أيام زمان كانوا الناس يرسلوا بالرسائل لأبنائهم ليطمئنوا عليهم في دار الغربة, كانوا يخافون عليهم من التغريب خارج الوطن, واليوم العملية باتت مغلوطة فمن المستحيل أن تجد عائلة خائفة على أبنائها من الغربة, والصحيح أن المغتربين هم من يرسل بالرسائل للأهل في الوطن للاطمئنان عليهم, اليوم الذين في الغربة يخافون على أهلهم من الوطن, لأنهم يدركوا أن المواطن العربي لا يملك وطنه إلا بيته وسيارته التي تصطف على طرف الطريق في وسط الحارة,وأيام زمان كانت الحكومات العربية تنفي السياسيين والمتمردين خارج الوطن واليوم يمنعونهم من السفر لعلمهم أن العيش داخل الوطن للمثقف هي أقسى عقوبة يستحقها المثقف.. تنقصنا ليس التربية الوطنية وإنما تشبيك العلاقة بين المواطن والدولة ليستفيد المواطن من الدولة والدولة تستفيد منه.
إن بيت المواطن العربي نظيف جدا ويحافظ المواطن على نظافة بيته من الداخل ومن الخارج ويحافظ عليه من اللصوص ولكنه لا يحافظ على شوارع مدينته ولا يحافظ على بيت الحكومة وزد على ذلك إذا رأى لصا يسرق الدولة فإنه لا يقاومه وإنما يسعى للشراكة معه لأنه يشعر أنه يملك بيته ليس بموجب طابو من دائرة الأراضي وإنما لأنه يشعر بأنه مستفيد من بيته, ولكن من البنية التحتية للدولة لا يشعر المواطن العربي أنه مستفيد منها, ومن أول مظاهرة في الشوارع يبدأ بالتكسير, وحصل أمام بيتي حرقا لمؤسسات الدولة ليلا, ومن أول مباراة لكرة القدم يغادر المواطن العربي الملعب وهو متسخٌ خلفه, حتى الهياكل الدينية لا يمكن أن يساهم بتنظيفها إلا من رحم ربي وهذا نادر لأنه حتى المسجد أو الكنيسة يشعر المواطن أن هنالك مستفيد آخر منها وليس هو, ولكن في بيته يغادر المرحاض وقد تركه خلفه نظيفا جدا أكثر من خلفية الإمام أو الخطيب أو أنظف من الصيني بعد الغسيل.
المواطن العربي يشعر أنه يمتلك الشجرة التي في فناء بيته ولكنه لا يشعر أنه يمتلك الشجرة المزروعة على وسط الجزيرة في منتصف الطريق بينه وبين الصايد الآخر من الطريق, وعملية قطع الطريق سهلة جدا مثل عملية قطع الشجرة المملوكة للدولة, ولكن عملية قطع الشجرة في بيته لا يمكن أن تتم بسهولة.
مواطن يشعر أنه لا يستفيد من مقدرات الوطن لا يمكن أن يكون وفيا ومخلصا للوطن بل عونا للخونة والجواسيس وأولاد الحرام من اللصوص والسرسرية, صحيح أن التربية الوطنية قد تجعله مخبولا بحب الوطن(طق اخشوم) وأغاني عمر العبداللات وأغاني الصقار والسرحان, ولكنه سرعان ما يصحو من هذه السكرة حين لا يكفيه دخله الشهري, فالمواطن العربي هو المواطن الوحيد الذي يعمل عملا إضافيا بعد أن ينتهي عمله الرسمي لكي يحصل على نقود يذهب بها إلى العمل الرسمي,هذه كارثة..صح؟..وشيء مؤلم..صح؟, يشتغل بعد الدوام بكل ما هو شرعي وغير شرعي وكل ما هو قانوني وغير قانوني, يقفز من فوق الأسوار ويقطع الإشارة الضوئية حمراء ويرتكب كل ما هو مخالف وفي نهاية كل عملية مخالفة قانونية يخرج مبسوط جدا وهو يقول(والله لألعن أبوها من حكومه هامله) أو ( يلعن أبو دولته) أو ( يلعن أبوها من دوله) أو ( يلعن أبو هيك حكومه).
التربية الوطنية في البلدان العربية تُطبل في وادٍ والمواطن العربي يرقص في وادٍ آخر,فالوطن الذي يبث من خلال الأبواق المسموعة أغانيه الوطنية ليرفع درجة غليان الحب بين النظام الحاكم أو بين الحكومة وبين المواطن المحكوم بهذا النظام هو في الأصل أعلام يدرك أن ميزانية الدولة لا تستطيع شراء الو لآت بالأموال إلا بتقديم الرشاوي مثل المال, وحتى المال المخصص للرشاوى يسرقونه ويعوضونه بالجنس والدعاره..هذي معلومه خطيره..صح؟…لذلك لا تستغرب من إغلاق بعض دور الدعارة وحماية بيوت أخرى تكون الدولة هي المالك السري لها.
فحتى الأموال المغسولة والمنشورة على جدران الوطن يسرقونها و تنشف وتجف ويدرك أنه لا يملك تلك المؤسسات, وهنالك مقولات باللهجة العامية تقول دائما للمواطن العربي: هذي أملاك دولة, أو بأسلوب استنكاري(شو أنت بتفكر سيارات الدولة مُلك أبوك؟!!), هذا أكبر غلط فهذا يعطي المواطن إحساسا أنه فعلا لا يملك الوطن ..المواطن بشكل عام يدافع عن أولاده لأنه يشعر أنهم مُلكه هو يرثهم ويرثونه ويستفيد منهم ويستفيدون منه ولكنه لا يدافع عن أبناء زمرة ملكية أخرى في الحارة المجاورة, المواطن العربي يدافع عن زوجته لأنه يشعر أنها ملكه هو وليس ملكا لغيره وإذا ما اكتشف أنها مشتركة بينه وبين إنسان آخر يطلقها وينفك العقد الذي كان معقودا عند القاضي.
الإعلام العربي المسموع والمرئي والمقروء يدرك أيضا أن عملية خلق قصة حب بين المواطن والوطن سهلة جدا من خلال التربية الوطنية ولكن على أرض الواقع لا يستطيع فرض مثل هذا المخطط لبناء جسور التعاون بين مؤسسات الدولة والمواطن, ولا حتى بالأموال النظيفة مثل البلاط الصيني بعد الغسيل, هو إعلام يدرك أيضا حقيقة أخرى وهي أن سياسة الدولة تتبع متغيرات خارجية وسياسات دولية ليس للمواطن العربي فيها دخل ولا يمكن أن يكون طرفا في هذه المعادلة الوطنية في عملية حسابية ضعيفة جدا وتفتقر إلى محلل فيزيائي كي يقنع المواطن العربي أنه جزء ومُكَونٌ من مكونات الدولة, والمواطن يدرك بالتربية النظرية أنه جزء من مكونات الدولة ولكن على أرض الواقع لا يستطيع المواطن العربي أن يصدق مثل تلك الاحتمالات, لذلك المواطن العربي يشعر أنه يملك سيارته ويحافظ عليها كونه المستفيد الأول من سيارته وهو المستفيد الأخير من سيارته إذا ما قرر أن يبيعها لمالك آخر, وهنا تقع الصدمة وهي أن المواطن العربي لا يشعر أنه يملك مؤسسات الدولة ولا حتى قادرٌ ولو بمعجزة سماوية أن يستفيد من مؤسسات الدولة إلا من خلال عملية احتيالية على المؤسسة نفسها وعلى الدولة, لذلك ينتشر الفساد في مؤسسات الدولة حتى بات الفساد جزء من حياة المواطن اليومية والكذب على اللحى من خلال عمليات وشعارات وطنية لا يمكن أن تفيد بالغرض المنشود من خلال الإعلام المسموع والمقروء مهما تغنى المواطن العربي بجمال وطنه وجمال الحاكم لأن المواطن العربي بعد كل عملية رفع وسماع لأغنية وطنية تتغنى بجمال الوطن يدرك بعدها قباحة منظره الذي لا يجعل الدولة مغرمة بجماله مثلما هو مُغرمٌ بجمال الدولة والوطن ويدرك غباءه فينظر إلى نفسه في المرآة ليجد أنه غارق في الديون ومضطر لخيانة الأغنية الوطنية وأن يضرب بعرض الحائط كل ما تربى عليه من طفولته حتى بدأ منتجا يأكل ويشرب بالدين علما أنه منتج ولكن دخله لا يكفيه ويدرك حقيقة مهمة وهي أن هنالك مجموعة من المستنفذين هم من يملك مؤسسات لدولة ويستفيدوا منها وليس هو, فآبار النفط لا يستفيد منها وكذلك معظم الشركات ويشعر أنه خصخصة لفئة معينة وليست مثل الحبل على الغارب, ومن هنا ينبع مفهوم خيانة مؤسسات الدولة وسرقة تلك المؤسسات وتعبئتها في زجاجات مظللة لكي لا يرى أحدٌ من الناس سرقاته.
أن ثقافته الدينية والاقتصادية في وادي بعيد جدا عن الوادي الذي يضع فيه المواطن العربي مواشيه ومزارعه ومشاريعه التي هي في الأصل مبنية على مغالطة من خلال معادلة من قانون رياضي وقانون آخر ليس للنصف الآخر من القانون علاقة بالنصف الأول, وفي مثل هذه الحالة نرجع إلى الاستئناف من حيث بدأنا, فالمواطن مع وجود 400 محطة فضائية دينية تحرم السرقة والرشوة لا يمكن أن تمنعه من إيذاء مؤسسات الدولة ولا يمكن أن تقنعه بأن راتبه الشهري يكفيه وبلاش نط فوق الحواجز والأسوار وسرقة مؤسسات الدولة, لأن الإعلام في الليل يجعلك وأنت أمام التلفاز تقطع يد كل سارق وأنت مصاب بنشوة دينية وفي النهار حين لا تجد مصروف الجيب لأولادك أو حين لا تجد أجرة المواصلات من منزلك إلى مقر عملك يجعلك هذا الشيء تقبل يد لص آخر وتسعى للشراكة معه.