الليالي الخمسة 5

الليالي الخمسة

محمد الرديني

الليلة الرابعة

وجد فلاح نفسه في غرفة طويلة ، ولكن طولها يتناسب مع عرضها بالتساوي ، وفي ركن قصي يتجه الى ابعد نقطة من يمين الغرفة كان يجلس شخص ما، يبدو حين يدخل عليه احد بعيدا عن مستوى النظر لاترى ملامحه بوضوح، مجرد ظل كبير يجلس وراء طاولة مستطيلة الى الحد الذي  تثيرفيه الانتباه لذلك، بينما رصت جدران الغرفة الثلاثة برفوف انيقة حشرت بها عشرات اشرطة  الفيديو، اما الجدار الرابع فقد كان مغطى بقماش اسود تقف عند وسطه مزهرية ورد عملاقة كانت خالية  من الزهور.
لم يكن يعرف تماما لماذا كل هذه الافلام وهل ان هذا الشخص استدعاه ام ان هؤلاء الرجال الثلاثة الغلاظ هم الذين اقتادوه الى هنا ومع هذا فهولا يدعي انه لايعرف شيئا ، انه ينتطرمنذ الليلة قبل الماضية ، تلك الليلة التي كان فيها كل شيء هادئا تماما حتى ان صديقه عمر همس في اذنه:
“اتسمع صوت الصمت يافلاح.
” نعم اني اسمعه بوضوح يرن في اذني.
ضحك عمر بصوت قوي وصاح:
” لو كانت هنا جدتي لقالت استر يارب فالهدوء لايسبب الا المصائب.
لم يكمل عمر جملته حتى خرج من بين الاحراش رجلان لم يستطع فلاح ان يتبين ملامحهما ولكنه سمع صوت عمر وهو يصرخ:
 اهرب يافلاح انهما…
ضاعت الكلمات الاخرى في الهواء اذ سرعان ما انقض عليه الرجلان بينما انشقت الارض عن رجال آخرين مسكوه من يديه ودفعوه الى الارض ليتأكدوا من وثاقه جيدا ثم كمموا فمه بطريقة تنم عن تدريب خاص وقادوه الى مكان ما.
امره صوت ما بالاقتراب.
كانت حزمات الضوء المتساقطة على وجه الرجل الامرد تؤكد مدى عنايته بصحته واناقته ولكن من المؤكد ان هذه الكلمات لاتعبر بوجه دقيق عن ادمان هذا الرجل على مايبدو الوقوف ساعات متواصلة امام المرآة ليس فقط ليتأكد من ربطة عنقه المشدودة بعناية الى ياقة قميصه ولكن ايضا ليتأكد من عدم زوال احمرار وجنتيه الحليقتين بعناية مبالغ بها والتي استغرقت منه وقتا اضافيا هي الاخرى.
ولعله لم يدرك او انه تناسى ان عينيه تبان للناظر اليهما انهما قد لصقتا في وجهه كيفما اتفق فقد كانتا صغيرتان يدور البؤبؤان فيهما يمينا وشمالا بسرعة غير طبيعية.
سمع الرجل يقول له:
” انا اليوم في مزاج رائع ويمكنني ان استمع اليك باهتمام رغم ان ذلك ليس من طباعي ولكن قبل ذلك اود ان اقول لك انك لست موقوفا بالمعنى الحرفي للقانون فانت هنا لتتعلم ما لم تتعلمه في حياتك الماضية كلها.
سكت الرجل قليلا واخرج من درج مكتبه منديلا ناصع الزرقة مسح به جبينه وبعض اجزاء من رقبته ثم تابع باهتمام قليل:
” انا ادعي اني صاحب منطق في العمل جديد تماما بل وحتى انه غير معروف من قبل حتى لاعتى رجال الامن المشهورين في العالم.
تابع:
”  البداية تقليدية جدا فقد كنا نراقبك منذ فترة وحانت لرجالنا فرصة قبل يومين للقبض عليك واقتيادك الى هنا.
ويستدرك بسرعة دون ان تتوقف عينيه عن الدوران :
” كانت تعليماتي للرجال واضحة: الضرب ممنوع في كل الاحوال ، ليس خوفا من احد ولكن اساليبنا تطورت. في الواقع انا صاحب هذا التطوير بل قل الثورة في عالم الامن والمخابرات. نحن لانؤمن بالاغتيال السياسي لاننا ببساطة  نريد الجميع اصحاء وفاعلين يعملون تحت خيمتنا بقناعة تامة.
لاننا ببساطة ايضا اذا فعلنا عكس ذلك نكون قد خسرنا الاف الاشخاص وكسبنا عداوة اهلهم واقاربهم واصدقائهم. انت مثلا لابد لك اخوة واهل واقارب لا بل لديك اصدقاء كثيرون بحكم كونك من الشباب الواعين المثقفين, تخيل لو انك مت تحت قسوة التعذيب فسنكون امام موقف حرج فالناس لاتصدق انك مت ميتة طبيعية لانهم لايصدقون ان مثلك شابا قويا يتمتع بصحة وعافية يموت مثلا بالسكتة القلبية او النزلة الصدرية او اي مرض عارض آخر. لنقرب الصورة اكثر ، ماذا سنجنيه اذا مت انت تحت التعذيب قد تجيب على اسئلتنا قبل موتك وتساعدنا كثيرا في القبض على الاخرين المشتبه بهم، ولكن الاتعتقد انهم ايضا سيموتون بدورهم بعد ان يساعدونا ايضا ولكن ماذا ستكون المحصلة، المحصلة هي اننا خسرنا رجالا نحن في امس الحاجة اليهم وربحنا عداوتهم وعداوة اطفالهم.
حرك اصابع يده اليمنى كطفل حديث العهد بالكتابة وعاود الحديث بعد ان عدل ربطة عنقه بينما سرح فلاح بكلمات هذا الرجل الانيق التي حاول ان يحل رموزها ولكنه عجز حين احس بانه لم يفهم منها ولا كلمة واحدة قال الرجل الانيق:
” ان هذه الغرفة التي تراها الان ستكون نواة لتجربة جديدة يمكننا ان نسميها تجربة ديمقراطية القوة. انها تجربة كما ترى جديدة جدا حتى انك من الناس القلائل الذين يسمعون بها بل وتعيشها بشكل مطلق. اكرر لك انها تجربة جديدة ولكننا نريد تطبيقها بالقوة اقصد ديمقراطية القوة.
لم يتأكد فلاح من جنون هذا الرجل بعد ولكن هذا الخاطر مر على باله سريعا رغم انه آثر ان يلتحف بالصمت ويصغي الى آخر الحديث.
عاد الرجل الى الحديث مرة اخرى وكأنه لايجد بديلا غيره في هذه اللحظة:
” سنبدأ الان تطبيق اول بنود التجربة وعليك ان تختار احد امرين وهذا الاختيار مهم لانه اول اساسات الديمقراطية التي ننادي بها. الاختيار الاول يتعلق باحد الافلام ، تختار احدها ليعرض عليك ويجب في هذه الحالة ان تراه كاملا او تختار الحجة والمنطق فماذا تقول …؟
تنبه فلاح الى ان الرجل يسأله وهو بذلك يريد جوابا ، نظر الى عيني الرجل الانيق ببلاهة لم تكن مقصودة.
اعاد الرجل الانيق سؤاله:
” انها تجربة رائعة هل تريد ان تجربها ماعليك سوى ان تختار الفيلم الذي تريد مشاهدته واذا لم تعجبك يمكننا ان نختار غيره اوتختار البند الثاني من التجربة وهو ان تفتح قلبك للمناقشة ضمن الحجة والمنطق.
ماذا يريد منه هذا الرجل ؟ انه اما ان يكون مجنونا وضعوه هنا بالصدفة او انه يملك عقل طفل ذي مزاجات متقلبة.
 لم يكن امامه سوى مسايرته فقد وجد  في صوته خيط من العناد الذي لاتجده الا في عقول الاطفال. تجولت عيناه بين عشرات الافلام المرصوفة امامه و كانت كلها تقريبا تحمل ارقاما متسلسلة بارزة. نظر اليها مرة اخرى ثم عاد الى الرجل الانيق الذي يبدو مرتبكا من هذه النظرات التي تسمرت على وجهه او هكذا خيل لفلاح.
بصعوبة اخرج صوته :
” ليكن الفيلم رقم 11.
” عظيم.
صرخ الرجل الانيق بمرح ثم نهض بنشاط وحيوية الى حيث مكان الفيلم المقصود فيما حمل اليه الهواء الذي حركه الرجل الانيق وهو ينطلق نحو الرف عبير عطر رائع لم يشمه من قبل.
لم تمض الا بضع ثوان حتى دوت موسيقى خافتة يبدو  انها منيبعثة من الفيلم  رقم 11 .
في هذا الفيلم شاهد امرأة تتحرك بغنج ودلال غير مفتعل فقد كانت في غاية الجمال، انه نوع من ذاك الجمال الذي لايأسرك  فقط وانما يقودك الى متاهات تعرق وتلهث في الوصول الى بدايتها .
كان امام المرأة جبل عال مغطى بلون بني .. لون بني يميل الى السواد القاتم . كان جبلا موحشا يوحي للناظر اليه انه مغرور اخرس ويبدو انه يمنح شعورا بالضعة للاخرين تميزا لهالته المدببة . في قاع هذه الهالة المدببة فتحة ليست كبيرة ولكنها تتسع لدخول جسم بشري اذا ما حشر نفسه بعناية .
انحنت الفاتنة نحو الفتحة وقد بانت عجيزتها اكبر مماهي خصوصا وانها كانت تحاول ان تحشر مقدمة جسمها في الفتحة التي بدت اضيق الان . استطاعت بعد محاولات مفتعلة ان تدخل من فتحة الجبل الى الداخل.
كان الظلام موحشا هناك ولكنها حين استقامت تحرك بصيص نور ليس بعيدا جدا .. تقدم البصيص نحو  الفتاة ، انقلب البصيص الى نور ساطع اشاع شيئا من الدفء داخل هذا الجيب الجبلي  فيما حاولت هي ان تنزع قميصها البني الذي بدا ملتصقا بجسمها. كانت حركاتها وهي تنزع القميص ثم البنطال اشبه بحركات راقصات الليل رغم انها لم تكن تتقن تلك الحركات التي توقفت فجأة لتتناول من الارض مفتاحا حملته الى حيث  الصندوق الاسود.
كان هذا الصندوق مربع الشكل صغير الحجم يلفه اللون الاسود الداكن، حملت الصندوق برفق وقربته من صدرها، ظل الصندوق هناك ثوان معدودات .
بعد خطوات معدودة الى الامام توقفت امام ظل رجل لم يكن طويلا ولكنه بدا ثابتا ووضعت الصندوق على الارض بعد ان فتحت بابه برفق يشوبه شيء من الخوف،  تراجعت الى الخلف بسرعة حين اصبح الباب مفتوحا بالكامل.
كان الصمت مريعا في ذلك الوقت وظل الرجل داخل الجبل والقريب من الصندوق الاسود بدأ يتحرك يمينا وشمالا فيما تدلى من فتحة الصندوق رأس مكور يشبه رأس حية ضخمة ، لا لم يكن يشبه رأس حية ، انه رأس الحية بالفعل.

About محمد الرديني

في العام 1949 ولدت في البصرة وكنت الابن الثاني الذي تلاه 9 اولاد وبنات. بعد خمسة عشر سنة كانت ابنة الجيران السبب الاول في اقترافي اول خاطرة انشائية نشرتها في جريدة "البريد". اختفت ابنة الجيران ولكني مازلت اقترف الكتابة لحد الان. في العام 1969 صدرت لي بتعضيد من وزارة الاعلام العراقية مجموعة قصص تحت اسم "الشتاء يأتي جذلا"وكان علي ان اتولى توزيعها. في العام 1975 التحقت بالعمل الصحفي في مجلة "الف باء" وطيلة 5 سنوات كتبت عن كل قرى العراق تقريبا ، شمالا من "كلي علي بيك" الى السيبة احدى نواحي الفاو. في ذلك الوقت اعتقدت اني نجحت صحافيا لاني كتبت عن ناسي المعدومين وفشلت كاتبا لاني لم اكتب لنفسي شيئا. في العام 1980 التحقت بجريدة" الخليج" الاماراتية لاعمل محررا في الاخبار المحلية ثم محررا لصفحة الاطفال ومشرفا على بريد القراء ثم محررا اول في قسم التحقيقات. وخلال 20 سنة من عملي في هذه الجريدة عرفت ميدانيا كم هو مسحوق العربي حتى في وطنه وكم تمتهن كرامته كل يوم، ولكني تعلمت ايضا حرفة الصحافة وتمكنت منها الا اني لم اجد وقتا اكتب لذاتي. هاجرت الى نيوزيلندا في العام 1995 ومازلت اعيش هناك. الهجرة اطلعتني على حقائق مرعبة اولها اننا نحتاج الى عشرات السنين لكي نعيد ترتيب شخصيتنا بحيث يقبلنا الاخرون. الثانية ان المثقفين وكتاباتهم في واد والناس كلهم في واد اخر. الثالثة ان الانسان عندنا هو فارزة يمكن للكاتب ان يضعها بين السطور او لا. في السنوات الاخيرة تفرغت للكتابة الشخصية بعيدا عن الهم الصحفي، واحتفظ الان برواية مخطوطة ومجموعة قصصية ويوميات اسميتها "يوميات صحفي سائق تاكسي" ومجموعة قصص اطفال بأنتظار غودو عربي صاحب دار نشر يتولى معي طبع ماكتبت دون ان يمد يده طالبا مني العربون قبل الطبع. احلم في سنواتي المقبلة ان اتخصص في الكتابة للاطفال فهم الوحيدون الذين يقرأون.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.