ايها الاصدقاء في هذا العالم : كل عام وانتم بخير جميعا .. لكم هذه الرائعة أهدي هذه الاغنية الى كل من صديقتين حميمتين لوالدتي رحمها الله قبل اربعين سنة : السيدة ايما جاقماجيان والسيدة دكرانوهي جاقماقجيان متعهما الله بالصحة والعمر المديد
د. سيار الجميل
كتبت ذكرياتي عن المطربة الراحلة ربا الجمال في كتابي ” نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية ” فصلة كاملة ، وها انا ذا اقتطع جزءا منها لاعيد نشره هنا لمناسبة اختياري واحدة من اجمل ما غنت هذه الفنانة التي غبن حقها في حياتها كثيرا ، وغبن حقها بعد رحيلها ايضا ، وقد ابدعت كثيرا على مدى 25 سنة منذ بداية الثمانينيات وحتى وفاتها في العام 2005 .. كتبت عنها قائلا :
اننا نقف امام مبدعة حلبية ارمنية اثرت الطرب العربي بصوتها المميز وحنجرتها الفريدة .. هذه فنانة ومطربة حقيقية خسرتها الحياة العربية ، اذ كانت قد رحلت في عز عطائها يوم 12 ابريل / نيسان 2005 ، وهي لم تتجاوز الاربعين من العمر ، كانت الراحلة صوفيناز ارمنية من ولادة حلب عام 1966 وعائلتها معروفة اجتماعيا وامها من ربوع لبنان .. وقد عرفتها شخصيا منذ العام 1985 عندما كانت في باريس ودعيت الى واحدة من حفلاتها ، وكانت هي في مطلع شبابها وعرفناها باسمها الحقيقي صوفيناز خجادور كربيتيان ، فهي من اصل ارمني .. عاشت في بيئة عربية ، وقد حكت لي شخصيا انها من ولادة مدينة حلب وقد ماتت امها وعمرها سنة واحدة وعاشت مع اختها حياة يتم حزينة ، وفي طفولتها انتسبت الى دير راهبات الوردية في عمان ، وكانت توّد ان تغدو راهبة تشدو في رحاب الكنائس ، ولكنها عادت الى ابيها ومنذ طفولتها ، كانت تهوى سماع الموسيقى والطرب .. لم تكن موفقة في دراستها ، فارسلها ابوها الى باريس على امل ان تغدو طبيبة ، ولكنها ذهبت واشتركت في واحد من المهرجانات التي تضمنت مسابقة لاختيار سوبرانو والتي كانت قد اوصت بها ماريا كالاس
Maria Callas
، فتقدمت برعاية من مدير ادارة الاوبرا باسمها صافيناز ضمن ثلاثين متسابقة في
The International Maria Callas Grand Prix
، وحملت لقب ” سوبرانو ” بجدارة ، اي حملت اقوى صوت ” ايه5 ” ولم يستطع غيرها ان يحمله .. التقيت بها في باريس بواسطة طالبتي الفلسطينية د. سمر ماضي التي كنت مشرفا على اطروحتها في الدكتوراه ، وكانت صديقة حميمة لها منذ ايام طفولتهما في مدرسة دير الوردية في عمان بالاردن .. كانت تحدثني عنها وعن موهبتها قبل ان القاها ، وقد تعرّفت عليها في حفل عائلي خاص ، واكتشفنا ان صوفيناز كانت تحمل اسما اخر هو ربا الجمال لم نكن نعرفه في مهرجان كالاس ! .. وجدتها حزينة في اعماقها ولم تمنح ثقتها للاخرين الا بعد ان تتأكد من حسن نواياهم وسلوكهم ، وكانت متوترة العلاقة مع ابيها واختها الوحيدة اذ وقفا ضدها وضد رغبتها الجامحة لمزاولة الطرب العربي بعد ان كانت تصدح به منذ طفولتها بحكم صوتها الشجي .. اصابني الذهول عندما بدت تشدو واحدة من اغنيات ام كلثوم ” انا بانتظارك ” .. كانت مرهفة الاحساس ، لبقة وذواقة ولكنها عصبية المزاج .. ووجدتها ترى نفسها انها الافضل في هذا العالم !! ثقافتها العامة محدودة فهي تعتمد السماع لا القراءة ، ولكن موهبتها وابداعها تتفوق بهما على الجميع .. بعد سنوات طوال ، كنت اتابع ما تجود به ، وقد التقيت بها ثانية في بيروت بعد سنين ، وقد عرفتني وفرحت بي كثيرا ، ولكن بدت متوترة جدا وقد زادت معاناتها مما اكسبتها تناقضات لم تستطع التخلص منها ، اذ وجدت انها تشعر بانها محاصرة بالخصوم والاوضاع السياسية والمنافسات اللدودات .. نجدها سعيدة في ذروة الفرح عندما تشعر بالحرية ، وفجأة تنقلب كي نجدها تصارع نفسها صراعا مريرا ، اذ لا تطيق الخطأ مهما بلغ من الصغر ، وهي حساسة الى درجة كبيرة جدا .. ولكنها كانت تتمتع بقلب سليم ابيض ناصع ، اذ لا تحمل اي كره او حقد ضد احد ابدا ، باستثناء زوجة ابيها التي عاملتها بقسوة بالغة منذ طفولتها واضطهدتها ، وقد وجدتها لا تعر اي اهمية لخصومها من الفنانين ( وخصوصا الفنانات ) اللواتي وجدنها اقوى منافسة لهن ، لكن ربا الجمال تسخر منهن وسرعان ما تنسى اية مشكلة او ما يسمعها اياها البعض ، اذ قالت لي مرة : ” عندما انظر الى الاعلى لا أجد احد قد سبقني .. ” . لقد تنقلت هذه المطربة بين سوريا والاردن ولبنان وباريس وعاشت سنوات في مصر ثم عادت الى لبنان ثم عادت الى دمشق .. وكانت تؤثر الفنانة سعاد محمد على الجميع ، وتعتبرها من المطربات القديرات ، كما التقت في مصر المطربة شهرزاد وكانت تأنس لصوتها القوي الجامح .. وبدا لي انها لم تكن منسجمة مع الحياة السورية ، ولا مع الفنانين السوريين ، فهي صريحة وواقعية وجادة وترفض ان تكون اداة بايدي الاخرين سواء على مستوى الدولة ام المجتمع ، كونها تشعر انها الاستثناء اولا ، وكونها تشعر ان ارومتها أرمنية ثانيا ، فكانت ترفض الدسائس والنفاق والمداهنات والمجاملات الرخيصة التي اكتسى بها المجتمع العربي ، وخصوصا ذاك المجتمع المخملي للفنانين والفنانات التافهات . انها تعرف نفسها وتدرك قيمتها الفنية والمعنوية في زمن كسيح لا يقدر اهله المواهب ولا الابداع . كان زواجها الوحيد فاشلا بعد خمس سنوات من المعاناة خرجت منه مع ولدها الوحيد رامي الذي افتقدها وهو في الخامسة عشرة ، وكانت بالنسبة له الام والاب والاخ والصديقة والرفيقة والمربية الصارمة .. ولا اعرف اين هو الان .وكانت متعلقة به روحيا . كانت ربا تعشق شعر نزار ، وتحب الزهور والبحر وعرائش العنب والتأمل في مناطق لبنان الجميلة .
لم تكن كما هو حال مغنيات هذا الزمن ، اذ لا تهمها المظاهر التافهة .. كانت تغرّد لوحدها محترمة لذاتها ولم تبخس صوتها في وسط موجات الابتذال كما نشهدها هذه الايام .. كانت تعشق الوقوف على المسرح كي تكون سيدته بجدارة ، وهي تقود بسلطنتها كل الموسيقيين ولم تلتزم الخط الذي يرسمه لها الموسيقيون والموزعون ، بل تتصرف بكل العُرب الموسيقية وتتناغم مع تموّجاتها كي تعلو بحنجرتها وتخفضها بتمّكن بارع لا يقدر عليه غيرها ابدا مع بحّة فريدة من نوعها ، وهي تريد ان تجد كل من في القاعة او الاوديون مصغيا لها ومتفاعلا مع اشجانها وتحليقاتها البعيدة .. كانت تكره الفديو كليب والتقنيات الحديثة التي تشوّه الاصوات النقية والطرب الجميل . كانت تحمل سجايا ممتازة ، فهي تعتذر ان بدت منها خشونة ، او تجد نفسها شاردة عنك تفكر في مشكلاتها الخاصة .. كانت حريصة تماما على عملها ، وان من تطمئن اليه نفسها من الناس ، تمنحه ثقتها .
سألتني مرة وكنا نجلس في مطعم مدور ومتحرك يطل على جارة الوادي زحلة عن تاريخ الغناء العربي وعن اشهر الملحنين المصريين وسر ظهور عمالقة التلحين في زمن واحد ؟ قلت لها : ان التاريخ سيقف وقفة طويلة عند نهضة النصف الاول من القرن العشرين الموسيقية، وخصوصا عند العمالقة العرب : عثمان الموصلي وسيد الصفتي وابو خليل القباني وابو العلا محمد وسيد درويش واحمد صدقي والشيخ زكريا احمد ومحمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وفريد الاطرش ومحمود الشريف وفيلمون بن سعيد وهبه ومحمد فوزي ورياض البندك ومحمد الموجي وانتهاء ببليغ حمدي وغيرهم اذ ازدحمت الحياة العربية بالمبدعين والفنانين .. وكانت هذه المرأة قادرة تماما على اداء كل منتجات هؤلاء جميعا بلا استثناء .. اذ انها امتلكت حنجرة طربية فريدة من نوعها لها القدرة ان تتلاعب بصوتها على 14 درجة وبمختلف المقامات الموسيقية في حين ان مطربين مشهورين امثال فيروز وعبد الحليم لم يمتلكا الا الغناء على درجة واحدة فقط . واذكر انني سألتها عمن اطلق عليها هذه التسمية الفنية ” ربا الجمال ” ، اتذكر انها قالت ( ان لم تخني الذاكرة ) : انه الموسيقار الفلسطيني الراحل رياض البندك الذي كان من اكبر المشجعين لها ، ورياض من امهر الفنانين العرب ، وقد تنقل هو الاخر بين فلسطين ولبنان وسوريا ومصر واكتشف مواهب عدة رحمه الله ..وبقينا معا الى ساعة متأخرة وهي تسألني عن تاريخ وجود الارمن في بعض مدننا العربية ، وخصوصا في الموصل وحلب وكيف انطلق بعضهم من هاتين المدينتين الى اصقاع اخرى في لبنان ومصر .. وكيف استقبلوا من قبل العرب الذين عرفوا الارمن منذ اكثر من 1200 سنة .. وكانوا قد احتضنوا بعض عائلاتهم قبل حلول المأساة عام 1915 قبل 150 سنة ، اي منذ القرن الثامن عشر .
ماتت ربا الجمال بالسكتة الدماغية بعد معاناة دامت اياما ولم يسأل عنها أحد ، ولم تقف معها نقابة الفنانين السوريين كونها لم تكن عضوة فيها .. تنكّر لها كل من المجتمع والدولة في محنتها القاسية .. كانت معقودة اللسان ، ولم تكن ميسورة الحال حتى تتعالج في افخر المستشفيات .. بعد ايام صعبة نقلت من بيتها ثانية الى احدى المستشفيات المتواضعة لتلفظ فيها انفاسها الاخيرة بصمت مريع .. ويشيّع جثمانها سريعا بحضور من تبقى من عائلتها وغياب الفنانين السوريين واللبنانيين قاطبة .. وكتب بعد رحيلها ،ان جلطتها الدماغية التي قضت عليها كانت بسبب عصبيتها وانزعاجها من اعضاء الفرقة الموسيقية على المسرح في آخر حفل اقامته كونهم تعمدوا عدم الانسياق مع ادائها .. لقد عاشت وماتت هذه المرأة المبدعة وهي تواجه محنة مجتمع لم يمنحها حقها ابدا مع محبتها للناس والحياة والاطفال والطبيعة ، فلم تتجانس مع بعض من تعاملت معهم ابدا .. ولم تسعد في حياتها ابدا .. لقد خلقت في زمان ومكان لا يستحقانها ابدا .. ستبقى اعمالها الرائعة شاهدة على قدراتها الخلاقة على مدى الزمن .. وستذكرها الاجيال القادمة باحسن الذكر . وسأبقى احمل اجمل ذكرى عن ربا الجمال رحمها الله .
سيار الجميل ، نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية ( المجلد الخاص بالفنانين ) .