وفاء سلطان
يبدو أن زوبعة الشيخ نهرو الطنطاوي قد هدأت ولم يعد في جعبته سهم لم يضربني به. شفقت على أعصابه المهترئة كأفكاره، فأعطيته وقتا كي يستعيد عافيته قبل أن أصدمه بردّ آخر.
جرت عادتي، وتمسكا بأخلاق النقد، أن أذكر ما ذكره الآخر ثم أعقبه بردّي. ولكن هذه المرّة سأتجاوز حدود تلك العادة دون خوف من أن أتجاوز أخلاق النقد، بل على العكس تماما خوفا من المساس بها. كيف أستطيع أن أذكر شتائم واتهامات وأردّ عليها؟ هل هناك من عاقل خلوق على سطح الأرض يستطيع أن يردّ على من لا يملك حجة سوى الشتم والإتهام؟
إحتراما لعقل القارئ ووقته آثرت أن أكتب هذه المرة لا لأفند شتائمه واتهاماته، إذ أعترف بأنني لا أستطيع، لكنني أردت أن أكتب لأشرح للقراء الأسباب الكامنة وراء ظاهرة الطنطاوي وغيره من الرجال المسلمين، سواء من كان منهم على شاكلة الطنطاوي أو متبرقعا ببدلة كارول ماركس، فلو حكّ الماركسي المسلم جلده لوجد جلد محمد تحته!
لماذا ثارت ثائرة هؤلاء الرجال عندما سمعوا صوت وفاء سلطان كقطيع من الغنم فقد صوابه وراح يدوس على بعضه لمجرّد أنه سمع صوتا هادرا من بعيد وهو في طريقه إلى السلخ!!
ما الذي يثير خوف هؤلاء الرجال من وفاء سلطان؟
هم لم يسمعوا في حياتهم صوت امرأة إلاّ من خلف الباب مقهورا مهزوما وذليلا، فارتعدوا عندما دوى ذلك الصوت في عالمهم قويّا عاليا وجليّا!
………………………….
تبنى عالم نفس أمريكي شمبانزي منذ ولادتها وجلبها إلى بيته كي تعيش مع عائلته كفرد من أفرادها. تعامل العالم وزوجته مع الشمبانزي كطفل من أطفالهما. كانت تنام في غرف الأولاد وتستيقظ لتستحم وتفرشي أسنانها وتستخدم المرحاض وتجلس معهم على طاولة الطعام. تعلمت كيف تلتزم بقواعد السلوك ونظام العائلة، وكانت تكافئ عندما تحسن عملا وتعاقب عندما تسيء إلى روتين البيت.
في سنوات بلوغها أجرى العالم على ابنته الشمبانزي بعض التجارب كي يتأكد من صحّة بعض النظريات والفرضيّات في علم النفس والسلوك.
من ضمن تلك التجارب، قام العالم بإعطاء الشمبانزي مجموعة كبيرة من الصور التي تضم من الأشياء والكائنات الحية بما فيها الإنسان ما هبّ ودبّ. على سبيل المثال لا الحصر، صور لنباتات واشجار وأزهار وحيونات وطيور وأثاث منزل وكتب وأقلام وحقول وبيوت وأكواخ ووجوه بشرية وما إلى ذلك. ثم طلب منها أن تقوم بتصنيف تلك الصور في مجموعتين إحداهما تضم وجوها بشرية فقط والأخرى كل ما عدا ذلك.
كم كانت دهشته كبيرة عندما أكتشف أنها أبدعت في قدرتها على التصنيف، بل وكانت دهشته أكبر عندما قامت بوضع صورتها الشخصية ضمن المجموعة التي تضم الوجوه البشرية!
……………………
يؤكّد علم النفس والسلوك على أنّ الإنسان يقع وفي سنوات عمره الأولى في مصيدة ينصبها له القائمون على تربيته.
لا يستطيع، مهما حاول، وخلال حياته كلّها أن يتحرر كليّا من براثن تلك المصيدة.
يولد الإنسان ليرى بقجته الفكريّة حاضرة. رتبّها له مربّّوه وحشروا فيها كل ما يستطيعون من بنات أفكارهم فكرة من هنا وفكرة من هناك. يفتحون البقجة منذ اللحظة الأولى ويبدأون بإلباسه ما فيها ثوبا إثر ثوب أخاطوه على ذوقهم.
خلال السنوات الأولى تتبلور في ذهن الإنسان ملامح هويته الذاتية وتتشكل في بواطن عقله صورته الشخصية.
هو من قالوا له بأنه هو!
كما يعاملوه خلال تلك السنوات يعامل نفسه، ثمّ يثبت لهم بسلوكه صحّة تقييمهم له.
إن عاملوه على أنه حمار لن يخرج إلى الحياة سوى حمار وسيكون له ذيل طويل، وإن أقنعوه بأنه أنشتاين قد يخرج إلى الحياة أفضل من أنشتاين.
والبقجات تتفاوت لتخرج لنا أنماطا بشرية تتراوح بين الطنطاوي وبين أنشتاين!
…………….
قام عالم نفس أمريكي آخر بتجربة أخرى. نقل طفلين إلى أحد الصفوف الإبتدائية بعد أن تأكد من أن مستوى الذكاء والقدرة على ضبط النفس لدى الطفلين يكاد يكون نفسه.
قال لمعلمة الصف على انفراد: هذان طفلان مختلفان في مستوى ذكائهما، مايك طفل غبي وغير قادر على ضبط نفسه وجون طفل ذكي ومنضبط، أتمنى لك التوفيق في مهمتك معهما.
لم تستطع المعلمة، وخلا ل عام دراسي كامل، أن تتحرر من المصيدة التي أوقعها بها عالم النفس. تعاملت مع مايك على أنه طفل غبي وغير قادر على ضبط نفسه ومع جون على أنه طفل ذكي ومنضبط.
في نهاية العام الدراسي راجع العالم إنجازات الطفلين وأجرى بعض التجارب على سلوكهما فاكتشف بأن مايك طفل في منتهى الغباء وخارج حدود أي انضباط وجون طفل ذكي وخلوق وفي قمة الإنضباط.
المعلمة صدّقت ما أوحى لها به عالم النفس، والطفلان مايك وجون صدّقا ما أوحت لهما به معلمة الصف.
خرجا بعد عام دراسي كامل ليثبتا صحة ما أوحى به العالم للمعلمة وما أوحت به المعلمة لهما.
وكانت النهاية المحزنة أن خرج الى الحياة حمار آخر( ما لم يكن العالم قد قام بإعادة برمجته وتقييمه وهذا ما أتوقع) وأنشتاين آخر!
……………….
من هي المرأة التي أنجبت الرجل المسلم طنطاويّا كان أم ماركسيّا؟ وهل تستطيع امرأة مسلمة فعلا أن تنجب رجلا يستطيع أن يسلخ جلده الطنطاوي ويتقمص الجلد الماركسي؟
الشمبانزي التي عوملت في سنوات حياتها الأولى كبشر صدقت بأنها بشر وصنفت نفسها في مجموعة البشر. والسؤال الذي يطرح نفسه:
من هي المرٍأة المسلمة، ليس من خلال قناعات الغير بها وحسب، وإنما من خلال قناعاتها هي بنفسها أيضا؟
لكي نعرف الجواب على ذلك السؤال دعونا نفتح بقجتها والتي انتقلت إليها من نبيّها نزولا إلى أبيها!!
كيف يقيم الإسلام المرأة، ومن هي ذلك المخلوق من خلال مقياسه؟
في رحلة البحث عن جواب علمي ومنطقيّ قدر الإمكان، تساءلت من هي أفضل امرأة في سجلّ الإسلام وتاريخه؟ رأيت أن باستطاعتي، إلى حدّ ما، أن أعتبر مريم أمّ المسيح ضالتي المنشودة. وعندما عثرت على تلك الضالة رحت أتساءل: وكيف اختار الإسلام السيدة مريم لتكون خير نسائه وعلى أيّ مقياس أعتمد؟
تقول الآية:
“والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا….”
مريم، وحسب ما جاء في الإسلام، هي المرأة الوحيدة التي نفخ الله بها، ولقد نفخ فيها لأنها أحصنت فرجها!
يبدو أنها المرأة الوحيدة أيضا التي أحصنت فرجها، وإلاّ لكانت عدالة السماء واحدة ولنفخ الله في كلّ النساء اللاتي أحصنّ هذا الكنز الثمين!!
لقد تعامل إله الإسلام مع المرأة كفرج، ولم يستطع أن يراها أكبر من حدود ذلك الثقب الصغير!
لم يقل: أحصنت جسدها (ناهيك عن عقلها)، وإنّما أحصنت فرجها….!
استاء الشيخ الطنطاوي لأن “وفاء سلطان مغرمة بالبحث عن الله في سراويل المسلمين”، ولم يشعر يوما بالعار لأن إلهه يسكن داخل تلك السراويل!
……………………
قضيت خدمتي الريفية كطبيبة غرّة في إحدى المناطق الجبلية النائية في سورية.
وكان أغلب زواري نساء، أكلت الحاجة فروجهن وأجسادهن وعقولهن. الواحدة منهن أم لجيش من الأطفال ولا تملك في الوقت نفسه ما يسمح لها أن تلتزم بأبسط قواعد الحفاظ على فرجها، إن لم يكن جسدها، ناهيك عن سلامتها العقلية والفكرية!!
كانت معظم هؤلاء المنحوسات يستخدمن أوراق الجرائد وأكياس الورق كمحارم لمص دماء الطمث، وكانت الإنتانات المهبلية تشكل أحد وأهم أسباب مراجعة العيادة الطبيّة، فتلجأ الواحدة منهن إلى الحمل كي يحميها من مشاكل الطمث لمدة تسعة أشهر.
لم تتعلم تلك المرأة في حياتها طرق الحفاظ حتى على فرجها! فالحفاظ عليه من خلال مفهومها الإسلامي يتم بقفله لا بتنظيفه!!
سقطت تلك المرأة في الفخ الذي نصبه لها دينها. على مدى أربعة عشر قرنا من الزمن لم تستطع أن ترى نفسها أكبر من فرجها!
ولم يستطع الرجل، كضحية لذلك المفهوم، أن يراها أكبر مما ترى نفسها!
……………………..
الإنسان عقل وجسد، وكلّ البحوث الطبية والنفسية قد أثبت بما لا يدع مجالا للشّك قوة العلاقة بين هذين الحيزين الذين يشكلان معا الكيان البشري، ألا وهو الإنسان.
العقل هو موقع القيادة، وسلوك الجسد يعتمد اعتمادا كليّا على أوامر تلك القيادة.
الأوامر تأتي على شكل أفكار والسلوك، كردة فعل لتلك الأوامر، هو حركة فيزيائية.
الفكرة هي طاقة. عندما يرسل العقل تلك الطاقة باتجاه الجسد تحركه باتجاه وضع جديد.
تستقر الفكرة أية فكرة في أعماق العقل، وتبدأ من هناك بتحريك الجسد وفقا لحجم ونوع وسرعة واتجاه طاقتها الموجهة اليه.
…………
المرأة ليست مجرد فرج إنها عقل وجسد. عقلها يحدّد مستوى حياتها باعتباره موقع القيادة لديها.
لم أقرأ عبارة في حياتي تهين المرأة أكثر من عبارة تقيّمها من خلال فرجها.
ماهذه اللغة المهينة؟
هل نحن قادرون لو تبنيناها أن نخلق امرأة قادرة على تربية رجل جدير بالحياة؟
المعرفة لا تصدر من الفرج، بل من العقل. لا تستطيع المرأة أن ترضع الطفل لبان العلم والمعرفة ما لم تعتني أولا بعقلها!
إذا افترضنا جدلا بأن الله هو الذي خلق الإنسان عقلا وجسدا، أي إله ذلك الذي ينكر جمال ذلك الخلق؟
سقط الرجل المسلم، كما يسقط كلّ انسان، في المصيدة التي نصبها له القائمون على تربيته منذ ولادته.
أقنعته تلك المصيدة بأن المرأة فرج، فلم يستطع أن يتعامل معها، ولن يستطيع، إلا حسب تلك القناعة.
…………………………..
كلّ ما تحتاجه المرأة في الإسلام كي تكون أهلا لإنوثتها وموضع إرضاء الله والرجل أن تلزم بحدود ما أمرها به ربّها:
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ…..
في عرف الرجل المسلم كل امرأة تلتزم بحدود تلك الآية هي امرأة عاقلة، وتخرج من عقلها من تحاول أن تضع مقياسا جديدا لقيمتها.
وفاء سلطان امرأة تحترم عقلها وتقيم نفسها من خلال ذلك العقل، لذلك خافها رجال الإسلام المتمشيخين منهم والمتمركسين.
…………
لا ينجب الفرج رجلا كاملا، والعقل يصل به إلى حدود ذلك الكمال.
عندما تعامل المرأة طيلة حياتها على أنها عورة لن ترى نفسها أكبر من حدود تلك العورة.
والعورة تنجب رجلا أعور العقل! العقل الأعور عاجز على أن يقودنا إلى حياة كريمة، ولنا مثال في المجتمعات الإسلامية التي قادها إلى الهلاك أعور دجّال أنجبته امرأة عورة!
……………………
لا أعرف الماركسيّة إلا من خلال الماركسيّن العرب (ونعم المعرفة!)، لكنني أفترض أنها عقيدة علمانية تتعامل مع المرأة كعقل.
يحاول الإنسان، في وعيه وفي اللاوعي عنده، أن يقفز بين الحين والآخر خارج حدود مصيدته التي أوقعه بها القائمون على تربيته وخصوصا عندما تعقيه تلك المصيدة عن السير باتجاه حياة أفضل.
قد يستطيع وقد لا يستطيع، ودرجة قدرته على التحرر ترتبط بدرجة وعيه لحدود تلك المصيدة ورغبته في تحطيم تلك الحدود.
أمّا عندما يضع قدما داخلها وقدما خارجها ويتأرجح كلّ الوقت بين قدم وأخرى سيبقى في مكانه مراوحا.
عندما يتمركس الرجل المسلم ينط على قدمه التي تخدم مصالحه، فهو ماركسيّ بين الشيوخ وشيخ بين الماركسيين.
كاتب، يحاول بإدعائه الماركسية أن يقنعنا بأنه تجاوز حدود مصيدته، ردّ علي بمقال جاء في مطلعه:
رغم ان معرفتي بوفاء سلطان حديثة العهد جدا الا ان معرفتي بكلب بافلوف تعود الى بداية السبعينات حين درسنا علم النفس في معهد اعداد المعلمين. ومن غرائب الصدف انني كنت حينها مغرما بصبية فاتنة اسمها وفاء. كانت تجلس امامي كالفجر وتجتاحني كما تجتاح الامواج شاطئا مقفرا. مرت الاعوام ولم يبق من وفاء غير صدى قبلات تعبث بذاكرتي.
لم تستطع وفاء سلطان أن تذكّر كاتبنا الماركسي إلا بعشيقته وفاء؟!! هل هي مجرّد ذكرى أم أنها رؤية الكاتب الحقيقة للمرأة؟!!
على أيّ قدم كان سيادته ينط عندما ردّ على وفاء سلطان، على القدم الماركسية أم الطنطاوية؟
لا يستطيع الإنسان أن يخرج من مصيدته إلا عندما يدرك مأساوية وضعه داخل تلك المصيدة، وعندما ينظف اللاوعي عنده من قاذورات تلك المصيدة.
عندما يختار الماركسية كعقيدة يجب أن ينظف خزّان عقيدته من رواسب إسلامه أولا. أمّا أن يتخفى تحت عباءة ماركس وهو طنطاوي حتى النخاع، لهو نفاق يكشف وبسهولة حقيقته.
…………………
لقد هستر هذا القطيع من الرجال وراح مذعورا يدوس على بعضه البعض عندما سمع لأول مرّة في حياته صوتا لم يعتد على سماعه، صوتا تجاوز حدود المصيدة ليثبت للعالم أنه عقل وليس مجرّد فرج!
…………………..
الإنسان ولد حرا ليحلق بنفسه إلى حيث يتخيل نفسه. إيمانه بقدرته على التحليق تحدد مستوى ارتفاعه.
السماء هي حدودي، وأنا قادرة على أن أصل بنفسي إلى تلك الحدود. فهل يستطيع الرجل المسلم؟!!! وفاء سلطان (مفكر حر)؟