لم أتحمل العنف حتى في السينما. تعلقت بهذا الفن الجميل منذ طفولتي، وكنت أشاهد أي فيلم متيسر، لكنني لم أقبل أن أشاهد
يوما فيلما من «أفلام الرعب»، ولو أن الأمر سينما. وكتبت كثيرا، مع من كتبوا، ضد ثقافة العنف التي نشرتها السينما الأميركية، لأنها بسَّطت أمام البسطاء فكرة الموت والقتل، ولم يؤثر ذلك على المجتمع الأميركي وحده بل على جميع المجتمعات. وأطلقت المفكرة الألمانية حنة أرندت على القتل الجماعي وصفا ذهب مثلا هو «تسخيف الشر». بمعنى تبسيط الجريمة.
كانت الجريمة عند العرب حدثا اجتماعيا، لا فرديا. القاتل لا يُلزم نفسه فقط بما فعل، بل يُلزم عائلته وعشيرته ويحلل الثأر منها. وليس في ذلك عدل طبعا، لكن فيه ردعا. المهم ألا تبسط فكرة القتل، وأن تتذكر دائما أنها جريمة لا نزهة، وأن فيها موتا عندك كما عند سواك: فجيعة مقابل فجيعة.
كانت مساهمتنا في تسخيف الموت وتبسيط القتل أكثر من جميع مسوغات العنف، السينمائية وغيرها. صار حزّ الأعناق المتلفز رسالة سياسية. وصارت المدن المُدمَّرة مشهدا يوميا رتيبا لم يعد يتصدر نشرات الأخبار. والانفجارات التي كانت مشهدا يوميا في العراق انتقلت إلى المساجد والمكتبات في لبنان ومصر.
لا أحد يستطيع أن يضبط أو يحصر ثقافة القتل والموت في بلد أو مدينة أو شارع. تبادلت بعض أحياء بيروت وبعض أحياء طرابلس تقديم الحلوى في الشوارع ابتهاجا بالقتل المُتبادَل. ثم ازدادت الحلوى انتشارا مغمّسة بالدماء ومعفّرة بالتراب. هذا ما يحدث عندما تتساوى قيمة الحياة والموت ولا يعود هناك حوار إلا بالقنابل والكره، وتتحلل المجتمعات والدول، وتتحول قيمها وأخلاقها ونظمها إلى موت هائل وقتل متنقل.
نحن اليوم عنف العالم ودماره وعبثه الدموي. لم ننتبه مبكرا إلى أنه وباء مثل الهواء الأصفر تحمله الريح في كل اتجاه. قدَّر كاتب أميركي مرة أنه إذا أطلقت بلاده السلاح النووي فلا حاجة لأحد بالرد عليه. هو وحده يكفي لخنق الأرض برمَّتها. الذين باركوا العنف أو تجاهلوه أو سروا به عند غيرهم، أو تاجروا بمواكب الجثث القاتلة أو المقتولة، يكتشفون اليوم أن الهواء الأصفر يذهب في كل الاتجاهات. تُحارَب الأوبئة بالتلقيح. وفي الماضي كانت تُحارَب بالعزل. كل مهاجر إلى بلد يبقى في المعزل 40 يوما إلى أن يتم التأكد من صحته.
مشاهد التفجيرات في مصر جزء من الهواء الأصفر الذي نفخت فيه الخطب والشرائط المصورة والمتقنة الإخراج التي تعرضها التلفزيونات جزءا من تشويقها اليومي ورسالتها الفكرية! إذا كنت تريد أن تعرف في أي واد نحن أرجو أن تقرأ عذوبات أنعام كجه جي الأحد الماضي: خلّي بالك من زوزو.
منقول عن الشرق الاوسط