لا شك أن التربية المنزليّة تعدّل كثيرا من التربية العامة عندما تختلف عنها، ولكن عموما يحتاج الإنسان إلى دعم الأكثرية ليتمكن من القيام بعمل سيء. الجماعة تستطيع أن تحول رجلا جيدا إلى رجل شرير أكثر بكثير من قدرتها على أن تحول
رجلا شريرا إلى رجل جيد. رغم ما للـ “أنا ” الشخصية من سيطرة على الفرد، تبقى سيطرة الـ “أنا ” الجمعية أقوى وأكثر تحكما! قد يقف ضمير الشخص، أي شخص، بينه وبين القيام بعمل سيء ما، لكن عندما ينطوى هذا العمل تحت لواء الجماعة، قد يتلاشى الضمير الشخصي، ويصبح من السهل جدا على هذا الشخص القيام بما هو مطلوب منه!
….
أنا على ثقة كبيرة من أن أي شخص، حتى لو كان داعشيا، لا يرتكب على مستوى علاقاته الشخصية، ولو
جزء ضئيل من القبائح التي ارتكبها عندما وجد نفسه في حظيرة الجماعة.
….
لذلك، تُلام الجماعة على الجرائم والسلوكيات الخاطئة أكثر مما تلام الثقافة المنزلية، وتُمدح الثقافة المنزلية على الفضائل والسلوكيات الجيدة أكثر مما تستحق الجماعة أن تُمدح، فالفضائل يكتسبها الإنسان عموما من محيطه الضيق ، والرذائل من محيطه الأوسع. لا يحتاج الإنسان أن يفعل المستحيل كي تقبله العائلة، فهو ابنها شاءت أم أبت، ولكنّه قد يفعل كل ما تأمره به الجماعة لينال شرف العضوية فيها! ودائما يثبت ولائه الكبير من خلال القيام بأعمال قد يمنعه ضميره في الحالات العادية من القيام بها. إذ أنه من المعروف والمؤكد أن أية عصابة ولكي تقبل عضوا فيها تأمره أولا بالقيام بجريمة ما، وعندما ينفذ الأمر بدقة يربح عضويته فيها. ولا أعتقد أن اي جماعة تختلف في اسلوبها القمعي كثيرا عن أية عصابة. لذلك قيل: (يحتاج الإنسان الجيد إلى دين كي يقوم بعمل سيء)، والدين ـ أي دين ـ يجسد عادة قيم ومفاهيم الجماعة التي تؤمن به!
……
في المجتمعات الإسلامية بما فيها المجتمعات التي تضم تنوعا دينيا وعرقيا وطائفيا ـ كسوريا والعراق ـ طغت ثقافة الأكثرية السنية بالقوة، وفرضت تلك الثقافة نفسها قسرا على الجميع، الأمر الذي أدى إلى إقصاء الثقافات الأخرى من الحياة العامة.
حاول أتباع الأقليات ـ بالوعي وباللاوعي ـ عندهم أن يقبلوا تلك الثقافة ويجسدوها على أرض الواقع، في محاولة يائسة كي تقبلهم الأكثرية في حظيرتها. وكان من أهم نتائج هذا الرضوخ أنهم بدأوا يفقدون يوما بعد يوم الخصائص الثقافية التي كانت تميزهم. ليس هذا وحسب، بل انه ورغم الإنصياع المطلق ظلت تلك الأكثرية ترفضهم وتخوّنهم وتعتبرهم جسما غريبا يهدد وجودها ونقاوتها! لقد كان هناك علويون أشداء في المعارضة السورية، ولكن ـ بناءا على ما أكده لي أحدهم ـ كانوا يُعاملون كدخلاء غير مرحب فيه، ويُنظر إليهم بعين الشك والريبة.
….
في المجتمعات الحرة التي تحترم انسانها بغض النظر عن انتماءاته، يؤدي تفاعل الثقافات المتنوعة فيها إلى ثقافة عامة تأخذ من كل واحد أفضل ماعنده! أفضل الكتب الفلسفية والوجدانية التي قرأتها في أمريكا هي تلك الكتب التي ألفها يهود ومسيحيون تأثروا بثقافات الشرق الأقصى وخصوصا البوذية والهندوسية. هؤلاء المفكرين أعطوا اليهودية وكذلك المسيحية أبعادا فلسفية مستنبطة من تلك الثقافات التي تأثروا بها، الأمر الذي مدّ بعمر الدينين وجعلهما أقل حرفيّة، وبالتالي أكثر قبولا وقابلية للحياة في القرن الواحد والعشرين.
مسيحيو الشرق الأوسط ينتقدون وبشدة أحيانا مسيحية أمريكا، دون أن يدركوا أنه لولا مسيحية الغرب وتحديدا أمريكا، لكانت
المسيحية بشكلها الشرق اوسطي أقل قبولا في العالم.
……
وحده الإسلام ظل عصيّا على الاختلاط ، محاولا أن يفرض ثقافته السنية بالقوة، مقصيا أية ثقافة أخرى تتواجد معه.
لهذا السبب بالذات هو مهدد بالإنقراض، وسينقرض حتما لو استمر الوضع على حاله!
…..
رغم أن المسيحي الشرقي لا يخضع للتعليم الاسلامي بشكله الرسمي، والذي يقتصر حصرا على المفهوم السني، لكنه كأي واحد ينتمي إلى أقلية أخرى تأثر إلى حد ما بهذا النمط الثقافي. ليس هذا وحسب، بل مازال يتودد بمناسبة وبدون مناسبة إلى القطيع كي يقبله في حظيرته.
منذ أيام زار بابا الأقباط الفاتيكان وعبر هناك عن أسفه الشديد لأن داعش “تشوه” التاريخ الاسلامي؟؟؟ المفكر المصري الكبير والسياسي اللامع مجدي خليل، كتب تعليقا على صفحته، تعليقا يجسد تلك الحقيقة، وبروح فكاهية اعتدنا عليها من الأخوة المصريين. قبل أن أذكر التعليق أود أن أذكركم بأن السيد حامد عبد الصمد هو استاذ وباحث في حقيقة التاريخ الاسلامي،
ومن اصول سنيّة. جعل رسالته في الحياة أن يبرهن باسلوب علمي ومقنع جدا على قباحة هذا التاريخ. يتساءل دائما: (كلما تناولت أحدا في نقدي للاسلام يرد عليّ العامة من أهل السنة هذا الشخص لا يمثل الاسلام، ويتابع: أرجوكم دلوني على من يمثل الاسلام كي أحاوره) فجاء تعليق الاستاذ مجدي خليل على هذا الشكل: (ها نحن الأقباط نقدم للاستاذ حامد عبد الصمد من يمثل الاسلام)! وطبعا هو يقصد “بابا الأقباط”!
تأكيدا على تعليق الأخ مجدي خليل، لا يسعني إلا أن أقول لا أحد في حقيقة الأمر شوه التاريخ الاسلامي أكثر ممّا شوهه بابا الأقباط في عبارته تلك! ويبقى السؤال: هل تتوقعون أن يثني الأزهر يوما على موقف البابا هذا؟
طبعا لا…. فلو تعلق بابا الأقباط بحبال الكعبة سيظل نصرانيا كافرا!
…..
ويبقى السؤال: لماذا إذن هذا التملق؟؟ هل هو الخوف، أما خاصية الانصياع التي تلزم الفرد أن يخضع للأكثرية؟؟ وخصوصا في مجتمع قمعي كالمجتمع المصري؟؟؟ منذ أن فتح عمرو بن العاص مصر وحتى تاريخ اليوم والسنة في مصرون يطلقون على الأقباط وبكل وقاحة “اصحاب العظم الأزرق” لماذا؟ لأنه بعد الغزو الاسلامي لمصر فرض الغازون الجدد على أهل البلاد الأصلين، ووفقا للعهدة العمرية، أن يلبسوا في رقابهم سلاسل ثقيلة تحمل صلبانا كبيرة لكي تميزهم عن المسلمين الغازين.
كانت تلك السلاسل تترك كدمات زرقاء حول رقبة المسيحي، نتيجة للضغط الشديد التي تحدثه على الجلد
بناءا على تلك الحقيقة المؤلمة، من يشوه التاريخ الاسلامي بابا الأقباط أم داعش؟؟؟
…….
كنت استمع مرة إلى مقابلة مع ابن أخ الموسيقار فريد الأطرش، وهو بالطبع من أبناء الطائفة الدرزية وسواء اعترف الأخوة الدروز أم لم يعترفوا جهرا، الدروز ليسوا مسلمين ولا يمتون بصلة للاسلام، أقولها من منطلق احترامي لهم. المهم في نهاية المقابلة، وقف السيد الأطرش وقال لمقدم البرنامج بدون أي مناسبة: دعني أنهي تلك المقابلة بقولي :أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله (!!!!!!)
ما الذي دفعه إلى أن يقول ذلك؟؟؟ لا شيء، بل محاولة يائسة لتبني ثقافة القطيع كي يضمن أن يقبله هذا القطيع! لو كان في أي بلد يحترم حق الآخر في أن يؤمن بما يشاء لكان من المستحيل أن يقولها، إلا ـ اللهم ـ إذا غير دينه عن رضى وطواعية ودخل الدين الآخر.
…
يصلي بشار الاسد في جوامع السنة، واضعا يديه فوق بعضهما البعض على بطنه، وهي إشارة إن دلت على شيء فهي تدل وتبرهن على صحة ما أطرحه. أين الخلل لو وقف بشار الأسد في الجامع مسبلا يديه إلى طرفيه؟؟ لو فعل ذلك لأثبت أننا نعيش في بلد يحترم خصوصيات كل طائفة، ولكنها إشارة خفيّة على أننا نعيش في مجتمعات لا تقيم وزنا لأحد من أقلياتها.
والمضحك المبكي، هو بفعلته هذه هل قبلته تلك الأكثرية في حظيرتها؟ هل رحبت بانصياعه؟؟؟ طبعا لا…
فما زالت تلك الأكثرية تعتبر الحكم في سوريا “نصيّريا” ومسؤولا دون أي حكم سني آخر عمّا يحصل!!!
(ملاحظة: أنا لا اؤمن باله العلويين ـ ناهيك عن اله السنة ـ فلا تظن أنني أدافع عن صلاة العلويين، إنه مجرد تساؤل مستحق من قرون)
هذا من جهة ومن جهة اخرى، قام المقبور جميل الأسد إرضاءا لأسياده في طهران باغراق بعض القرى العلوية بالكثير من الجوامع، والسؤال: لماذا لم يخطر ببال الرئيس بشار أن يصلي يوما في أحد هذه الجوامع؟؟؟ علما، بأنني لم أر يوما حاكما سنيّا في اي بلد إسلامي آخر يصلي بين العامة في الجوامع بما فيهم حامي الحرمين “الشريفين”! فلماذا هذه المبالغة في تقديم براهين الولاء؟؟؟؟
…….
ألم أقل لكم إنه القمع الذي تمارسه علنا وخلسة ثقافة الأكثرية؟؟؟
*******************************
أعزائي القرّاء: للموضوع صلة، وسأتابع الطرح حتى تكتمل الفكرة… اشكر صبركم ومتابعتكم..
مواضيع ذات صلة: فقه الاغلبية والأقلية