جرت المعركة الانتخابية بين عالمَين (أكاد أقول لبنانين): المغلق، والمزروع بالجدران والتعصّبي والشعبوي والماضوي، والأحادي والظلامي، والعنيف، والسلاح، واللاقانون، وآخر مفتوح بالجسور والفضاءات والتعدّدية والحرية، بين حزب إيران المتحالف مع بشار الأسد (أحد أكبر مُجرمي الحرب في القرن الحادي والعشرين) وبين «المستقبل» وكسور 14 آذار، والسيادة، والمجتمع المدني السلمي، والاعتدال، و«لبنان أولاً».
إنها معركة بين ما هو لبناني – عربي مشرّع على العالم وبين ما هو مُهجن، (من إرثِ ميليشيات الحروب والتقسم). هكذا دارت الأمور فوق السطوح وفي الكواليس.
وبين العالمَين مرشّحون مدنيّون مخلصون لمجتمعهم، وآخرون خرجوا من انتماءاتهم على مبادئ «لبنان أوّلاً»، أو تعثّروا في اختياراتهم، أو انقلبوا على سعد الحريري.
بين أهل الوصايتَين، وبين معظم هؤلاء، رغبات ساقت أصحابها، ومن أجل مقاعد نيابية غير مضمونة، «علاقات» خفيّة توحي كأنّهم، في انقلابهم غير المفهوم، وترشيح بعضهم «المجاني» والأناني خدموا طوابير الحزب.
وكان ما كان.. انتُهشت قواعد من تيار المستقبل، وقُرضت أصوات، أدّت في بعض المناطق، إلى «تراجع» أعداد الفائزين هنا، وتمرير مرشّحين سرق بعضهم شعارات «المستقبل»، لينفيها، وتسلّل بعضهم من ذوي المال المحصود من تجارة الأسلحة والمخدرات.
وهذا يعود أصلاً إلى أنّ البيئات التي خاضوا فيها المعارك، ليست لا فاشيّة، ولا كانتونيّة بل مفتوحة، بلا تهديد، ولا ترويع، ولا اعتداءات ولا تخوين.
كأنّ المعركة حصلت بين بيئتَين، واحدة قُمعَ فيها كلّ من يصبو إلى تعديل مواقفه من ممارسات «حزب الله»، وعدوانه على الشعب السوري، وأخرى بقيت طُرقهم مفتوحة.
وعندما أعلن «حزب الله» انتصاره (أوّلاً على لسان إيران!) وثانياً على لسان فلول النظام السوري، كان هناك لبنان ينتصر، بقيَمِهِ الديموقراطية، ويحتفل بحدوث الانتخابات، (وإن في القانون الجديد)، وبنجاح تحدّياته في رفع صورة البلد التي شوّهتها ميليشيات حزب سليماني، وقبلها نظام «البعث» المشؤوم.
مواجهة سلمية
انتصر لبنان بواجهته السلمية، وتعدّديّته، و«انتصر» الآخرون لاعتقادهم أنهم شوهوا هذه الصورة: عودة بعض رموز المستجلبين للمحكمة الدولية، والإمعان في شدّ قبضة القمع على بيئتهم. عالم لبناني وآخر مستورد. عالم يريد ضرب الكيان اللبناني، وآخر يدافع عن تاريخه، وطموحات شبابه، وأحلام ناسه.
الأقلية «أعلنت انتصارها»، ظنّاً منها، أنّ الآخر الممثّل بالحريري قد تلقى «صفعة». بين المصفوعين لنجاح تجربة لبنان المتحرك إلى قيَمِه وبين ثقافة الصّفع، بين مَنْ خرجوا من الانتخابات ليبدأوا الهيمنة الشرعية، وبين الذين خرجوا منها للدفاع عنها، وعن الدولة، والمؤسسات، والجمهورية.
وعندما يحتفل سعد الحريري بانتصاره، لا يعني فقط انتصار تيّاره، برغم كل الضغوط، والعقبات ومحاولات الإقصاء من كل لون فقط، بل لأن مشروعه وجهوده لحصول الانتخابات قد نجح.
فاز الحريري مع كل لبناني تمكّن من ممارسة التصويت من دون قمع، ولا تزوير، ولا شراء الذِّمم، مع كل لبناني يؤمن بهذا البلد، وبتعدّديته، وبخصبه، واستقراره.
فاز الحريري بالقيَم التي ترشّح على أساسها، وترشّح اللبنانيون على ضوئها؛ من مستقلّين، ومن أفراد وجماعات من المجتمع المدني، ومن شرائح شبابية ونسائية، ناضلت من أجل أن تحتل مواقعها في اللعبة السياسية. أراد الحريري أن يقول للعالم ها هو «لبناننا» ينتخِبْ، وها هو لبناننا يصنع انتخابات هادئة، بلا عنف، ولا كراهية، بل للتنافس الحرّ.
أراد أن يقول للعالم، هذا هو لبناننا الحضاري المنفتح، والحيّ، والمكتظّ بالمواعيد والانتظارات.
لا أنكسر
بل أراد أن يقول لمن أرداوا تصفية الحسابات معه، (من الداخل ومن الخارج) وعملوا بخبث ضدّه في مناطق عدّة، ليكسروه خصوصاً بعد المدّ الشعبي الذي زحفَ نحوه في كل لبنان: «أنا لا أنكسر». إنه «العنفوان» الحقيقي (لا العنفوان الزجلي والتصفيق). المستند إلى إيمان الناس به، كرجُلِ دولة، ورجل سياسي من طراز جديد. كثيرون هلّلوا لأنهم رأوا الأمور من زاوية ضيّقة عددية: أعداد كتلته الانتخابية تراجعت في بيئته، لكنّ الحريري يرى الأمور من منظار آخر: لو لم تكن بيئتي حرّة كما أردتها دائماً، ولو كانت محكومة بنظام الحزب الواحد الكانتوني، الفاشي، لصادرت الإرادات، كما هي الحال في بيئة حزب الله المنكوبة به، لكنت فزت بجميع المرشحين، كما فاز حزب الله بالترويع، والمال، وبونات البنزين، والرشاوى، والضغوط.. بيئتي حرة وهذه نعمتي. انتصرت بانتصار القيم التي أمارسها بعلاقاتي المدنية الديموقراطية معها، ولأنني أعتبر أن الانتخاب حق شرعي لكل مواطن، فكيف أحرمه من ذلك، وأصادر صوته، كما فعل حزب «الانضباط»، الذي حوّل «مجتمعه» ثكنة عسكرية، تُخضع ناسه، وتروّعهم وتخونهم وتسوقهم إلى الحروب لتسرق أرواحهم ودماءهم وتقدمها إلى إيران.
احتفال مزدوج
الحريري يحتفل بانتصار مزدوج: مواجهته وحيداً كل مَن هبّ ودبّ، وخروجه، بكتلة متجانسة، غير مستعارة، وغير مصادرة، وبانتصار ما يعمل له منذ سنوات مستنداً إلى إرث والده، وإلى تجربته التي نضجت، وتبلورت، واكتنزت بالدروس والعبر.
ومن الطبيعي القول إن انتخابات 6 أيار، ليست 7 أيار جديد بمردودها، هذا ما يروجه دعاة الهيمنة، والعقول الأحادية. بل هي من ظواهر مستجدة في حياتنا السياسية، حيث رفع الحريري الصراع من كانتونية مذهبية إلى فضاء أوسع؛ من مكاسب ضيقة، إلى مكاسب أرحب: ليس المهم التساؤل مَن ربح هنا أو فشل بل الأهم: هل ربح لبنان في هذه التجربة أم لا؟ كيف رأى العالم هذا البلد الصغير في تجربته الصعبة، محاطاً بحروب ودمار وجمهوريات متهاوية، وتهجير وقتل، وكراهية؟ كيف يرى العالم هذا البلد الصغير، «ينجو» بديموقراطيته، وسلميته، وكيف توسعت القواعد الشعبية المدنية، في غضون السنوات العشر الأخيرة؟ العالم الذي يخاف على هذه الواحة النادرة في محيطه، معجب بهذه المغامرة التي خاضها بكل وعورتها. بل يهم الحريري صورة لبنان في العالم، هل يكون على شاكلة المتطرفين والمتعصبين، وأصحاب الهويات الأحادية، ومنتجي العنف، والغريزية، واللاعقلانية، والمذهبية، والأيديولوجيات القاتلة.
من هذا المنظار، ليس من المُستغرب أن يحتفل الحريري بانتصاره. لكن أي احتفال؟ ذلك أن طبيعة الاحتفالات بـ«النصر» (خسر حزب الله مقعدين رغم اتهام المرشح يحيى شمص بالتزوير)، تدل على سيماء أصحابها.
أفلت «حزب الله» بقرار وربما بفتوى شباناً ربّاهم على الحقد والعنف، على شوارع بيروت، يعيثون فساداً وتخريباً واستفزازاً وعدواناً على الآمنين، يرفعون شعارات من صلب ما تعلموه: شتائم لرموز دينية، اعتداء على تمثال الشهيد الرئيس رفيق الحريري، وإهانة للناس كأنه احتفال بالكراهية أكثر من كونه احتفالاً بالنصر. وقد وسّع الحزب مواكبه «المريضة» إلى مرجعيون وشبعا وبعض القرى الجنوبية وصولاً إلى زحلة ليروّع سكانها، وأهليها، بطرق لا توحي سوى بالوضاعة والجبن.
هذه هي صورة احتفالات الحزب السوداء، الفوضوية، ضدّ الناس وضدّ الدولة، وضدّ القوانين، كأنما جاؤوا ليقولوا «انتصارنا هو 7 أيار الجديد» الانتخابي. وهذا أعاد ذاكرة الناس إلى تلك الغزوة قبل عشر سنوات على بيروت.
وليس بجديد أن يحتفل حزب الله بنصر لم يحققه. فقد سبق أن احتفل بانتصاره على إسرائيل بعد حرب 2006، متجاوزاً واقع ما كبّده للبنان من خسائر مادية وبشرية (3770 قتيلاً وجريحاً)، ومليارات الدولارات، مقابل 70 قتيلاً من العدو الإسرائيلي وخسائر لا تتجاوز بضعة ملايين من الدولارات! انتصر الحزب إذاً وخسر لبنان. وهذا ما تعلمه من حليفه البعثي، الذي أعلن انتصاره على إسرائيل بعدما قدم لها الجولان.. وأنقذ نظامه: انتصر الحزب والنظام واحتلت الأرض!
فيا لهذا الانتصار: الحزب مقابل الأرض، والنظام مقابل البلد.
احتفالات الأسد
وما بات أليفاً، أن حزب الله وارث الديكتاتورية الفارسية، وطغيان آل الأسد، أن يحتفل كل يوم بالنصر: هُزم في سوريا شرّ هزيمة (مع إيرانه)، وجاء ليكمله في لبنان تعويضاً، بعدما أعلن فوزه على الشعب السوري مرات.. وعلى الإرهاب (الذي فبركه مع إسرائيل وبشار وخامنئي): ليتبين بعد ذلك، أن إيران تستنجد ببوتين، الذي جاء وحصد كل مكتسبات «الحرب على سوريا».
إذن تعودنا انتصاراته، وتعودنا احتفالاته الشعبوية، والفوضوية والاستفزازية لأنها من طبائعه الثابتة ومن عدة شغله، تصوير لبنان، في حالات الفوضى والخراب.
ولو رأينا كيف احتفل أهل عكار والمنية بانتصار الحريري، بالغناء والرقص والفرح، فسوف نرى الفارق بين طبيعتين، وأيديولوجيتين: الكراهية والعنف وثقافة الموت، تقابلها، احتفاليات السلم والمدنية والحضارية. إنه فضاء مزدوج، يدل على حقيقتين متناقضتين، ولبنانين مختلفين.
وها هو الرئيس سعد الحريري يحتفل «بانتصاره» ونقصد أيضاً انتصار لبنان الحضاري، المتفتح، الديموقراطي، الدستوري، انتصار الدولة، والجمهورية في مواجهة حزب اللادولة واللاجمهورية، ولا اللبنانية ولا العربية. بل دعونا نتذكر كيف كانت جولات الحريري في مناطق لبنان: آهلة، ومأهولة، ملأى بالمشاعر الجياشة، وبحرارة اللقاءات، وبرش الأرز والورود، والقبلات. (الورد شيء لا يعرفه جماعة الحزب في مختبرات الرصاص والقتل والفجائع)! من بيروت إلى طرابلس إلى عكار، إلى عرسال إلى شبعا.. مواكب سلمية بعشرات الألوف تستقبل زعيماً يشبهها وتشبهه، مصرّة معه على السلم الأهلي، وعلى لبنان «وطناً نهائياً» وعلى إعلاء الدولة وجيشها.. والعروبة. مواكب متجذرة في أرض لبنان، طالعة من فوح ترابه، ومن تاريخه، ومن مستقبله.
نعم، عالمان مضادان، واحد بلا وطن، سوى انتماء مستعار، ومبيع، وآخر حُلم كبير بدأ يتحقق، بإجراء الانتخابات بالطرق الديموقراطية، وكذلك بكسر الحريري كل المحاولات لإقصاء وجوده (والسنّة منه) من اللعبة السياسية، وخروجه من الانتخابات بحصيلة جيدة، وبكتلة وازنة! كل ذلك يعني أن الإقصائية فشلت.. بكل أسلحتها وأن الحريري ما زال الزعيم الأول لبيئته، وللبنان، السيادة، والحرية، والعدالة!