لا تكف منطقة بعلبك – الهرمل، في البقاع الشمالي اللبناني عن امتحان «حزب الله». كانت هذه المنطقة، التحدي الأبرز للحزب، وعنها قال أمينه العام حسن نصر الله إنه مستعد للذهاب شخصياً إليها، لحشد التأييد وضمان الفوز. حماوة غير مسبوقة في مستوى الاعتراض الشيعي على أداء نواب حزب وممثليه، شهدتها هذه المنطقة، وصلت إلى حد محاولة طرد النائب والوزير حسين الحاج حسن من حسينية بعلبك. إذّاك لم يكن مستغرباً أن تشارك المدينة بأعلى نسبة اقتراع في تاريخها، من كل المجموعات المكونة لنسيجها الاجتماعي.
نجح التحشيد في حماية نتائج «حزب الله» المرجوة، ومنع الاختراق الشيعي من خارجه مستحوذاً على النواب الشيعة الستة، وسط اتهامات لا تخلو من الجدية بحصول عمليات تزوير، وقد وثق بعض ذلك بأفلام فيديو عن عمليات نقل غير مهنية لصناديق الاقتراع من الأقلام إلى مبنى البلدية.
لكن ما كتب قد كتب انتخابياً، من دون أن يخف إلحاح أزمة هذه المنطقة على الثنائي الشيعي.
ليس من باب الصدفة أنه يوم انتفض أهالي حي السلم، أحد أفقر أحياء الضاحية الجنوبية لبيروت، في وجه «حزب الله» نتيجة إزالة مخالفات بناء، ووجهت على الهواء مباشرة أقذع الشتائم لقادة الحزب، تصدر المشهد شاب من آل شمص، هو ابن هذه البيئة البقاعية الشمالية المحرومة والتي تفوق معاناتها، ما يعانيه آخرون.
وإذ يمم كل من «حزب الله» وحركة أمل شطر البقاع الشمالي، تظهرت صورة الأزمة أكثر فأكثر. فخلال خطاب أخير لنصر الله، في ذكرى حرب «تموز»، تداول نشطاء بعلبكيون على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لساحة بعلبك، وقد بدت فيها صفوف من الكراسي الفارغة، أمارة على تدني مستوى الحضور، بخلاف صورة خطابات نصر الله التي تُظهر عادة بحراً من البشر يتوافدون لمتابعته عبر شاشات ضخمة.
الموعد الثاني لبعلبك، كان مع خطاب رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل؛ نبيه بري، في الذكرى الأربعين لاختفاء الإمام موسى الصدر. كان لافتاً، بحسب نشطاء من أهالي المنطقة ومتابعين آخرين، طغيان الحضور الجنوبي على البقاعي الشمالي، وغياب البعلبكيين تحديداً عن مهرجان في عقر مدينتهم، وهو ما كان موضع تندر عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ليس الشكل والصورة وحدهما ما يشي بفداحة الأزمة في بعلبك – الهرمل. فسيل الوعود الإنمائية التي تغدق عليها غير مسبوق في تاريخ اللغة السياسية لـ«حزب الله» وحركة أمل، يقابله استثمار محلي لقوى صاعدة، أبرزها اللواء المتقاعد جميل السيد، تعمل على تأصيل هوية بقاعية شمالية وتأطير أزمتها بمعان ومفردات محلية وبناء عصب أهلي ومحلي خارج العصب الحزبي للثنائي الشيعي، مما دفع ببري للتحذير من «محاولات انقلابية» عليه وعلى حليفه.
تعلمت في واشنطن أن كل السياسات سياسات محلية بحسب عبارة شهيرة في الأروقة السياسية لعاصمة العالم، وهي إذ تصح على عاصمة كواشنطن وعلى خيارات قواها السياسية، فلا بد من أن تصح على بلد صغير كلبنان. بالبناء على هذه القاعدة، يُفهم استعجال «حزب الله» وحركة أمل لتشكيل حكومة، وإن كان استعجالاً مضبوطاً بأعصاب باردة، لا يعبر عن نفسه كثيراً منعاً للابتزاز وإظهار نقاط الضعف في معركة شد الحبال السياسية.
في هذا السياق، لم تفت المراقبين المحليين إشارة نصر الله في خطابه الأخير إلى ضرورة تأجيل البحث في ملف التطبيع مع سوريا بوصفه بنداً سياسياً على جدول أعمال الحكومة المقبلة أو بنداً من بنود البيان الوزاري، بغية تسهيل الولادة المستعصية حتى الآن. أما نائب نصر الله، الشيخ نعيم قاسم، فذهب بعيداً في توجيه الرسائل لحلفائه قبل خصومه المسيحيين، كي لا «يتوهم» أحد أن حجمه الوزاري في الحكومة المقبلة يقرره دوره وموقعه في معركة الرئاسة بعد رئاسة ميشال عون. ويعد كلام قاسم الإشارة الأوضح إلى ضرورة الفصل بين الحاجة لتشكيل حكومة الآن وبين المعارك الأخرى من رئاسية وغيرها، التي بوسعها أن تنتظر أو أن يتأجل الاستنفار السياسي بشأنها.
حاجة «حزب الله» وحركة أمل للحكومة اليوم تنطلق من حاجتهما لإقرار قوانين تعين على التخفيف من أزمة بيئتهما المتململة في بعلبك – الهرمل، وهي بيئة استراتيجية بديموغرافيتها الكبيرة، وتركيبتها العشائرية المتفلتة وجغرافيتها اللصيقة بسوريا، حيث يخوض «حزب الله» أخطر معاركه منذ تأسيسه.
الحكومة مفتاح لإقرار قانونين استراتيجيين؛ أول هو قانون العفو العام لطمأنة العشائر واستعادة السكينة إلى المجتمع البقاعي الشمالي، وثانٍ هو قانون تشريع زراعة الحشيشة، لحماية أرزاق أهل المنطقة في غياب أي خطط إنمائية جدية وآليات بديلة لخلق فرص عمل.
«العفو» و«الحشيشة» مقابل غض البصر عن النتائج الكارثية لحرب «حزب الله» في سوريا، التي في واحد من تجلياتها إغراق المنطقة بيد عاملة سورية منافسة في كل تفصيل حياتي.
يدرك البقاعيون أن عودة السوريين ليست قريبة، وأن نظام الأسد ليس في وارد تسهيل عودتهم، وأن المبادرة الروسية يحدوها الفشل من كل صوب، وأنهم على موعد دائم مع تردي أوضاعهم أكثر، وأن وظيفتهم كخزان شهداء أو طفار أو عاطلين عن العمل لا تنسجم مع خطاب الدفاع عنهم وعن كرامتهم.
المصدر الشرق الأوسط