة رجال الدين، والذي تم تعيينه مقتياً أكبر للجمهورية عام 1964 يدعى أحمد كفتارو (1915 2004) والذي بقي في المنصب أكثر من أربعة عقود، وترقى في منصبه من خلال الرعاية السياسية، ولم يحظ بتعاطف أقرانه في المؤسسة الدينية. في عام 1971 أقدم على خرق فاضح غير مسبوق للمتعارف عليه حين قبل تعييناً في البرلمان. وقد قدم النظام وسيده العلوي الشرعية والدعم الذي احتاجه. ففي عام 1991 أعطى الإعادة الروتينية لانتخاب حافظ الأسد مسوغاً غير عادي واصفاً إياه بأنه: التزام وطني وواجب ديني’.

الأتاسي والغطاء السني!

يأتي المؤلف على ذكر الرئيس نور الدين الأتاسي، الذي أرسله حافظ الأسد بعد انقلابه (التصحيحي) إلى السجن، يقول عنه: ‘ كان [حافظ الأسد] في صراع مع صلاح جديد زميله الضابط العلوي، ونور الدين الأتاسي الطبيب ورئيس الدولة السني. الأتاسي في الحقيقة غطاء للقادة العلويين، كان الأمر أن الفائز يأخذ كل شيء في هذه اللعبة العنيفة. ثبّت الأسد حكمه وأرسل الرجلين الآخرين إلى سجن المزة. ‘ ويتابع المؤلف ملخصاً جوهر ما افرزه نظام الحكم العلوي كما يصفه ‘ يمكن القول بأن النظام بقاعدته الاجتماعية وجوهره العلوي، قد طبع دمشق بطابع ريفي. في واقع الأمر تقاطر أهل الريف على المدينة وكان هناك أيضا تحول ثقافي: استيلاء الفلاحين على السلطة’.
يمضي فؤاد عجمي في كتابه الشديد الثراء بعد ذلك، تحليل بنية النظام في عهدي حافظ وبشار الأسد، في تحالفاته الداخلية، كالتحالف مع السلطة الدينية، ومع التجار السنة من جهة، وإذكاء روح العداء للمدينة لدى الريف من جهة أخرى، أما تحالفاته الإقليمية، وصراعه الظاهري مع إسرائيل الذي جعله (شيطاناً مفضلاً) لديها، فتقود إلى تحالفاته للسيطرة على لبنان، ثم مأزق بشار الأسد فيه، وجريمة قتل الحريري، ومقايضاته الأمنية الفجة في الحرب الإرهاب، وصفاقة صفقاته مع أمريكا… دون أن ينسى تحليل جوهر السلب والنهب والفساد والطائفية، الذي طبع هذا الحكم، ووزع العلويين على أهم مرافق الدولة.. وكيف ولماذا فجر هذا الشعب الصبور الثورة أخيراً… لكنه قبل ذلك كله، ينطلق فؤاد عجمي في الفصل الأول من الكتاب، من تأمل فرضية ابن خلدون في مقدمته الشهيرة أن النفوذ من سلالة واحدة يدوم لأربعة أجيال قبل أن يتلاشى… فيذهب إلى القول: ‘ من المشكوك فيه، ما إذا كانت سلالة الأسد مقدراً لها ان تستمر لأربعة أجيال ‘ وإذا كان ذلك قد بات في حكم المؤكد بعد اندلاع هذه الثورة ضد ممثل الجيل الثاني من هذه السلالة، فإن عجمي يوسع الدائرة أكثر قائلاً في الصفحة (36) من الكتاب: ‘ إن حكم العلويين غير مقدر له أن يدوم، فبالتأكيد ينقص بشار مكر أبيه، ولكن المغامرة العلوية حملت في طاتها بذور دمارها’..

البراءة المتصلبة تلد الشبيحة!

وإذا جاز لنا أن نسأل مرة أخرى: لماذا بدت المغامرة العلوية تحمل بذور دمارها؟! فإن فؤاد عجمي سيخلص جوهر الصراع برمته في تحليله العميق لجذور نشوء هذا النظام، أو نشوء الثغرة التي سمحت لهذا النظام بالتسلل:
‘ لقد أظهرت سوريا بشكل سافر، ربما أكثر من أي أرض عربية أخرى، خلل الدولة العربية ما بعد الاستعمارية. الوحدة الوطنية كانت ادعاءً، والدولة نفسها كانت غنيمة بالغَلَبة. وأُديرت من قبل فئة حاكمة تستولي على كل ما يمكن أن تنتجه البلاد. ظن الشباب (الروم الأرثوذكس والسنة والدروز والإسماعيليون والعلويون) الذين اجتمعوا قبل عقود تحت راية البعث، بأنهم سوف يبنون شيئاً أفضل من نظام الإقطاعيين والتجار ورجال الدين. كتب الجيل الأول من البعثيين نعيهم لذلك الحلم المبكر بالمثالية السياسية. لقد انبثق الشبيحة بهراوتهم وبنادقهم من بطن تلك البراءة المتصلبة’ بصيغة أخرى… يستكمل فؤاد عجمي في الصفحة (50) من الكتاب، المشهد الذي كانت نهايته ولادة عصر الشبيحة بكلمات تنطق بلسان الأغلبية السنية التي يقول في رثائها:
‘مساكين أولئك الحرفيون والتجار الصغار ورجال الدين من مصائد حماه ودمشق: طائفة مارقة من الفلاحين استولت على وطنهم. كانوا ينظرون إلى الأمة من منطلق علماني، والآن يحاولون إعادة تعريفها على أسس دينية وإخراج العلويين من الملة ‘.
تفسر هذه الكلمات معنى الاستنتاج الذي وجهه المؤلف لحافظ الأسد في الصفحة (62) حين قال: ‘حافظ الأسد حطم بلاده وخلفيته العلوية غذت وحركت الإرهاب’.
أجل… لقد حطم حافظ الأسد بدهاء بالغ، ومن بعد ابنه بحماقة بالغة؛ إيمان السوريين بعلمانية الدولة الوطنية… ذلك الإيمان الذي ترجموه قبل حكم البعث واستيلاء العلويين على السلطة، حين انتخبوا مسيحياً هو (فارس الخوري) رئيساً حقيقياً لا شكلياً – للنواب والوزراء أكثر من مرة، وحين كان رئيس أركان الجيش (شوكت شقير) قبل انقلاب البعث من الطائفة الدرزية، لكن حكم الأسد دفعهم للارتداد إلى إعادة تعريف الدولة على أسس دينية.. ولا أحد يستطيع أن يلومهم في ذلك بعد أن رأوا خلال ثورتهم الأخيرة، أبشع صور الوحشية والطائفية والتعنت وامتهان الكرامات وانتهاك المقدسات، وهي تحاول أن تقف سداً منيعاً في وجه طموحاتهم باستعادة الكرامة، وتطلعاتهم باستعادة الوطن!

‘ كاتب وصحفي سوري مقيم في دبي

 
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.