للمرة السادسة، في الأعوام الثلاثة الماضية، يعلن رؤوس النظام السوري نهاية المعركة بانتصارهم على شعبٍ كانوا يسمونه شعبهم. وإذا كنا لم ننس بعد، فقد واكبت الإعلان الأول احتفالاتٌ نظمها رامي مخلوف في ساحة الأمويين في دمشق، ألقى بشار الأسد فيها خطبةً حفلت بضحكاته المحببة إلى قلوب السوريين، وأعلن انتصاره النهائي بكلمة: خلصت، والتي صارت، منذ ذلك الوقت، موضوع تندر وسخرية متنوعة الأشكال منه، ومن تقديراته العشوائية وانتصاراته الوهمية.
واليوم، ينشر النظام أكذوبتين متلازمتين، تدعمهما أوساط دولية، يقول في أولاهما إن المعركة العسكرية انتهت بانتصاره، ولم يبق منها غير “تشطيبات” أخيرة، يرجح أن تنتهي قبل نهاية عامنا الحالي، بحسب بشار الأسد في مقابلة صحافية. ويقول في ثانيتهما إن العالم صرف النظر عن تنحي بشار، والذي سيبقى في السلطة، لكي يشرف على حلٍّ سياسيٍّ يديم نظامه، يتطلب تطبيقه تشكيل حكومةٍ جديدةٍ، تضم شخصين، أو ثلاثة، من “المعارضة المعتدلة”.
بنى النظام أكذوبة الانتصار على تقدمه العسكري في حلب والقلمون، وأكذوبة استمرار الأسد على ما نجم عن توقف مسار جنيف، على ركود دوليٍّ حتمته مراجعة الأطراف المتصارعة حساباتها وتدقيقها هذه الحسابات، وأراد، بأكذوبتيه، بث اليأس في نفوس السوريين، وإقناع قطاعات منهم بحتمية استسلامهم له، بشروطه .
ليس صحيحاً أن جيش الأسد ينتقل من انتصار إلى آخر، في حلب وجوارها. الصحيح أنه ينتقل، بالأحرى، من هزيمةٍ إلى أخرى، وأنه لم يطوّق المدينة ويشطرها إلى نصفين، كما كان يخطط قادته، بل تم تطويقه هو، وتشتيت قوات كبيرة منه، في أماكن كثيرة داخل حلب وحولها، وقطعت طرق إمداده. لذلك، يقاتل، منذ أيام، لفتح واحدٍ منها، يستطيع، بواسطته، تلقي ما يحتاج إليه من دعم، لكي لا ينهار تماماً. وفي الساحل، أحدث هجوم الجيش الحر والمقاتلين الإسلاميين تبدلاً جدياً في علاقات القوى على الصعيدين، المحلي والإقليمي، وفتح ثغرة سيفضي سدّها إلى اختلال أوضاع النظام في بقية مناطق القتال، كما كنت قد ألمحت في مقالة “معركة الساحل السوري”، والتي طالبت فيها بعدم التعرض للمدنيين، وبمنع النظام، في الوقت نفسه، من العودة إلى المواقع التي تم طرده منها، لما يمكن أن يترتب على التمسك بها، والاستثمار العسكري الصحيح لموقعها، من نتائج مهمة، بالنسبة إلى موازين القوى في عموم سوريا. في هذه الأثناء، ترتسم على الأرض ملامح خطة رسمية، تقوم على الدفاع عن منطقتي دمشق والساحل وحدهما، حيث سيتم نشر ما بقي لدى الأسد من جيش، وسيُستعان بمزيدٍ من المرتزقة اللبنانيين والعراقيين. لذا، يعتقد عسكريون أن انسحاب قوات الأسد من شمال سوريا بات مسألة وقت، وأن هذه ستبدأ العمل في الفترة القريبة المقبلة، لإقامة وضعٍ لن تضطر معه إلى القتال في كل مكان من سوريا، مع ما يحمله حصر معركتها في المنطقتين من خطر على وحدة دولتنا ومجتمعنا، وتناقض مع أكذوبة انتصار السلطة الوشيك، والذي ستترجمه، من الآن، عبر دفع بلادنا إلى حافة التقسيم.
أما أكذوبة بقاء النظام ورئيسه، فهي أشد تهافتا من أكذوبة انتصاره، لأن من يقرر مصير سوريا اليوم ليس جيش الأسد، بل شعبها المصمم على الخلاص من طغاته، ويضحّي بالغالي والنفيس، من أجل نيل حريته، وليس ثمة قرائن تشير إلى قرب استسلامه، حتى أن معظم الذين يغادرون مدنهم بسبب الـ”هدن”، يذهبون بسلاحهم إلى مدن أخرى، ليقاتلوا في شروط أفضل من التي اضطرتهم إلى مغادرتها.
ستنتهي معركة سوريا بالتأكيد، لكنها لن تنتهي إلى انتصارٍ يحرزه نظامٌ بدأ يعد الأجواء لمعركة تقسيم وطن”ه”، مستفيداً من السعار الطائفي الذي نشره، وانخرطت فيه تنظيمات متطرفة، وجهات لطالما تاجرت بالوطنية، وعندما تطلبت الثورة تعميق خطها بما يغني شعار “الحرية لجميع السوريين، لشعب سوريا الواحد”، أخذوها إلى ما كان النظام يخطط له: الطائفية والمذهبية. وسدوا تماماً طرق السياسة وأبوابها، وتبنوا خياراتٍ عسكريةً لعبت دوراً خطيراً في تعظيم نفوذ الخارج على الثورة، وصولاً إلى ربطها بإراداتٍ عربيةٍ وإقليميةٍ ودوليةٍ، وضعتها في خدمة مآربها، وشوهت هويتها، ملتقيةً بذلك مع ما فعله النظام لإيقاع الحراك الثوري الحر في الفخ المنصوب له. واليوم، ومعارك الساحل مهددة بالدخول في منعطفٍ طائفي قاتل، تريد أَطرافٌ أن تحوله إلى مقتلة هوجاء، تقضي على ملايين السوريين، سيكون معظمهم من أهل السنة الذين يرى النظام في موتهم انتصاره الحقيقي، والذي لن يطيح بالثورة وحسب، بل وبالشعب والوطن أيضا!
بشيء من الوعي السياسي والإرادة الوطنية، لن يكون انتصار النظام نهاية معركة سوريا، بل ستكون نهايتها انتصار شعبها المتمسك بحقه في تقرير مصيره بنفسه، وهزيمة جيش السلطة الذي يتعرض لخسائر فادحة، تنعكس نتائجها في معظم ميادين القتال، تؤكد أن هزيمة النظام محتومة، إلا إذا أنقذته، هذه المرة أيضاً، حماقات من يزهقون روح الثورة، ويوشكون أن يقضوا تماماً عليها !